عن رجل رحل... ولم يترجل!

نشر في 03-11-2011
آخر تحديث 03-11-2011 | 00:01
No Image Caption
 أ. د. محمد جابر الأنصاري فكرة العنوان مستقاة من عنوان مقالة كتبها الدكتور عبدالمحسن بن فهد المارك، سفير خادم الحرمين الشريفين لدى مملكة البحرين، وتم نشرها في الصحف البحرينية.

وفي المقابلة التلفزيونية التي أجراها الإعلامي السعودي القدير الأستاذ محمد رضا نصرالله، كانت لدي أفكار عدة عن الفقيد الكبير، خصوصاً أن المقابلة جرت بعد وصول جثمانه- رحمه الله- إلى الرياض بساعات، وكانت القلوب خاشعة ومشهد خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، وهو بالكمامة الصحية على وجهه، يلفت الأنظار وذلك بعد إجرائه العملية الجراحية التى تكللت بالنجاح- ولله الحمد- لكنه أصر على الذهاب إلى قاعدة الرياض الجوية لاستقبال جثمان أخيه وولي عهده سلطان بن عبدالعزيز، رغم نصيحة الجميع له بعدم الخروج، غير أنه الوفاء الأخوي والإنساني الكبير الذي جعل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، يحرص على ذلك والمخاطرة بصحته التي تهم الجميع.

أقول: كانت لدي أفكار عديدة عن الراحل الكبير في تلك المقابلة التي أدارها باقتدار الأستاذ محمد رضا نصرالله، ولكن بسبب تزاحم المشاركين من معظم الأقطار العربية لم يسمح الوقت بطرحها مجتمعة، فكان لا بد من هذه المقالة.

وأولى هذه الأفكار عن طبيعة النظام السياسي الذي أنجب إنساناً ومسؤولاً كسلطان بن عبدالعزيز.

ولابد هنا من كلمة عامة عن الأنظمة الخليجية التي تتماثل مع النظام السعودي. إن النظام السعودي والبحريني والإماراتي والكويتي- مثلاً- هي أنظمة خرجت من النسيج المجتمعي ومن الناس، ولم تأتِ على ظهور الدبابات، وشاركت الجميع- في الماضي- في شظف العيش وفي الصبر كما فعل الملك عبدالعزيز آل سعود، والشيخ زايد بن سلطان- رحمهما الله- فأعطيا مثالاً حياً لمن جاء بعدهما من الأبناء والأحفاد، وهذا ينطبق على النظامين البحريني والكويتي، فوجدنا رجال حكم ورجال سلطة يختلفون عن أمثالهم في أي مكان. وكان سلطان بن عبدالعزيز، رحمه الله، واحداً من هؤلاء.

جمع الأمير سلطان بين العمل القيادي في الدولة والاهتمام الإنساني بحاجات الناس، وكان هذا الجمع يلخص الدور الذي اضطلع به سلطان في تاريخ بلاده.

وأبرز ما يُذكر له رحمه الله، بحكم إشرافه على وزارة الدفاع لما يزيد على العقود الأربعة، أنه حوّل الجيش السعودي التقليدي إلى قوات نظامية حديثة، وأهمية ذلك لا تنحصر في الناحية العسكرية، لكنها تمتد إلى الجانب الاجتماعي الذي يشهد اليوم إصلاحات جذرية على يد الملك عبدالله بن عبدالعزيز.

كما عكف الأمير سلطان- رحمه الله- على "ملف اليمن" في وقت مبكر، فكان رجل السعودية في اليمن، ورجل اليمن في السعودية... سيان.

بالإضافة إلى هذين الإنجازين الاستراتيجيين كان اهتمامه بالتطوير الإداري والمهني، وبالشأن الثقافي، والشأن الإنساني الكبير.

وهنا لابد من التوقف أمام "الموسوعة العربية العالمية" التي كان وراء إمكان إصدارها دعم الأمير سلطان. ظل العرب طوال العصر الحديث، ومنذ بدء عصر النهضة الأولى، يفتقرون إلى  "موسوعة عربية"، ورغم ما أنشؤوه من إدارات ثقافية فإنها لم تتمكن من إصدار "موسوعة"، بالمعنى الكامل.

وصلتني "الموسوعة العربية العالمية"، في أكثر من عشرين جزءاً وكانت من المفاجآت الكبيرة الجميلة في حياتي الثقافية، ومازلت أعتمد على معلوماتها الوثيقة كلما احتجت إليها.

كما أن الأمير سلطان قدم دعماً كبيراً لإشاعة استخدام اللغة العربية في اليونسكو بباريس، كما أشار إلى ذلك في "الحياة" المثقف السعودي النابه زياد الدريس، وفي موسكو جاء من الأمير سلطان دعم مماثل لإنشاء "المعهد الدبلوماسي" هناك.

ولم يقف الأمير سلطان بن عبدالعزيز عند هذا الحد، بل أنشأ مؤسسته الإنسانية الخيرية التي قدمت دعماً للجامعات، ومن ضمنها جامعة الخليج العربي بالبحرين التي تلقت دعماً مشهوداً في مجالي صعوبات التعلم وشؤون المعاقين.

وهناك كلمة لرفيقه وأخيه، رجل الوفاء الأمير سلمان بن عبدالعزيز تلخص بإيجاز بليغ إسهامات "سلطان الخير" في العمل الإنساني. يروى عن سلمان قوله: "كان سلطان مؤسسة إنسانية خيرية متنقلة".

وعلى كثرة الحديث عن إنجازات الراحل الكبير وإسهاماته فإن رعايته لأبنائه وحسن توجيهه لهم لم تبرز، ولكن (الولد سر أبيه) كما يقال.

وأعرف أن للأمير سلطان بن عبدالعزيز أبناء وبنات كثيرين ولا أعرفهم جميعاً، لكني أود أن أذكر اثنين خدما بلادهما وأمتهما العربية. أولهما الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز، الذي برز كقائد عسكري متميّز في حرب "تحرير الكويت"، بل كان أبرز قوادها العرب، ومن الممتع قراءة كتابه المهام "مقاتل من الصحراء" الذي سجل فيه الخلفية العائلية وإحداثيات الحرب، ولا غرو فهو "ناشر" لأكثر الصحف العربية مصداقية "الحياة". كما تولى الأمير خالد أخيراً رئاسة مجلس إدارة "مؤسسة سلطان بن عبدالعزيز الخيرية.

أما الثاني من أبنائه- وليعذرني الباقون الكثر بارك الله فيهم- فهو الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز، شفاه الله، وهو عسكري بالمران والتدريب، لكنه برع في الدبلوماسية الدولية، عندما عمل سفيراً لبلاده في واشنطن. وله الكثير من المواقف والإنجازات في هذا المجال، يعرفها الذين تابعوه وعرفوا قيمة عمله وجهده.

وبخلاف التوقعات في المنابر الإعلامية المغرضة، فإن السعودية، بحسم الملك عبدالله بن عبدالعزيز وتوافق هيئة البيعة، قد اختارت الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود ولياً للعهد، بعد أيام من وفاة الأمير سلطان، وكما قالت العرب قديماً: "إذا مات منّا سيّد، قام سيد".

والسيد الذي قام رجل معروف سعودياً وخليجياً وعربياً ودولياً، وله مواقف مشهودة داخل بلاده وخارجها، وننتظر تحقيق الكثير على يديه كعضد للملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، الرجل الذي أثبت للجميع أنه قائد كبير، وإنسان عطوف، بأبناء شعبه.

إن نايف بن عبدالعزيز؛ باختصار، هو خير خلف لخير سلف.

* مفكر من البحرين

back to top