الأب يوسف سعيد... شاعر الحنين إلى زمن كركوك
توفي في العاصمة السويدية استوكهولم الشاعر يوسف سعيد أحد كبار شعراء الحداثة وآخر عمالقة جماعة كركوك الأدبية، بعد أن ترك خلفه إرثاً شعرياً وأدبيًّا مهماً. هذا الأب الشاعر قال عنه الأديب ميخائيل نعيمة «لم أجد في حياتي كاهناً بهذه الروعة الشعرية العميقة في الحياة».
الشاعر يوسف سعيد من مواليد الموصل ـ العراق 1932، أتمَّ دراسته الأولى والتحق بالكلية اللاهوتية وعين رئيساً روحياً لطائفة السريان في مدينة كركوك العراقية، حيث التقى «جماعة كركوك» الشعرية التي كان لها تأثيرها في مجال الشعر والنقد والقصة والفن التشكيلي والمقالة. كانت تضم التركمان والأكراد والسريان، إضافة إلى شخصيات ذات أصول يسارية غالباً لأن أكثر أفرادها كانوا ممنوعين من الكتابة في الستينيات وخارجين من السجون حديثاً، وعلى رغم تنوّع جذورهم واختلاف انتماءاتهم الاجتماعية والفكرية، فقد جمعتهم روحُ التجديد والرغبة في التغيير، والإصرار على استكشاف مناطق وأدوات أكثر حداثة ومعاصرة في مجال الأدب والفكر.قائمة مؤسسي «جماعة كركوك» طويلة، لكن أشهرهم ربما جليل القيسي (الوحيد الذي لم يغادر مدينته إلى المهجر)، فاضل العزاوي، مؤيد الراوي، سركون بولص، جان دمو، يوسف الحيدري، الأب يوسف سعيد، صلاح فائق (يقال إنه يعيش في الفيليبين)، أنور الغساني، فاروق مصطفى، قحطان الهرمزي (انفصل عن الجماعة عام 1958)، وغيرهم ممن شارك في تأسيس هذه الجماعة، وتواصل معها أو تأثر بها.كان دور الأب يوسف سعيد بارزاً في جماعة كركوك، فهو كان راعي كنيسة تقع قرب ساحة العمال على الشارع المؤدي الى محطة قطار كركوك القديمة، يفتح باب الكنيسة لأصدقائه من الشعراء والأدباء ليتداولوا أفكارهم ورؤاهم في الشعر واكتشاف عوالمه الجمالية والإنسانية والروحية والإبداعية، قال عن أصدقائه: «أغرب ظاهرة في هؤلاء أنهم كرّسوا حياتهم تماماً للثقافة والشعر، يعيشون بزهد، بلا طموحات مادية أو وظيفية، وبقوا هكذا حتى الآن. ما يدهش هو أن هؤلاء جميعاً، حين التقيت بهم، كانوا في قلب الثقافة العالمية، يبحثون عن الجديد. واحدهم يحمل اكتشافه إلى الآخرين من دون أن يفصلهم أي انتماء ديني أو قومي أو سياسي».لكن مع اكتشاف النفط فيها، تحولت كركوك إلى ما يشبه مدينة الخواء الروحي وزاد الطين بلة النظام الصدامي الذي فتك بأنواع الثقافات كافة لمصلحة مشهد صورته البائسة، وباتت مع الوقت أشبه بمدينة الحنين إلى زمن التلقي والتعددية الآفلة، في هذا الإطار ذكر سعيد: «ليتنا نلتقي ونحجّ كل عام إلى تلك المدينة الجميلة ونعقد جلساتنا في باحة تلك الكنيسة أو في بيت أحدنا».من بين جماعة كركوك، يمكن القول إن لكل شاعر مثقف تجربته وصوته، وبحسب نقاد تلك المرحلة كان الأب يوسف سعيد متاثراًَ بالتقليد الصوفي والكتابات في الكتب المقدسة المسيحية، لكن لا توجد في قصائده وحدة الموضوع الشعرية فكان يستخدم الغموض غالباً، وهو حين نشر قصيدته «الحوذيُ الثائر» في جريدة «البلاد» أواخر خمسينيات القرن العشرين، سبب أزمة دفعت بمديرية الأمن آنذاك إلى استدعائه للتحقيق معه بسبب القصيدة ودوافع كتابتها ونشرها.غادر سعيد العراق عام 1964، متوجِّهاً إلى بيروت حيث التقى أبرز الشعراء والكتاب، ونشر في مجلة «شعر» قصائد بعنوان «بهيموث والبحر»، أثنى عليها الناقد جبرا ابراهيم جبرا. بعد بيروت، وجّه الأب أنظاره إلى السويد عام 1970، متّخذاً من إحدى ضواحي استوكهولم مقراً هادئاً للعيش والكتابة حتى الموت، وهو واحد من مئات المثقفين العراقيين الذي يعيشون في المنفى الذي يلازم الثقافة العراقية. قال الشاعر فاضل العزاوي في معرض كلامه عن مستقبل الثقافة في العراق: «مئات الخلاّقين العراقيين الذين اضطروا الى الهجرة الى الخارج لم يتعلموا اللغات الأجنبية فحسب وإنما دخل الكثيرون منهم في نسيجها الثقافي أيضا (...). فقد أرغمتهم الكارثة على تأسيس علاقة جديدة لهم مع العالم». هذه العلاقة سهّلت طريق الوصول إلى كثير من الثقافات، فأي أثر سيكون للمنفى على الثقافة العراقية، وماذا يفعل المنفيون؟!اللافت أن معظم رواد كركوك يموتون في المنفى، توفي سركون بولص في المنفى الألماني وجان دمو في المنفى الاسترالي، وأنور الغساني في المنفى الكوستاريكي، والأب يوسف سعيد في المنفى السويدي.من شعرهالبهلول الحديثعلى يدي أقحوانة صغيرةوفي رسغيّنماذج لأعصاب حديثة.* * *ذاكرة الأب...وأنسى غابة الأرقام، وأنسىحتى مواء القططصامتاً مثل سطر الكتابةولا أعرف: متى وُلِدَ أحفاد السلاطين الأوَل.* * *جهاز جديدهرولت كمجوسي يحمل النّار للهيكلجائعاً مثل مدخنة قديمةتتنفس وتشهق غيوماً جديدة.* * *بياض الأنثىامرأة تحوم هناك،على جبينها حروف لتعويذة، رأيتها تهمس في أذنيّ: والموت شهوة رابحة.* * *وللصخور قولهاهل الحجارة تنطق ـلكنني أعرف، كيف تردم، تصوّتُبخشونة فوق عظامالشهيد.* * *وانشطر الأصلأطفر كخفش الأيائل في جزء منوجهك السرمدي،أتوقف، أراقب مواكب الآزال والآبادأحتسي من خرير السواقي الخالدة.* * *منارة العشبعندئذٍ، تتجمد ترتيلة رددها رجالُقافلةٍ مضطهدة،وأبقى أنا كقطعةٍ من جسدٍ معلقةعلى باب نحاسي.مجوعاته الشعرية- «المجزرة الأولى} مسرحية كركوك، 1958.- «الموت واللغة} قصائدـ بيروت 1968.- «ويأتي صاحب الزمان» ـ السويد 1986.- «طبعة ثانية للتاريخ» ـ قصائد 1987.- «مملكة القصيدة»، دراسة شعرية ـ بغداد 1988.- «الشموع ذات الاشتعال المتأخر»، قصائد ـ بيروت 1988.- «السفر داخل المنافي البعيدة»، قصائد ـ دار الجمل، كولونيا ـ ألمانيا 1993.- «سفر الرؤيا»، قصائد ـ لبنان 1994.- «فضاءات الأب يوسف سعيد، الأرض، التراب، السماء، الماء» ـ دار نشر صبري يوسف، استوكهولم 1999.