الثورة العربية الكبرى (1916- 1925)(3/4)... الغرب يتقاسم الكعكة العربية ويقمع المقاومة بوحشية
نستكمل في الحلقة الثالثة من الثورة العربية الكبرى قصة الطموحات العربية في الاستقلال عن الدولة العثمانية، والاستنجاد بالغرب الذي سرعان ما اعتبر البلاد العربية غنيمة وأخذ يقسمها ويوزعها على دوله فكان أن خسر العرب كل شيء، الاستقلال والحرية.
ما كاد الترك يرحلون عن بلاد الشام، حتى قام الفرنسيون يطلبون تنفيذ أحكام اتفاقية سايكس بيكو، لكي يُعهَد إليهم بإدارة الساحل السوري، والمناطق التي قُسِّمت لهم بموجب الاتفاقية، فماطلهم الإنكليز بعض الوقت، ثم وقعوا معهم اتفاقاً في 30 سبتمبر سنة 1918، لتنظيم إدارة الشام، وتوزيع الأدوار بينهم دون استشارة العرب، لحين البت في مصيرها نهائياً، وحصر السلطة العليا ـ سياسياً وعسكرياً ـ في يد الماريشال اللنبي، على أن يلحق به مندوب سامي فرنسي يلقب بـ «مستشار سياسي خاص»، لاستشارته في إدارة منطقة الساحل السوري، ويحق لهذا المستشار إنشاء ملكية في هذه المنطقة، وتعيين ما يشاء من موظفين، وأسندت مهمة المستشار هذه للمسيو جورج بيكو المندوب السامي الفرنسي في الشرق، وهو نفسه الذي وقع اتفاقية تقسيم بلاد العرب مع نظيره الإنكليزي سايكس.بعد هذا الاتفاق قسمت البلاد السورية إلى ثلاث مناطق، أعلنت يوم 22 أكتوبر سنة 1918، الأولى تشمل فلسطين حتى نهر الأردن، وتضم لواء القدس ونابلس وعكا، وتخضع للإدارة الإنكليزية، وعين الجنرال «بولز» حاكماً عليها، والثانية تشمل ولاية سورية القديمة، وتركت للأمير فيصل، أما المنطقة الثالثة فكانت تضم جبل لبنان ولواء بيروت وطرابلس واللاذقية وأنطاكية والإسكندرونة وحلب، ووضعت تحت النفوذ الفرنسي.وفي 5 أكتوبر وصل الجنرال اللنبي إلى دمشق، كما وصلها المندوب السامي الفرنسي بالنيابة، واعترض على تعيين شكري باشا الأيوبي حاكماً على بيروت، وأبلغه الأمير فيصل بأن حق تعيين الحكام قاصر على القائد العام فقط.وفي 9 نوفمبر سنة 1918، تم إنزال العلم العربي من على مقر الحكم في بيروت، وتم رفع العلم الفرنسي، وفي اليوم التالي (10 نوفمبر) وصلت إلى بيروت فرقة عسكرية فرنسية كانت مُلحقة بجيش اللنبي، وفي 11 نوفمبر احتل الفرنسيون اللاذقية، وفي 24 منه احتلوا إسكندرونة، ثم احتلوا أنطاكية في 7 ديسمبر.مؤتمر الصلحفي هذه الأثناء، كان مؤتمر الصلح الشهير قد بدأت جلساته في فرنسا، وأرسل الشريف حسين إلى ابنه فيصل يطلب منه الذهاب إلى المؤتمر، وكان وقتها في حلب، فغادرها إلى بيروت، ومنها ركب البحر في 22 نوفمبر، قاصداً مرسيليا.تدخلت الحكومة الإنكليزية لدى السلطات الفرنسية، وقام لورانس (صديقه القديم) بدور كبير في هذه الوساطة، حتى سمحت الحكومة الفرنسية للأمير فيصل بالانتقال إلى باريس، وتم السماح له بحضور جلسة افتتاح المؤتمر في 18 يناير عام 1919، كممثل عن الحكومة العربية ومعه رستم بك حيدر فقط، وجلسا بين مندوبي الدول المتحالفة!بذل الإنكليز والفرنسيون جهداً لإبقاء قضية البلاد العربية بمعزل عن مؤتمر الصلح في باريس، إلاَّ أنهم اضطروا إلى مجاراة الرئيس الأميركي ويلسون، فوافق مندوباهما على عرض القضية يوم 30 يناير 1919، أي بعد افتتاح المؤتمر باثني عشر يوما، بناء على قرار اشترك في توقيعه مندوبو الولايات المتحدة وإيطاليا واليابان، يقضي بفصل أرمينية وبلاد العرب عن تركيا، واستفتاء سكانها في تقرير مصيرها.فيصل - وايزمانفي يوم 6 فبراير 1919، ذهب الأمير فيصل ومعه لورانس العرب إلى المؤتمر لعرض قضية العرب، وتكلم بالعربية نحو 20 دقيقة، وكان لورانس ينقل كلامه إلى الإنكليزية، ولخص مطالبه في ضرورة الاعتراف ببلاد العرب وحدة جغرافية مستقلة برئاسة والده صاحب الجلالة الشريف حسين بن علي.الشيء الذي يجب ذكره هنا، هو أن فيصل خلال وجوده في مؤتمر الصلح، التقى الدكتور حاييم وايزمان رئيس منظمة الصهيونية العالمية، ووقع معه اتفاقية طويلة، أعطت لليهود حقوقاً كثيرة في فلسطين، وهذه الاتفاقية تعد واحدة من وثائق وجود الدولة العبرية في فلسطين، ومن بين نصوص هذه الاتفاقية:أولاً: تُتخذ جميع الإجراءات لتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين ولدى اتخاذ مثل هذه الإجراءات يجب أن تحفظ حقوق الفلاحين والمزارعين المستأجرين العرب، ويجب أن يساعدوا في سيرهم نحو التقدم الاقتصاديثانياً: يجب أن لا يُسن نظام أو قانون يمنع أو يتدخل بأي طريقة ما في ممارسة الحرية الدينية، ولا يطالب قط بشروط دينية لممارسة الحقوق المدنية أو السياسية.ثالثاً: تقترح المنظمة الصهيونية أن ترسل إلى فلسطين لجنة من الخبراء لدراسة الإمكانيات الاقتصادية، وستضع المنظمة اللجنة المذكورة تحت تصرف الدولة العربية، بقصد دراسة الإمكانيات الاقتصادية في الدولة العربية، وأن تقدم تقريراً عن أحسن الوسائل للنهوض بها.عودة فيصل إلى الشاموعاد المؤتمر فنظر يوم 21 مارس قضية البلاد العربية، وقرر استجابة لإلحاح الولايات المتحدة تعيين لجنة دولية من الحلفاء لدراسة مسائل آسيا الصغرى (لجنة تحقيق)، ولم يقابل هذا القرار بالارتياح في الدوائر الفرنسية، فاعترضت عليه، وانتقد الوفد الفرنسي المؤتمر لتسرعه في هذا القرار.ظل الأمير فيصل يتنقل من بلد إلى بلد في سورية، ومن شارع إلى حي، يخطب في الجماهير، ويتفاوض مع الفرنسيين، حتى اقترب موعد قدوم لجنة التحقيق، وكان لابد من وجود ممثلين رسميين عن الشعب العربي في سورية لمقابلتهم والاستماع إليهم، فدعا الأمير إلى انتخاب ممثلين رسميين يجتمعون في دمشق، يبدون رأيهم في مصير سورية، ونوع الحكم الذي يريدونه، ويقدمون مطالبهم إلى اللجنة الدولية المنتظر حضورها، وجرت بالفعل انتخابات طبقاً لقانون الانتخابات التركي القديم، وفي 7 يونيو افتتح هذا المؤتمر رسمياً في دار النادي العربي بدمشق، وافتتحه الأمير بخطبة نارية كعادته.مطالب البلادفي يوم الأربعاء 10 يونيو 1919، وصلت إلى يافا اللجنة الأميركية المنتظرة، وحاول الفرنسيون خلال هذه المرحلة أن يفوزوا بشيء من عطف الشعب السوري، لكنهم فشلوا في ذلك.اتفقت كلمة معظم أهالي فلسطين وجنوب سورية على توكيل المؤتمر السوري العام، وكان ممثلوهم يقولون لرجال اللجنة: «اذهبوا إلى دمشق وقابلوا المؤتمر فهو الذي يتكلم بلساننا».وفي 3 يوليو 1919 قابل رئيس المؤتمر السوري على رأس وفد من 21 عضواً، رئيس اللجنة وسلمه مطالبه، وكانت تتلخص في: المطالبة باستقلال البلاد، وتشكيل حكومة سورية ملكية مدنية، والاعتراض على قرار مؤتمر الصلح بوضع هذه البلاد تحت الانتداب، وعدم الاعتراف بأي حق تدعيه فرنسا في البلاد السورية، ورفض أي يد لها في حكم البلاد، ورفض جعل فلسطين وطناً قومياً لليهود، والمطالبة باستقلال العراق، ورفض أي حواجز بين العراق وسورية، وإلغاء كل المعاهدات السرية التي تمت بشأن تقسيم البلاد وعدم الاعتراف بها دولياً.بعدما أتمت اللجنة مهمتها في دمشق، سافرت إلى بعلبك، ثم قصدت بيروت، وقامت بجولة في أنحاء المنطقة، وكان الرأي الغالب هو رفض الانتداب الفرنسي، فغادرت اللجنة بلاد الشام بعدما قضت 42 يوماً، زارت خلالها 36 بلداً، وتلقت 1836 عريضة، وقالت في تقريرها إن 75.5 في المئة من السكان أجمعوا على هذه المطالب (التي تقدم بها المؤتمر السوري).خاب أمل الفرنسيين في استمالة الشعب السوري، فاتجه نشاطهم نحو لندن، وشنوا حملة في الصحف الإنكليزية ضد الحكومة البريطانية مطالبين بتنفيذ المعاهدات المعقودة بشأن سورية، وطالبت جريدة التايمز البريطانية بضرورة استرضاء الفرنسيين وإجابة مطالبهم.بينما كانت الحملات الصحافية تُشن في صحف بريطانيا لكسب تعاطف الإنكليز مع فرنسا، كان الفرنسيون في لبنان يبثون دعاية من نوع آخر، لتفتيت المنطقة، فتمكن الفرنسيون من حمل مجلس إدارة لبنان على إصدار قرار في 2 مايو 1919، يطالب بتوسيع حدود لبنان، وجعله دولة مستقلة تكون تحت حماية فرنسا، وتم تقديم هذا القرار إلى مؤتمر الصلح.ثم ضغط الفرنسيون على بطريرك الموارنة «إلياس الحويك» للسفر إلى باريس، والمطالبة بإنشاء لبنان الكبير تحت الوصاية الفرنسية، وفي أعقاب ذلك أبرق جورج لويد رئيس وزراء بريطانيا في العاشر من سبتمبر 1919 إلى الأمير فيصل يطلب منه الحضور إلى لندن يوم 16 منه، فغادر فيصل دمشق بعد استلامه البرقية بساعات، وركب من ميناء الإسكندرية باخرة بريطانية، توقفت به في عرض البحر، وكان التوقف مقصودا لتأخير وصوله إلى باريس، التي وصلها يوم 19، وبمجرد وصوله عرف أن كل شيء قد انتهى، وأنه أمام سياسة جديدة تم الاتفاق على تفاصيلها بين حكومتي بريطانيا وفرنسا، وأن فرنسا سوف تحتل البلاد التي خصصت لها بموجب اتفاقية سايكس ـ بيكو.نبهت هذه الحوادث رجال الشام إلى ما يراد بهم، وانتهوا إلى ضرورة وجود قوة كبيرة يعتمدون عليها في نضالهم العتيد ضد «حلفائهم» الفرنسيين والإنكليز، فاتجهت أنظارهم إلى ضرورة إنشاء جيش قوى منظم، ولما كان نظام التطوع الاختياري لا يفي بالحاجة، صدر قانون يقضي بتجنيد كل من بلغ سن العشرين إجبارياً. مشروع فيصل ـ كليمنصوخلال هذه الفترة، كان الفرنسيون قد احتلوا ثلاث قرى من أعمال حمص، ودخلوا بعلبك بثلاثة آلاف جندي، ووسط هذا الجو، غادر الأمير فيصل باريس يوم 6 يناير 1920، إلى بيروت، ومعه مشروع اتفاق مع فرنسا، عرف باسم «مشروع فيصل ـ كليمنصو»، الذي تضمن وجود مستشارين فرنسيين في سورية، لتنظيم الإدارتين المدنية والعسكرية، ويكون للدولة السورية ممثل لدى الحكومة الفرنسية في باريس (!!)، ويعترف صاحب السمو الملكي الأمير فيصل باستقلال لبنان تحت الانتداب الفرنسي.وفي 26 يناير تم تأليف حكومة جديدة في سورية برئاسة الأمير زيد، وكان لقبه «رئيس مجلس المديرين»، وفي 6 مارس اجتمع المؤتمر السوري رسمياً في دار النادي العربي، وحضر الأمير فيصل جلسة الافتتاح.مؤتمر سان ريمووفي 7 مارس 1929 قرر المؤتمر إعلان استقلال سورية بحدودها الطبيعية، والمناداة بسمو الأمير فيصل بن الحسين ملكاً عليها، وكان لقيامها صدى كبير على أكثر من صعيد، وكان مجلس إدارة لبنان هو أول المحتجين، فوضع في 12 مارس قراراً رفعه إلى الجنرال جورو، اعتبر فيه تتويج فيصل ملكاً على سورية مساساً بحرية لبنان وحقوقه، وتدخلاً في شؤون لبنان حيث كان لبنان حتى ذلك الحين جزءاً من سورية الكبرى.ثم أرسل بطريرك الموارنة احتجاجا إلى الجنرال جورو من ناحيته هو الآخر احتجاجا على قرار المؤتمر السوري بتنصيب فيصل ملكاً على سورية، وطالب بأن ينصفَ الحلفاء «الأمة اللبنانية»، ثم أرسل مجلس بلدية طرابلس هو الآخر احتجاجاً على قرار المؤتمر السوري، وطالب بأن تكون سورية الكبرى تحت حماية فرنسا.على أثر ذلك، استدعى رجال الحكم الفرنسيون في لبنان خطباء المساجد وأوعزوا إليهم بأن لا يخطبوا باسم جلالة الملك فيصل، وأن يدعوا للخليفة العثماني محمد وحيد الدين السادس، فأبى الخطباء ذلك، فألقوا القبض على بعضهم وسجنوهم.وفي غضون ذلك، صدر يوم 26 ابريل 1920 قرار مؤتمر سان ريمو (بإيطاليا)، بوضع سورية تحت الانتداب الفرنسي، والعراق وفلسطين تحت الانتداب الإنكليزي، وتنفيذ وعد بلفور.في أعقاب ذلك وصل إلى بيروت اللواء نوري السعيد بصحبة الكولونيل طولا ضابط الاتصال الفرنسي في معية الملك فيصل، للجلوس مع الجنرال جورو، فأبى جورو الحوار معه، وسلمه إنذاراً إلى الملك فيصل، يطلب منه قبول الانتداب الفرنسي دون أي شروط، وإطلاق يد السلطات الفرنسية في سورية، وإلغاء قانون التجنيد وتسريح القوات النظامية، وتسليم كل الذين اشتهروا بعدائهم لفرنسا، ويجب أن تأتيه موافقة رسمية قبل يوم 18 يوليو، وإلا فسيتم احتلال سورية عسكرياً.كانت القوات الفرنسية بدأت بالفعل تنتشر في بعض مناطق سورية وتحتلها، وكل الذي كان يفعله فيصل هو إرسال برقيات الاستغاثة إلى ملوك ورؤساء أوروبا، ثم أرسل موافقة رسمية على كل طلبات جورو يوم 17 يوليو، قبل انتهاء المهلة بيوم واحد، وخلال هذه المدة أصدر الجنرال جورو في 12 يوليو سنة 1920 قراراً بإلغاء مجلس إدارة لبنان.احتلال دمشقأحدث قبول الحكومة الملكية في سورية للإنذار الفرنسي ردود فعل غاضبة بين الجماهير، فقامت المظاهرات الاحتجاجية في عدة مناطق، وسخط الكثيرون على فيصل وحكومته، التي بدأت يوم 19 يوليو في تنفيذ أحكام الإنذار الفرنسي، فسرَّحت الجيش، وقررت تأجيل جلسات المؤتمر لمدة شهرين، وتلا ذلك انفجار حالة من الفوضى والاضطرابات في دمشق، وكانت ليلة حزينة على أهل دمشق.كان المنتظر أن يوقف الجيش الفرنسي زحفَه نحو دمشق بعدما وافقت الحكومة على شروط جورو، إلا أنه واصل زحفه نحو دمشق، وأصبح على بعد ساعات منها، فاقتنع الملك فيصل «أخيراً» أنه مُغرر به من قبل الحلفاء، وأنهم خدعوه، ولم يكن من طريق أمامه سوى إعلان الحرب، فنادى المنادي في أنحاء دمشق لحث الناس على الخروج للدفاع عن دمشق، فتوافد السوريون بالآلاف قاصدين ميدان القتال في ميسلون.معركة ميسلونكانت الخطة العسكرية التي وضعها يوسف العظمة للدفاع عن دمشق قبل أسبوع، تقضي بإنشاء سلسلة حصون حول قرية «مجدل عنجر» المطلة على سهل البقاع، لمنع الجيش الفرنسي من التقدم نحو دمشق، ولكن تم تسريح هذه القوات بعد قبول الإنذار، وتفرق الجند عائدين إلى منازلهم، ولم يبق من مجموع قوات «مجدل عنجر» عندما نودي بالحرب يوم 12 يوليو سوى 60 جندياً، تم حشدهم في ميسلون، ولولا تسريح الجيش لما تشجَّع جورو بدخول دمشق.انتشرت الدعوة للتطوع في أرجاء دمشق، ونفخ في بوق الحرب بعدما اقتحم الجيش الفرنسي «وادي الحرير»، وتقدم باتجاه ميسلون التي تبعد عن دمشق 28 كيلومتراً فقط من جهة الغرب.توالى وصول المتطوعين إلى ميسلون، ووصلوا إلى ثلاثة آلاف خلال يومين، يحملون البنادق العتيقة، من مخلفات الجيش التركي، وجاء يوسف العظمة بنفسه ليشترك في القتال.ومع شروق فجر يوم السبت 24 يوليو أخذت المدفعية الفرنسية تطلق نيرانها بشدة على أماكن المتطوعين، في الوقت الذي كانت فيه عشر الطائرات ترميهم بالقنابل والرصاص، إلى جانب وجود عدد كبير من الدبابات، كانت تتقدم مشاة القوات الفرنسية لتمهيد الطريق لهم، ومع ذلك تصدى لهم المتطوعون، وكان يوسف العظمة يقف على مكان مرتفع يراقب المعركة بمنظار، فجاءته عدة رصاصات أردته قتيلاً في الحال، واستشهد في ذلك اليوم نحو 800 جندي، وهو ما يمثل أكثر من ربع الجيش العربي، بخلاف الجرحى، وسقطت ميسلون خلال ساعات، ورجحت بعض المصادر أن عدد شهداء هذه المعركة لا يقل عن 1500 شهيد.في الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الأحد 25 يوليو 1920، بدأ الجيش الفرنسي في دخول دمشق، وكانت أسواقها ومتاجرها مغلقة، تندب شهداءها، وفي اليوم التالي أذاع الجنرال جوابيه قائد الحملة في دمشق هذا البيان: «بما أن الأمير فيصل جرَّ البلاد إلى شفا الخراب والدمار، فقد جُرِّد من سلطة الحكم، وصدر الأمر بدفع عشرة ملايين فرنك تعويض الخراب وسد الخسارة التي أصابت المنطقة الغربية من جراء العصابات، ونزع سلاح الجيش السوري عامة».وفي مساء 27 يوليو، سلم الكولونيل طولا رئيس بعثة المصالح الفرنسية بدمشق كتاباً إلى الملك جاء فيه: «أتشرف بإبلاغ سموكم الملكي قرار الحكومة الفرنسية، وهي أنها ترجو منكم مغادرة دمشق بأسرع ما يستطاع، بسكة حديد الحجاز مع عائلتكم وبطانتكم، وسيكون تحت تصرف سموكم والذين معكم قطار خاص يبرح محطة الحجاز بدمشق غداً 28 يوليو في الساعة الخامسة مساءً».بعد خروج الملك فيصل من سورية أصبح المندوب السامي الفرنسي هو مصدر كل السلطات في هذا الوقت، فهو الذي يعين رئيس الوزراء والوزراء، وهو الذي يسن القوانين والتشريعات، فتلاشت السيادة السورية تماماً، ونفذ الفرنسيون مشروعهم الاستعماري القديم، فقسموا الشام.في 20 سبتمبر من عام 1920 أعلن الجنرال جورو من قصر الحرش قيام دولة «لبنان الكبير»، مُعلناً بيروت عاصمة لها، وتمثل علم الدولة في دمج علمي فرنسا ولبنان معاً، ووصفت الدولة الجديدة باسم «لبنان الكبير» على أساس ضم ولاية بيروت مع توابعها (صيدا وصور ومرجعيون وطرابلس وعكا) والبقاع مع توابعه الأربعة (بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا)، فاتسعت مساحته من 3500 كلم مربع إلى 10452 كلم مربع، وازداد سكانه من 414 ألف نسمة إلى 628 ألفا.وفي 23 مايو من عام 1926 أقر مجلس الممثلين الدستور، وأعلن قيام الجمهورية اللبنانية، وفي أول سبتمبرعام 1926 نشأت الجمهورية اللبنانية، وانتخب شارل دباس أول رئيس للبنان.في 20 يوليو 1920 استسلمت حلب للجنرال دي لاموت، بدون حرب ولا قتال، فدخلها الجيش الفرنسي، وتم تعيين كامل باشا القدسي واليا على حلب، يأتمر بأوامر الفرنسيين.وفي 23 سبتمبر 1920 أصدر المفوض السامي قراراً آخر بإنشاء دولة العلويين، على أن تكون اللاذقية عاصمتها، تتألف من لواء اللاذقية القديم، وأقضية صهيون وجبلة وبانياس، وجزء من قضاء طرابلس، وجزء من حماة.ظلت الحكومة القائمة في دمشق تحمل اسم الحكومة السورية حتى يوم 3 ديسمبر سنة 1920، ففي ذلك اليوم استقال جميل الألشي من رئاسة مجلس الوزراء، وتم تعيين حقي العظم مكانه، ثم صدر قرار بتحويل الوزارات إلى مديريات عامة، ولقب نفسه بحاكم دولة دمشق، وأقر الفرنسيون ذلك، وبذلك أصبحت دمشق عاصمة من جملة العواصم العديدة التي ظهرت في هذه الفترة.وعلى غير ما توقع الفرنسيون، بدأت الخلايا الوطنية تنشط من جديد، وبدأت سلسلة حوادث سببت للفرنسيين كثيراً من الإزعاج، وبدأت هذه الحوادث بما عُرف وقتها بـ «فتنة حوران»، حيث هاجمت مجموعة من الوطنيين قطاراً كان يقل عدداً من الوزراء والسياسيين الموالين للفرنسيين، وتم الفتك بهم، ثم تلا ذلك تخريب السكة الحديد، وقطع المواصلات البرقية، لكن الفرنسيون جردوا حملة مسلحة مدعومة بالطائرات، قصدت درعا، تمكنت بواسطتها من التغلب على الحركة، فقتلت واعتقلت الكثيرين، وتم تقديم بعضهم للمحاكمة وقضي بإعدامهم.وفي شمال سورية، نشطت تنظيمات مسلحة لمحاربة الفرنسيين، بقيادة إبراهيم هنانو، واتخذت من جبل الزاوية قاعدة لأعمالها، فاستولت على عدد كبير من الحواضر، وهزمت الفرنسيين في معارك عديدة، وبسطت نفوذها على مناطق واسعة، وهددت بالاستيلاء على اللاذقية نفسها، لكن الجيش الفرنسي بما يمتلكه من مدرعات وطائرات تمكن من مواجهة هذه التنظيمات بمنتهى البشاعة.