نقاد وأدباء يرثون الراحل: مالك الحزين لا يموت
يظل الطائر الأسطوري مالك الحزين محلقاً في آفاق البشرية رغم أن الموت غيب من كتبوا عنه وتناولوه في إبداعاتهم وأولهم مؤلف كتاب "ألف ليلة وليلة" وآخرهم المبدع إبراهيم أصلان، الذي أخرج ذلك الطائر من إطاره الأسطوري الناطق بالحكمة ليتجول في شوارع إمبابة والكيت كات (من أشهر الأحياء الشعبية في القاهرة)، وليحمل أصلان اسم وسمة هذا الطائر بعد كتابة روايته الأشهر "مالك الحزين"، أعدها نقاد وقراء الأدب من أفضل الروايات المعاصرة وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي بنفس الاسم واختير في قائمة أحسن 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، ينضح إبداع أصلان بالحكمة، وإن لم يكتبها مباشرة أو يتعمد قولها بل يخفيها في التفاصيل الصغيرة التي يقتنصها من قلب الحياة ومن وراء لهاث رجل الشارع العادي سكنته روح تشيكوف طويلا منذ أن قرأ له قصة موت موظف وهو مشغول بالهموم الحياتية، لكنه حافظ على عدم الغرق فيها، فكانت شخصيته المتفردة في "بحيرة المساء". وكان أصلان يردد دائماً "اجعل مسافة بينك وبين الناس حتى لا ينكسر قلبك" هذه المقولة الأشبه بالحكمة اكتسبها بخبرته ومعايشته للتفاصيل وعمق ذلك من رؤيته البارزة في كتابته للقصة القصيرة يقول: أنا بطبيعة تكويني مشغول بالتفاصيل، وعندما نتحدث عن القصة القصيرة أو الرواية، فالقصة القصيرة ليست مجرد حدوتة صغيرة تكتب ولكنها إطار يكون موجودا داخل الكاتب، وهذا الإطار هو وسيلته في تلمس التفاصيل التي حوله، أي وسيلته في تكوين معرفة مثل الفلاح في أرضه، فعبر علاقته بالأرض والفأس والري والحصاد والحرث هذه تكون معرفته، وليست مثل العالم الجالس في المعمل مع قواريره.
ورغم كتابته للرواية يقول: القصة القصيرة هي الإطار الذي من الممكن أن أودعه أحلامي، وما يستوقفني من شؤون هذا العالم الذي أعيش فيه، فأنا عندما أكتب رواية فأنا أكتبها بمزاج كاتب القصة، وأنا أجد نفسي في الكتابة بشكل عام، ولكن الإطار المناسب بالنسبة لي هو القصة القصيرة.حياة حافلةحياة أصلان حافلة بالإبداع رغم قلة إصداراته، بدأ الكتابة والنشر في عام 1965، من أعماله التي مثلت علامات مضيئة في مجرى الإبداع الروائي والقصصي في الأدب العربي الحديث: "مالك الحزين"، ورواية "عصافير النيل"، و"وردية ليل"، ومن مجموعاته القصصية "يوسف والرداء"، و"قلوب خالية"، و"بحيرة المساء"، وآخر أعماله المنشورة كانت متوالية قصصية بعنوان "حجرتان وصالة"، وصف العديد من النقاد والأدباء أعماله بالأيقونات الإبداعية ويعتبرونه الرمز الأبرز لجيل الستينيات ذي البصيرة الإبداعية الهائلة.قال عنه الروائي الكبير عبدالوهاب الأسواني: "لا أصدق أن إبراهيم أصلان قد رحل، فقد كان مثالا للكاتب الشفاف الذي لا مطمع له في شيء غير أن يقدم فنا جميلا، هذا الرجل الذي رحل لو كان يملك جناحين أحدهما غطى نصف الأرض الغربي والآخر غطى نصفها الشرقي لكي يستظل ويستدفئ بهما من يريد الظل لفعل ذلك دون تردد، لقد رحل الرجل الكاتب الفنان الذي طوّر في فن القصة القصيرة دون أن ينتظر أي شيء من عائد، اللهم انه كان يمتع نفسه وفي نفس الوقت تتملكه الرغبة التي تتملك كل فنان وهي الرغبة في إمتاع الآخرين، وإذا كان أصلان رحل فعلا بجسده فإن روحه ستظل معنا طالما نحن ندب على الأرض".بينما قال الشاعر شعبان يوسف: "لا تكفي كل كلمات الأسى لتوديع إبراهيم أصلان الكاتب الذي ترك فراغا مهولا، وهو أحد أعمدة هذا العالم الفني المترامي، وهو العنوان الرئيسي لجيل الستينيات لا تستطيع إدراك قوة إبداع هذا الجيل دون قراءة إبراهيم أصلان، لذلك فأبناء جيله احتفلوا به قبل أن يصدر مجموعته الأولى "بحيرة المساء" وأعدوا ملفا رائعا عنه في مجلة جاليري 68 وكتب عنه بكل حب إبراهيم فتحي وغالب هلسا وخليل كلفت، ونشرت له المجلة 5 قصص، هذا لأن ابراهيم كان المساحة البيضاء والنقية في جيل الستينيات، ينطوي على نبل الكاتب قبل حرفته، ويملك روح الدعابة والجسارة، واستطاع وحده أن يشيد عالما قصصيا فريدا، هذا العالم الذي انتصر بجمال نادر للفقراء والمطحونين، لم يكن انتصاره لهذه الفئة يصدر عن افتعال ولكنه كان مؤمنا بأن هؤلاء المطحونين هم الحياة نفسها وهم الجمال ذاته الذي صنع وأبدع منهم أسطورته الفنية.صيغة الغائبوقال الروائي أحمد زغلول الشيطي: "من الغريب أن أتكلم اليوم عن أصلان بصيغة الغائب، فقد كان حاضرا دائما منذ وعيت فعل القراءة والكتابة الملغزين، لقد أذهلني حين قدمت له مخطوطة الرواية الأولى وكنت آنذاك شابا قادما من الإقاليم مازالت رائحة قطار الدرجة الثالثة عالقة بملابسه، قرأ الرواية وفوجئت بتصريح له في الصحف عن أفضل الأعمال التي قرأها لعام 1989 كانت: "الحب في زمن الكوليرا" لماركيز ومخطوطة لكاتب شاب اسمه أحمد زغلول الشيطي، ولم يكن العمل قد نشر أصلا، لكنه الإيمان الشخصي بضرورة وجدوى ما يفعل حتى لو كان لا يعني إلا القليلين أو حتى لا يعني أحداً إطلاقا، لقد ظلت هذه النزاهة الشخصية ملازمة له حتى صار تجسيدا لسقف من القيم الجمالية والمعرفية والخلقية، تلك القيم التي رسخها جيل الستينيات الأدبي وكان أصلان أصفى تمثيل لها، ولذلك ليس من الغريب مع كل عمل جديد أكتبه أن يتسلل إلى نفسي سؤال صامت: كيف سيرى أصلان عملي؟". من جانبه، قال الكاتب الروائي عزت القمحاوي: "نعرف أن الموت أوضح وأسوأ حقائق الوجود، لكننا مع بعض البشر نحاول أن نتناسى هذه الحقيقة حبا بهم أو حبا بأنفسنا، وإبراهيم أصلان من هذا النوع، وكنت أستبعد موته للسببين، فمن جهة لا يمكن أن تعرف أصلان وتتمنى أن يغيب، ومن جهة أخرى فإننا نشعر بالأمان في وجود بعض العلامات التي تقول لنا إن الزمن لا يتقدم، وأصلان علامة على عصر، وكان للمصادفة الحلوة لا يكبر أبدا، ظل لوجهه صفاء الطفولة ولتصفيفة شعره مظهر الشباب".وأضاف القمحاوي متحدثاً عن أصلان: "الكاتب الذي يسكنه شديد الرهافة، يترك القارئ دائما متشوقا للمزيد، يعرف متى يتوقف، كان يحلو له في حواراته أن يرجع اختزال كتابته إلى عمله بالتلغراف، حيث ينبغي أن تدفع على كل كلمة زيادة، هذا هو تفسيره، بينما من يعرف قراءات أصلان يدرك تماما أنه تعلم هذه الرهافة من طول مصاحبة الكبار الذين أحبهم مثل هيمنغواي وتشيخوف، لديه اختزال هيمنغواي وحنان تشيخوف على شخصياته، لم يكن معنيا بمراكمة النصوص ولا الأموال، وأما فتنة أصلان فتنبع من كونه متمردا على قناع الكاتب.وذكر: كان مواطنا تصادف أنه يكتب، مواطن حسن المعشر، شديد العذوبة في الكلام، يترك الفواصل الواسعة لمن يحدثه كي يشارك مثلما يترك للقارئ مساحته. وكان دائم الاستعداد للدهشة، ربما لهذا عاش محبوبا بين عمال وصغار موظفي حيه الكيت كات الذي غادره مضطرا إلى المقطم منذ سنوات قليلة بعد أن أوشك بيته هناك على الانهيار".وتابع القمحاوي: "في أزمة وليمة لأعشاب البحر التي نشرها تحت إشرافه كنا مجتمعين لمؤازرته ضد دعوات الأصوليين، وعندما انصرف أصابنا الخوف عليه لأنه سيعود إلى الحي الشعبي وقد يفاجئه أحدهم بطعنة كما فاجأ نجيب محفوظ، لكنه كان يعرف من يعيش بينهم أكثر مما نعرف، انصرف وعاد في اليوم التالي ليحكي لنا أن الساهرين على المقهى استقبلوه بالأحضان: ولعتها يا برنس؟!".محمود الورداني اعتبر: رحيل صاحب "مالك الحزين" مصابا شخصيا، ولم يكن متوقعاً رغم أن حالة أصلان الصحية لم تكن مستقرة، فكان في حيوية دائمة حتى في آخر لحظات حياته، وداوم على كتابة المقالات وحتى الكتابات المشاغبة والشقية، لذا رحيله مصاب كبير لأننا فقدنا واحدا من أهم رموز الأدب، إذ تعد أعماله أيقونات مشغولة بحرفية فنية وشجن.نبذةولد إبراهيم أصلان بمدينة طنطا بمحافظة الغربية في عام 1935، ثم انتقلت أسرته إلى حي إمبابة الشهير بمحافظة الجيزة، وبعد أن أتم دراسته، عمل بهيئة البريد والاتصالات السلكية واللاسلكية.بدأ أصلان الكتابة والنشر في عام 1965، وفي عام 1969 أصدرت عنه المجلة الطليعية (جاليري 68) عدداً خاصاً تضمن نماذج من قصصه ودراسات حول هذه القصص.وفي عام 1987 تم انتدابه للعمل نائبا لرئيس تحرير سلسلة "مختارات فصول"، واستمر بها إلى أن أحيل إلى المعاش في عام 1995، في عام 1997 عمل رئيساً لتحرير سلسلة "آفاق الكتابة"، واستمر بها إلى أن استقال منها في عام 1999 عندما اشتعلت أزمة رواية "وليمة لأعشاب البحر"، وكان آخر مهامه الثقافية الجليلة إشرافه على اللجنة العليا لمشروع مكتبة الأسرة، في تشكيلها الجديد بعد ثورة 25 يناير.من أعماله: "مالك الحزين"، التي تحولت إلى فيلم سينمائي بعنوان "الكيت كات"، ورواية "عصافير النيل"، و"وردية ليل"، ومن مجموعاته القصصية "يوسف والرداء" و"قلوب خالية" و"بحيرة المساء"، وآخر أعماله المنشورة كانت متوالية قصصية بعنوان "حجرتان وصالة" عن دار الشروق.