الشعر... الذات... الحياة

نشر في 07-09-2011
آخر تحديث 07-09-2011 | 00:01
 زاهر الغافري لا يُمثل الشعر مصالحة مع الذات، إلا على المستوى الخارجي، إنه على الارجح وفي مستواه العميق، توتر، ونداء لما هو غائب وخفي، وفي ظني ان المفارقة على هذا المستوى، هو أن الشعر لا ينبثق إلا من شيء يكاد يكون محسوساً، لذلك فهو ينطوي على صلابة من نوع ما، حتى لو كان يقارب موضوعات تبدو تجريدية، كالفقدان والحنين والحب والموت، والعزلة والنسيان إلخ، فهذه الثيمات تنتمي عميقاً إلى صلب هذا الحلم الشاسع الذي نسميه الحياة، كنتُ ومازلتُ أؤمن بأن الشعر يكمن في قلب الحياة، بما هو امساك باللحظة الزمنية، وبالنسبة لي شخصياً لم أكتب الشعر بالمصادفة، إذ كانت تجربة السفر والترحال المبكر منذ أواخر الستينيات حتى الآن، إحدى هذه اللحظات الشعرية الرائعة التي صاحبتني وما تزال، لذلك لم أكن أفرق كثيراً بين تجربة الكتابة الشعرية وتجربة الحياة، وإذا كانت اللغة هي مسكن الشاعر ومنفاه فإن الحياة هي منزل اللغة والشاعر معاً، هذا المنزل البالغ الثراء والخصوبة. لا يبحث الشاعر عن الشعر، أنه يراه، أنه هنا وهناك، وهنالك، ما يمكن أن يبحث عنه الشاعر هو شفافية من نوع خاص تجاه العالم، تحمي روحه من السطحي والمبتذل والمزيف، أحسب لهذا أيضاً أن الشعر في عالمنا المعاصر الشديد التعقيد يُطل علينا بزاوية منحرفة لأن المجهول ما يزال. وأظن أن فكرة الشاعر هي تلك المحاولة الدؤوبة للإمساك بجمرة الحياة. قال الأرجنتيني العظيم بورخيس مرة، ما معناه أننا عندما نبحث عن الشعر نبحث عن الحياة والحياة مكونة من الشعر لذلك فالشعر ليس غريباً أنه يترصد عند المنعطف ويمكن له أن يبرز أمامنا في أي لحظة بهذا المعنى، بهذا الاقتران الحميم بين الشعر والحياة على الصعيد الجمالي فإن الشعرية تتجاوز اللغة بمعناها الاصطلاحي أيضاً، غير أن ما نسميه بالواقع هو هذه الفسحة المقرونة بعناصر الشرط الإنساني وطالما كان الشرط الإنساني قاسياً وصعباً وله اشتراطات خاصة فإنه يفرض على الشاعر في أكثر الأحيان أن يتعامل معه بكيفية أو أخرى، على نحو غير متعالٍ على شروط الواقع وبُناه المتبدلة باستمرار. وفي ظني أن الواقع هو المحفز الأكثر إثارة لعناصر التجربة الشعرية، دون أن يكون هناك تطابق تام بين الاثنين كما أن هذه العملية لا تتم وفق شروط آلية ناجزة، فالمخيلة الإبداعية في نهاية المطاف تمتلك ضوءها الخاص وهي ما يُشكل رافعة جمالية على مستوى الحياة. من هنا ينبغي القول أيضاً أن الكتابة هي على الأرجح فعل إنصات، إنصات للذات وللآخر لنقل أن هناك نوعا من التبادل الخفي، نوعا من التواطؤ الخلاق إن صح القول بين الشاعر والمتلقي، الكتابة الشعرية بهذا المعنى فعل تجاذب وطريقة للنظر ومسار للمعرفة، وهي قبل هذا وذاك فعل من أفعال الحياة، ربما قربتنا الكتابة الى لحظة من لحظات الجمال والألم ربما غسلتنا من الداخل مثل موجة تقترب وتبتعد. وقد يُشكل فعل الكتابة نوعاً من التعري والكشف، لذلك تمتلك الكتابة الشعرية على نحو خاص هاتين الصفتين صفة «البراءة» و»اللعب» بالمعنى الجمالي للكلمة. وعبر اللغة التي هي أشد المقتنيات خطراً وفق هولدرلين يصبح فعل الكتابة وجوداً حيوياً في قلب الحياة.
back to top