إرنست همنغواي (2)... ذكوري متسلِّط وزير نساء متقلِّب
إحدى القضايا التي تطرّقت إليها الأقلام النقدية كثيرًا في حياة الكاتب الأميركي إرنست همنغواي، علاقته الجنونية بالجنس اللطيف إلى حدّ وُصف بأنه «زير نساء»، وهو الروائي الذكوري الذي لم يكن لطيفاً البتة مع النساء، بل عاملهنّ بقسوة وعنف، وعلى هذا تولّدت عنه في أذهان القراء صورة ذلك الكاتب «النرجسي المتقلّب المزاج»، هاوي المصارعة والصيد ومدمن الكحول... هنا الجزء الثاني من مقالة بمناسبة الذكرى الـ50 لانتحار همنغواي.
بات همنغواي نموذجاً للمغالاة الخالصة وأحد أكثر الوجوه التصاقاً بالقرن العشرين الأدبي، ليصير أسطورة الذكورة المتطرفة في الأدب. والكاتب رضا الظاهر يرى في كتابه «الأمير المطرود... شخصية المرأة في روايات أميركية» (دار المدى) أن عدداً من النقاد والدارسين اتهموا همنغواي بالعداء للنساء والافتقار الى معرفتهن، وأن تناقضات همنغواي في مواقفه من النساء، سواء من تزوّجهن أو عشقهن أو كن شخصيات وبطلات لرواياته، تقدّم مادة غزيرة للنقاد. وتزيد هذا التناقض تعقيداً تلك الأعمال التي نُشرت بعد وفاته، لأن أحداً لم يستطع حتى الآن، أن يعرف على وجه الدقة لماذا تركها غير منشورة خلال حياته ولماذا لم يعد الى المخطوطات الأصلية لإجراء تعديلات أو تنقيحات معيّنة.تأنيث أمومي يمكن رصد علاقة همنغواي بالنساء من خلال تأمل علاقته بوالديه. في هذا الإطار، يعود النقاد الى مقال كتبه كريستوفر مارتن بعنوان «إرنست همنغواي: تشريح نفسي للانتحار»، يستعيد فيه الكاتب كثرة تعرّض همنغواي للحوادث الخطيرة، إذ كانت والدته غريس تبالغ في اعتماد تقليد من القرن التاسع عشر وهو فرض ملابس البنات وتسريحة شعرهن على الأطفال الذكور أيضاً. فدرجت على تلقيبه بـ{الدمية الهولندية» وكانت تُلبسه ثوباً مزيناً بالدانتيل، وتناديه «حبيبتي».كان همنغواي في الثانية حين تمرّد على تأنيثه ونَفَرَ من ميل والدته الى السيطرة، والتي أصرّت على تعليمه العزف على التشيلو وكانت الموسيقى مرتبطة في ذهنه بها فتسبّبت بصراع أليم، لكنه اعترف في ما بعد بأن دروس الموسيقى ساهمت في تشكيل أسلوبه.في مقابل التأنيث الأمومي، جاء التسلّط من والده الذي كان يضربه مراراً، وسرعان ما ترعرع همنغواي على فكرة أنه من سلالة منتحرة. في هذا السياق، رأى مارتن أن انهيار همنغواي بدأ مع انتحار والده في 1928، إذ تبعته حوادث عدة أصابت رأس الكاتب، فصار يمضي وقتاً في قتل الحيوانات البرية والسمك كي لا يقتل نفسه، بحسب ما قاله للممثلة إيفا غاردنر. وكانت الكتابة ملاذه من أمنية الموت. كذلك، عمل سائق سيارة إسعاف وأصيب، وأثناء مكوثه في المستشفى الإيطالي ذاب همنغواي وجداً وغراماً بامرأة قيل إنها أميركية وقيل إنها بريطانية كانت تعمل ممرّضة متطوّعة تُدعى آغنس فون كوروسكي وتقدّم إليها طالباً الزواج، إلا أنها كانت أكبر من همنغواي سناً (كان في التاسعة عشرة من عمره) بسبع سنوات ووقعت في غرام شخص آخر.استقى همنغواي من علاقته بكوروسكي روايته الخالدة «وداعاً للسلاح» ومن تلك التجربة العنيفة جسّد لنا كاترين التي انتهت هي أيضاً إلى النهاية نفسها. باريسفي عام 1921، تزوّج همنغواي من هادلي ريتشاردسن وانتقل معها للعيش في باريس، تلك المدينة التي صنعت منه كاتباً متمرساً ففيها طوّر قدراته الفنية بطريقة لا تخلو من العصامية وعاش حياة متقشّفة لأجل الإخلاص لفنّه القصصي. وفي مذكراته يقول ابنه إن أباه همنغواي عنّف أمه هادلي بطريقة مهينة ذات يوم ودفعها إلى الموت الصوري. وهو طلّقها عام 1927 واقترن ببولين بفايفر وأثناء ذلك كتب أفضل مجموعاته القصصية «رجال بلا نساء». وبولين فتاة ثرية من آرنكاسس قابلها همنغواي فى باريس عام 1927 وتزوّجها فى شهر مايو من العام نفسه. وفي فلوريدا، تحديداً في مقاطعة كي ويست، استأجر همنغواي شقة صغيرة بعد عودته من أوروبا. وظلّت حياته مع هذه الزوجة طبيعية لكنه كان يفتقد الى الحب، وعندما اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية ذهب معها لتغطية أحداثها، ولما عاد طلّق بولين ليقترن بزوجته الثالثة مارثا غلهورن ونشر آنذاك روايته «لمن تُقرع الأجراس؟» التي تعدّ علامة بارزة في إنجازه الفني.استمرّ الزواج خمس سنوات، كان همنغواي يعمل خلالها مراسلاً حربياً في أوروبا. وأخيراً اقترن بزميلته المراسلة الحربية ماري ولش بعدما قابلها في لندن، وظلّت معه حتى انتحاره عام 1961 وكان سعيداً جداً معها. ففي فترة بين 1953 و1954 قام برحلته معها إلى أفريقيا، هذه الرحلة التي سعد بها كثيراً لشغفه بالطبيعة. لكنه أثناء هذه الرحلة داخل أفريقيا، تحطّمت به وبزوجته طائرتان على التوالى في أوغندا وكاد يلقى حتفه لولا العناية الإلهية التي أنقذته جسدياً، لكن نفسياً أصبح همنغواي محطماً تماماً وبات الموت قريباً منه وفي خياله.عن زوجاته الأربع قال همنغواي: «عندما كنت شاباً، كان آخر ما أفكر فيه هو الزواج. لكني عندما تزوجت وطلقت وجدت الحياة من دون زوجة مستحيلة، ولم أندم أبداً على الزواج إلا بالنسبة إلى واحدة (لم يذكر اسمها). فقد تركت الاحتفال بزواجنا وذهبت إلى البار، وعندما سألني «البارمان» عن رغبتي قلت له إنني أرغب في الطلاق».ممثلاتمن بين النساء اللواتي عشقن فن همنغواي ووسامته، الممثلتان المشهورتان إيفا غاردنر وأنغريد برغمان، والفنانتان سيلفيا سدني وغريتا غاربو. وحدثت علاقة حب قوية بين همنغواي وأيقونة السينما مارلين ديتريش (كانت علاقة على الورق فحسب، كما ظهر من خلال الرسائل التي كُشف عنها أخيراً). كان نوع من الحب الذي يحدث للمرء من النظرة الأولى.تعرّف همنغواي إلى ديتريش سنة 1934 على ظهر السفينة الفرنسية الفاخرة العابرة للمحيط الأطلسي «جزيرة فرنسا». كان الكاتب الأميركي عائداً من رحلة صيد له في شرق أفريقيا إلى كي ويست عبر باريس، بينما كانت الممثلة المشهورة راجعة من آخر زيارة لها إلى أقربائها في ألمانيا إلى هوليوود.هو أسماها «كرنب» وهي أسمته «بابا»، وبقيا على اتصال ببعضهما البعض حتى وفاته سنة 1961، ولم تخفت حدة العشق المتبادل أبداً. هذا الانطباع تدلّ عليه 30 رسالة وبرقية أرسلها همنغواي إلى محبوبته ديتريش من 1949 إلى 1961، والتي كُشف عنها النقاب في مكتبة كنيدي في بوسطن.تضمّ المكتبة جزءاً كبيراً من مخلّفات همنغواي ومن ضمنها أيضاً رسائل تلقاها «بابا» من ديتريش. والمخطوطات التي نُشرت للرأي العام حديثاً هي ردود همنغواي على رسائل ديتريش، وقد أهدت ابنتها ماريا ريفا الرسائل إلى دار الوثائق والمحفوظات الرئيسة الأميركية قبل بضع سنوات مع الوصية بالإبقاء عليها مصانة وعدم الكشف عن مضامينها إلا بعد مرور 15 عاماً على وفاة الأم.كتب همنغواي في آخر إحدى رسائله: «أقبلك بلهفة»، و{لقد عشقتك، يا للمصيبة». فردّت ديتريش عليه مؤكدة: «لا أستطيع أن أحبك أكثر مما أحببتك». أو: «سأحبك إلى الأبد أو أبعد من ذلك». وتتضمّن رسائل همنغواي إلى ديتريش أيضاً عبارات لاذعة كتلك الرسالة العلنية التي كتبها إليها سنة 1952 وفيها نبرة عاطفية: «إذا كانت لا تملك سوى صوتها فهو كاف لتحطّم به قلبك. لكنها تملك هذا الجسد الجميل وهذا الوجه ذا الجمال الأزلي. لا يهم كيف تحطّم قلبك، المهم فحسب أن تكون موجودة لتعيد إليه الحياة». روايات باتت صورة المرأة في حياة همنغواي معروفة، لكن كيف هي في أدبه؟ يرى الناقد إدموند ولسن أن «نساء همنغواي في طرفين متناقضين تماماً؛ الطرف الأول: نساء متسلّطات على درجة من الأنانية والفساد والضراوة، أما الطرف الثاني: فهن «خليلات» مستسلمات وديعات طيّعات. مثال للأول: شخصية برت آشلي، وللثاني: كاترين باركلي، ذلك في قصة «وداعاً أيتها الحرب»». وثمة نقاد يقولون إنه شاع عن شخصيات همنغواي، رجالاً ونساء، ألا جذور لها ولا أنساب ولا سير لحياتها، فنحن لا نعرف شيئاً عن ماضي «هنري»، ولا عن «كاثرين باركلي»، وكأنما جاءا من لامكان، ومثلهما شخصيات كثيرة في قصصه، فكلّها جاءت من اللامكان، وهي تتردّد في الظرف المكاني والزماني، ثم تفترق غادية إلى لامكان، حين تنتهي القصة. نعم إن لها أجساماً مادية ولأجسامها ظلال.في المقابل، تقول وجهة نظر أخرى إن همنغواي كان غالباً يستعمل معارفه وأصدقاءه في تصوير شخصيات قصصه ورواياته. حتى إن البعض قال إن أصدقاء همنغواي كلّهم وجدوا طريقهم الى عالم قصصه، وقد اتفقت غالبية النقاد على أن العامل الشخصي هو السبب في جعل شخصيات الرجال لدى همنغواي أقوى بكثير من شخصيات النساء، إذ إن المرأة في كتاباته جاءت مرسومة من خلال نظرات الرجل إليها، وإنه لواضح جداً أن همنغواي لم يُكتب له فهم سيكولوجية المرأة. حتى أن أحسن امرأة ابتكرها وهي «بيلر» في «لمن تقرع الأجراس؟»، كانت تبدو سمات الخشونة واضحة عليها. أما الشخصيات الرومنطيقية من النساء مثل «كاترين» في «وداعاً للسلاح» و{ماريا» في «لمن تقرع الأجراس؟»، فهي غالباً صور لما يريده الرجل أو ما يتمناه... بؤس نساء همنغواي في الروايات هنّ رفيقات البؤس والصعاب، ويتماشى نموذج حواء هذا مع الدور الموكل إليها في العرف الاجتماعي، خصوصاً بتركيزه عليها كشريكة جنسية. وقد نُقل عن همنغواي قوله إن النساء غير ضروريات لرجل حقيقي مكتمل الرجولة، فهو التحق بقافلة الناقمين على النساء المتحرّرات، معتبراً أن امرأة غير خاضعة تصبح بلا محالة مدمّرة. وثمة في أدبه صور لنساء هن غالباً انعكاس لحاجة الرجل، وسرد تفاصيل تكوّن شخصية نموذجية تلاحق أقدار رجال في رحلة بلوغهم الرشد، فيما تندر قصص نساء يعشن هذه المرحلة.النساء حاضرات في روايات همنغواي الرئيسة (باستثناء مجموعة القصص القصيرة «رجال بلا نساء»)، لكنهن منسحبات وينحصر التركيز في الشخصية الذكورية الطاغية التي تحرّك خيوط الحبكة وتتلوها من منظار مقاربتها المحافظة.أبرز أقواله- السعادة؟ صحة جيدة وذاكرة ضعيفة.- لا تظنّ أبداً أن الحرب، مهما كانت ضرورية أو مبرّرة، ليست جريمة.- أفضل طريقة لمعرفة ما إذا كان بإمكانك الثقة بشخص ما هي أن تثق به.- على الكتّاب أن يكتبوا واقفين، فإنهم حينها سيتقنون كتابة الجمل القصيرة.- أندر ما أعرفه هو السعادة لدى الأذكياء.- كل ما هو شرّ حقاً بدأ بالبراءة.- يمكن تدمير الرجل، لكن لا يمكن هزيمته.- عندما يتكلّم الناس فاستمع منصتاً، فمعظم الناس لا يستمعون أبداً.- يحتاج الإنسان إلى سنتين ليتعلّم الكلام والى خمسين سنة ليتعلّم الصمت.- لا صحيح واحد، بل كل شيء صحيح.- الخوف من الموت يزيد بنسبة مساوية لزيادة الثروة.- ما أعرفه هو أن الفعل الأخلاقي هو الذي تحسّ بعده بالراحة وغير الأخلاقي هو ما تحسّ بعده بعدم الراحة.- إياك والخلط بين الحركة والفعل.- أنظر إلى الكلمات طوال حياتي وكأني أراها للمرة الأولى.- إن أحبّ اثنان بعضهما فلن تكون لذلك نهاية سعيدة.- لا صديق أوفى من الكتاب.- تَنتُج الحروب من ثروة غير محميّة.- لم أضطر أبداً الى اختيار موضوع ما، بل الموضوع هو الذي يختارني.