الثورة الفرنسية... فلاسفة ينقذون أمة مهزومة (4/4): باريس تغرق في بحر من الدماء
ظن البعض أن الثورة الفرنسية بما حققته من انتصارات أولية أوشكت أن تنتهي بسلام، لكن الواقع أن الفصول الكبرى في هذه الثورة العظيمة لم تكن بدأت بعد، وما جرى في البدايات هو أن أعوان الملك والنبلاء قد تريثوا قليلا لالتقاط الأنفاس وجمع قواهم المتداعية والبحث عن حلفاء من أجل عكس عقارب الساعة وإعادة النظام الفرنسي إلى استبداده الذي ولّى، في وقت كان الثوار منشغلين ببناء النظام الجديد القائم على المساواة والحد من نفوذ الملك.قامت الجمعية الوطنية التأسيسية بتدشين إعلان «حقوق الإنسان والمواطن»، وفي 26 أغسطس 1789م اعتمد الإعلان في شكله النهائي، وقد حمل ملامح الطبقة البرجوازية التي أصدرته، كما حمل ملامح الظروف السياسية التي صدر فيها. فقد نص الإعلان على أن «الناس يولدون أحراراً ومتساوون في الحقوق، ويظلون كذلك»، وأن «كل سلطة مصدرها الشعب وحده»، بالإضافة إلى ذلك فقد اشتمل الإعلان على أهم المبادئ التي نادى بها فلاسفة الثورة: الحرية... المساواة... سيادة الأمة... فصل السلطات... الإدارة العامة». ولضمان تأييد الملك لويس السادس عشر تم تلقيبه بلقب «معيد الحرية إلى فرنسا».
كان إعلان حقوق الإنسان مقدمة -كمبادئ عامة- للدستور الذي أخذت الجمعية الوطنية التأسيسية في التشاور حول بنوده، وقد دب الانقسام بين أعضاء الجمعية حول صلاحيات الملك في إطار الدستور الجديد، إلا أن الغلبة كانت لأصحاب الرأي الراديكالي الذي يعطي للملك حق الفيتو المطلق على قرارات المجلس شريطة ألا يخول له سلطة حل المجلس.وعندما عرضت هذه القرارات على الملك ما كان منه إلا أن رفضها مع رفضه لإعلان حقوق الإنسان، مما أعاد الأزمة إلى الصدارة من جديد، حيث طالبت الجمعية بالإجماع الملك بأن يصدق على تلك المراسيم تصديقا واضحا.وهنا استدعى الملك جنوده للدفاع عنه في وقت راجت فيه الشائعات بأن البلاط يعد حملة منظمة للقضاء على الثورة ورجالها، خصوصا بعد أن وصلت إلى أسماع الثوار في باريس أجواء الحفلات الصاخبة التي كان يقيمها الملك لقادة الفرق الجديدة التي استدعاها، والتي رفع فيها الضباط أصواتهم بتحية الأسرة المالكة ومزقوا شعار الثورة ثلاثي الألوان.مظاهرة النساءفي هذه الأوقات بلغت الأوضاع الاقتصادية مبلغاً عظيماً من التدهور، ووصلت أزمة «شح الخبز» قمتها... تصادف ذلك مع حادثة غريبة بدأت بأن دخلت فتاة صغيرة في يوم 5 أكتوبر أحد المخافر وتناولت منه طبلا وخرجت تعدو في الطرقات تضرب طبلها وهي تصيح «الخبز... الخبز»، وفي لمح البصر تجمعت حولها نساء جائعات وتقدمن إلى مبنى المحافظة، فدخلناها وهن يصحن في طلب الخبز والسلاح. ثم كسرن الأبواب وتسلحن بما وجدنه في المخازن واتجهن صوب قصر فرساي لرفع شكواهن إلى الملك.رفض حرس الملك تقدم مظاهرة النساء فاعترضوها، وباتت الثائرات ومن انضم إليهن من الثائرين ليلتهم أمام قصر فرساي. ومع الساعات الأولى لنهار اليوم التالي انسل بعض المتظاهرين إلى داخل القصر، ما أدى إلى اندلاع المواجهات بين الثوار وحرس القصر، وأوغل المتظاهرون في أجنحة القصر حتى بلغوا غرفة الملكة فلم يجدوها بها فصبوا غضبهم على فراشها وأثخنوه طعنا وتمزيقا وكادوا يصلون إلى الملكة نفسها لولا أنها أنذرت قبل ذلك بقليل ففرت إلى غرفة الملك.إخرج الثوار من القصر بالقوة، إلا أنهم تجمعوا أسفل شرفة الملك صائحين «نريد الملك بباريس»، فخرج لهم الملك وحياهم ونجح لافاييت -رئيس الحرس الوطني- في استيعاب ثورة الموجودين أمام قصر فرساي.انتقل الملك إلى باريس في اليوم التالي مباشرة 6 أكتوبر، لتشهد البلاد بعدها نوعا من الهدوء الحذر، إذ أصبح الملك في قبضة الثوار حبيس رهن إرادتهم، لذلك فكر الملك في عقد تحالف مع «ميرابو» أحد أشهر رجال الثورة، الذي كان يرى ضرورة الإبقاء على الملك كرمز للبلاد، واتفقا على أن يدفع الملك له ستة آلاف فرنك شهريا، ويتولى سداد جميع ديونه البالغة 200 ألف فرنك، مقابل تعهد «ميرابو» بالدفاع عن الملك وإطلاعه على مجريات الأحداث ويسدي إليه النصيحة.ورغم إخلاص «ميرابو» في إسداء نصائحه للملك فإن تدخل الملكة المتسلطة ورجال البلاط الجهلاء حال بين وضع نصائح ميرابو موضع التنفيذ، إذ وضعت الملكة ماري انطوانيت مخططا مع رجال البلاط وبقايا الإقطاعيين على ضرورة هروب الملك متسترا بظلمة الليل إلى الحدود الشرقية لفرنسا ليلتحق بالهاربين من النبلاء والأمراء وطلب معونة الملكيات الأوروبية لقمع الثورة.فرار الملكوفي مساء 20 يونيو 1791م خرج أفراد الأسرة المالكة تباعا وهم متخفون حتى لا يلحظ أحد محاولة هروبهم، ونتيجة لتهور الملك كشف أمره، فبعد أن خرج من باريس واتجه صوب مدينة فردان القريبة من باريس، حيث كانت تنتظره مجموعة من الخيول التي ستقله إلى حدود فرنسا، إلا أنه قلل من حذره وظهر بصورة علنية، فلمحه أحد الثوار الذي أبلغ بقية الثوار بالخبر، فما كان إلا برهة من الوقت وأحاط الثوار بالملك، وأرغموه على العودة إلى باريس، لتسود حالة من الفوضى والقلق أجواء باريس حول مصير الملك الذي فقد تعاطف الأغلبية العظمى من الشعب بعد محاولة هروبه الخرقاء.وكانت الروح السائدة وقتذاك كراهية الملوك عامة ولويس السادس عشر خاصة، لذلك ما إن وصلت أنباء فشل محاولة هربه حتى اندفع الثوار لتحطيم تماثيله في الميادين وكسرت عند الباعة وكانت تمحى كلمات «ملك» و»ملكة» و»ملكي» و»بوربون» و»لويس» و»بلاط» من كل ما نقشت عليه سواء في ذلك الصور والألواح والحوانيت والمخازن.واختلفت الآراء حول مصير الملك بعد إلقاء القبض عليه، أما الجمعية التأسيسية فقد قررت إيقافه مؤقتا حتى يتم وضع الدستور فيقدم له ليقسم على احترامه وطاعته. لم يعجب هذا الرأي المتطرفين (المعروفين باسم اليعاقبة) الذين رأوا أن الملك تخلى عن العرش بمحاولته الفرار وترك البلاد، وأنه لابد من إقامة حكومة جمهورية يتولى الشعب أمرها.وفي 3 سبتمبر 1791م قدم الدستور إلى الملك للموافقة عليه، فأصدره في 14 من الشهر ذاته، وحلت الجمعية الوطنية نفسها في 30 سبتمبر وانعقدت الجمعية التشريعية في اليوم التالي، أي في أول أكتوبر سنة 1791م.ونشأ من وضع الدستور والاختلاف حول سلطات الملك ثلاثة أحزاب أو تيارات رئيسية: حزب اليمين، وهو حزب الدستوريين الذين رغبوا في بقاء الملك شريطة اعترافه بوضعه القانوني الجديد. حزب اليسار، وهو حزب الجمهوريين الذين أرادوا قلب نظام الحكم وتأسيس الجمهورية وهم أصحاب الخط الأكثر تطرفا. وحزب الوسط الذي التزم أصحابه بالبقاء على الحياد بين الطرفين.وطن في خطرشعرت النظم الملكية في أوروبا بالخوف من مبادئ الثورة الفرنسية التي تخفي خلفها أحلام فرنسا في أن تعود قوة مهيمنة في أوروبا، لذلك لم يكن غريبا أن تتحالف تلك الدول من أجل قمع الثورة و»الدفاع عن حق الملوك الإلهي في الحكم». ولم يكن المجتمع الفرنسي بأقل رغبة في الحرب فالثورة أيقظت الروح القومية لديهم وأخذ الثوار بنظرية الحدود الطبيعية- التاريخية لفرنسا، في حين رغب الثوار في نشر الثورة بمبادئها الإنسانية على أوروبا كلها باعتبار أن الثورة جاءت لتخلص الإنسان أي إنسان من العبودية.لكل ذلك تجمعت نذر الحرب من جديد في سماء أوروبا، ولم يتأخر البحث عن سبب لإعلان الحرب كثيرا، فكان القبض على الملك لويس السادس عشر سببا كافيا من وجهة نظر إمبراطور النمسا (الإمبراطورية الرومانية المقدسة) وملك بروسيا لإعلان نيتهما في أغسطس 1791م حماية الملك وقمع الثورة، وهو ما أعلنه صراحة في ما عرف بقرار «بلنتز». واستغلت القوى الملكية وجود أحزاب فرنسية مناوئة للثورة وتحالفت معها لإكساب تدخلها في الشأن الفرنسي طابعا شرعيا، وهو أمر أصاب الثوار في فرنسا بالقلق، فالجيش الفرنسي قد انحل نتيجة هجرة كبار الضباط من النبلاء، لذلك أصدرت الجمعية الوطنية في 11 يوليو 1792م بياناً قالت فيه: «أيها المواطنون... إن الوطن في خطر»، فهرع المتطوعون كبديل لتكوين جيش الثورة فتم تشكيل فرق عسكرية من أبناء الثورة.ورغم التحذيرات المتبادلة بين الفريقين حول خطورة الإقدام على الحرب، فإن فرنسا الثورة أجبرت على مهاجمة بلجيكا كخطوة تأمينية لحدودها، إلا أن الهزائم ألحقت بجيش الثورة الفرنسية تباعا، وأصبح الوضع خطيرا ينذر بانهيار تام قد يؤدي إلى عودة الملكية من جديد على أسنة الرماح.جاءت النجدة للثوار من حيث لم يحتسبوا، فظهور روسيا كدولة أوروبية ضخمة تتجه غربا صوب قلب أوروبا أثار رعب الأمة الألمانية ممثلة في قيادتها النمسا وبروسيا، وهو أمر أجبر قائد القوى المتحالفة «برونسفيك» على الاتفاق مع قائد جيش الثورة «ديمورييه» على الانسحاب دون قتال. ولذلك عدت معركة «فالمي» التي انسحبت فيها قوى التحالف فاصلة في تاريخ الثورة الفرنسية، فقد بثت هذه الموقعة الصغيرة روح الثقة بالنفس لدى الثوار وأعطتهم برهة من الوقت لتأمين فرنسا.إعدام الملك أرسل دوق «برنزويك» قائد قوات جيوش التحالف إنذارا شديد اللهجة للثوار بعدم المساس بالملك والملكة بأي سوء وحذرهم بالويلات التي قد تصيبهم من جراء إصابة الملك. كان هذا الإنذار بمنزلة الكارثة على الملك وسمعته، فقد اعتبر الثوار أن مجرد تأييد الملك خيانة، وارتبطت صورته في الأذهان بصورة الخائن المتعاون مع القوى الغازية، واتفقت الأحزاب على ضرورة التخلص من الملك بأي وسيلة ممكنة. وبالفعل هاجم الثوار القصر الملكي ودارت معركة حامية الوطيس بين الثوار وحرس القصر انتهت بانتصار الثوار، في حين انسحب الملك إلى مقر الجمعية حيث تقرر توقيفه حتى ينظر في أمره، ونقل الملك وأسرته إلى حصن «التامبل» حيث تم التحفظ عليه في أحد أبراج الحصن.واندفع الثوار صوب الإقطاعيين فقتلوا منهم أكثر من 1500 شخص في سبتمبر 1792م، وهي المعروفة بـ»مذابح سبتمبر»، وأعلن عن قيام المؤتمر الوطني في 20 سبتمبر بديلا عن الجمعية التأسيسية، ليكون أول قرار له هو إلغاء الملكية في 21 سبتمبر، وإعلان الجمهورية في 25 من الشهر ذاته. بعدها تقرر إعدام الملك بناء على عريضة اتهام تم إعلانه بها في 11 ديسمبر، وتم استدعاؤه إلى قاعة المؤتمر الوطني للدفاع عن نفسه، وكان الملك يجيب عن هذه الاتهامات تارة بإنكارها وتارة بنسبتها إلى وزرائه وثالثة بإقرارها مستندا في تبريرها إلى الدستور. إلا أن قرار الإعدام قد صدر نتيجة لأعمال الإرهاب التي مورست على الأعضاء، وقرر إعدام الملك في 11 يناير 1793م بتهمة الخيانة ومحاربة الأمة، وتقرر أن يكون تنفيذ الحكم في 21 من الشهر ذاته.وجاء اليوم الموعود... وصل موكب الملك إلى ساحة ميدان الثورة المحتشدة بالجماهير الثائرة في العاشرة صباحا فنزل من العربة وصعد سلم المقصلة بقدم ثابتة وأحنى رأسه ليباركه القس فوضع عليه يده قائلا: «اصعد يا ابن القديس لويس إلى السماء»، ثم حاول الملك بعد ذلك أن يخاطب الناس فتوجه إليهم قائلا: «إني بريء وأسأل الله ألا تقع التبعة في دمي على رأس فرنسا...».ولكن ضاع بقية كلامه وسط قرع الطبول واقتاده الجلادون إلى حد السكين. وفي الساعة العاشرة والدقيقة العاشرة رفع الجلاد الرأس المقطوع للجماهير فهتفوا بصوت واحد «فلتحيا الجمهورية». بينما لقيت الملكة حتفها بنفس الطريقة في 21 يناير 1793م ونفذ الحكم في ساحة الكونكورد الشهيرة، بعد أن رمتها الجماهير الغاضبة بكل ما طالته أيديهم، فماتت نتيجة لأفعالها الخرقاء التي أفقدت زوجها من قبل تاجه ورأسه. وكانت نهاية ماري انطوانيت عبرة لمن يعتبر، فلم تكن ترتدي إلا ثوبين باليين أكل عليهما الزمن وشرب أحدهما أسود والآخر أبيض، وهي الملكة التي عرفت بأناقتها لدرجة أن أميرات أوروبا كن يحسدن كلابها على ما تخلعه عليها من الحلي والثياب الفاخرة، وبعد وفاتها ظلت جثتها ملقاة في العراء مدة أسبوعين.التحالف الدوليهذه الأحداث الجسام المتلاحقة في فرنسا كان لها أصداؤها القوية في أوروبا كلها، فقد كان إعدام الملك وإنهاء الملكية صدمة كبرى في عواصم أوروبا المختلفة، التي لم تتردد في إظهار رفضها لطريقة التعامل مع الملك لويس السادس عشر، فأعلن الحداد في إنكلترا وقطع الملك العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا، وهو ما تكرر في إسبانيا وهولندا، فكان رد فرنسا الثورة هو إعلان الحرب على إنكلترا وهولندا في أول فبراير، وفي 7 مارس على إسبانيا، وأضم للتحالف المناهض لفرنسا بابا روما الذي هاله ضياع نفوذ رجال الدين في فرنسا، وتبعته كل من المدن الإيطالية الكبرى (نابولي والبندقية وفلورنسا) ثم الإمارات الألمانية، بالإضافة إلى النمسا وبروسيا وقد أعلنا عداءهما للثورة منذ اليوم الأول، بذلك يكون التحالف الدولي الأول الذي انتظمت فيه جميع القوى الأوروبية الكبرى ضد فرنسا قد تأسس بغرض واحد وهو الانقضاض على الثورة والقضاء عليها ثم تقسيم الإمبراطورية الفرنسية على قوى التحالف.عهد الإرهابكان على رأس المتطرفين اليعاقبة «روبسبير» الذي قاد مظاهرة حاشدة لإسقاط الملك والملكية في 17 يوليو سنة 1790م، التي تصدى لها قائد الحرس الوطني لافاييت وأصدر أوامره بإطلاق النيران على المتظاهرين فسقط منهم نحو مائتين، ما بين قتيل وجريح، وهو أمر أثر على سمعة لافاييت وتيار الاعتدال الذي يمثله، وأعطى فرصة ذهبية لتيار التطرف للتشهير بمخالفيه.منذ ذلك الوقت و»روبسبير» يبني شهرته ومجده السياسي ببطء لكن في ثبات، وقد كان خليفة «مارا» رئيس اليعاقبة الذي بدأ عصر الإرهاب في يوينو سنة 1793م حتى يوليو عام 1794م من خلال لجنة الأمن العام، التي أصدرت قانونا سيئ السمعة عرف بـ»قانون الاتهام» كان يعاقب على مجرد الاشتباه والشك وتأسست على خلفيته «محكمة الثورة» التي كانت تأخذ الناس بالشبهات.وبدأت محاكمة كل من له صلة من قريب أو بعيد بالقصر، فقد أعدم دوق «أورليان» وهو الرجل المعروف بولائه للثورة منذ أيامها الأولى، بل كان أحد أهم المحركين للثورة والداعمين لها، وأصبحت تهمة «التآمر» تهمة تلحق بكل ممن يشك في ولائه للثورة أو لا يبدي حماسة كافية لها، وبدأت الثورة تأكل أبناءها الواحد تلو الآخر، فسيق أعضاء حزب الملكية الدستورية إلى المقصلة كما سيق أعضاء حزب «الجيرونديين» إلى المقصلة وتقدمتهم زعيمة الجيرنديين «مدام رولان» التي قالت جملتها الشهيرة عندما رأت تمثال الحرية «آه أيتها الحرية، كم من الجرائم ترتكب باسمكِ الكريم».وخلال تسعة أشهر حكم رسميا على 16 ألف شخص بالموت. إلا أن الجميع تحسس رقابهم خوفا من «روبسبير» واتهاماته التي يوزعها يمينا ويسارا، لذلك لم يكن غريبا أن يتفق الجميع على ضرورة التخلص من «روبسبير» نفسه، فتم القبض عليه وأجريت له محاكمة صورية كتلك التي كان يجريها لخصومه وتقرر إعدامه ونفذ القرار يوم 28 يوليو 1794م.وبمقتل روبسبير انتهى عصر الإرهاب وعادت الثورة سيرتها الأولى وصححت مسارها من جديد.ديكتاتورية الخلاصللخروج من الأزمة التي دخلتها البلاد نتيجة لهزائم جيوش الثورة، وتردي الأوضاع الاقتصادية التي أوشكت على دب المجاعة في البلاد، لجأت فرناس إلى تشكيل حكومة «الخلاص العام» بسلطات دكتاتورية تمكنها من انتشال البلاد من المأزق الحاد الذي تواجهه. وساعدت الظروف الدولية هذه الحكومة على العمل فـ»بروسيا» و»النمسا» في جبهة الشرق قد دبت بينهما روح الخلاف، كذلك بين القوات البروسية والقوات الإنكليزية، وهو ما أدى إلى انقسامات واضحة في جبهة التحالف، مما مكّن جيوش الثورة من حصد الانتصارات هنا وهناك، فقد دخلت جيوش فرنسا بلجيكا في يوليو 1794م ثم هولندا في يناير 1795م، كما استطاعت تثبيت أقدامها في إيطاليا وألمانيا.بذلك تكون الثورة الفرنسية قد خرجت منتصرة مشرقة تسطع بمبادئها في سماء أوروبا كلها بعد فشل التحالف الدولي الأول في تحقيق أي انتصار حقيقي على الثورة التي تمددت الآن وأصبح لها أنصار في الأراضي المنخفضة وإيطاليا وألمانيا.وعندما تسلمت حكومة «الإرادة» الحكم في أكتوبر 1795م، أحيت مخطط غزو النمسا وتقدمت ثلاثة جيوش فرنسية صوب النمسا، إلا أن الجيشين الأولين تعرضا للهزيمة ثم الانسحاب، وبقت العيون معلقة بالجيش الثالث والأخير الذي حمل آمال الفرنسيين في تحقيق انتصار من أي نوع.كان قائد هذا الجيش هو القائد الشاب بونابرت (نابليون الأول في ما بعد) الذي استطاع الانتصار على النمساويين والإيطاليين والباباوية جميعا، واستطاع اقتطاع شمال إيطاليا بالكامل لمصلحة فرنسا وأجبر البابا «بيوس السادس» عدو الثورة على دفع جميع تكاليف الحرب الطائلة ووقع معاهدة مع النمسا اعترفت فيها بانتصارات فرنسا وأملاكها الجديدة.لم يعد هناك من عدو أمام فرنسا الثورة إلا إنكلترا التي كان غزوها مباشرة صعبا لتحصنها بالجغرافيا المدعمة بأسطول هو الأقوى في العالم، فكانت فكرة غزو مصر لتكوين قاعدة متقدمة صوب الشرق تسيطر على طرق التجارة العالمية، وتضايق إنكلترا في كبرى مستعمراتها الهند.أوكلت المهمة إلى قائد القوات المنتصر في إيطاليا بونابرت الذي أبحر على رأس أسطول غازيا الشرق في سنة 1798م، وقبل أن يغادر بونابرت إيطاليا دخل روما وأذل البابا الروماني بعد أن أنشأ الجمهورية الرومانية في وسط إيطاليا، وهو التحرك الذي أغضب الأمم الكاثوليكية.كانت انتصارات فرنسا المدوية في إيطاليا وألمانيا وعلى الباباوية، سببا كافيا لإعادة تشكيل التحالف الدولي من جديد، الذي ضم بجانب إنكلترا وروسيا والنمسا وبروسيا الدولة العثمانية التي ساءها الغزو الفرنسي لمصر.تأزمت الأمور أمام حكومة الثورة فتم استدعاء بونابرت من مصر لمواجهة جيوش التحالف، ووصل إلى فرنسا في يوم 9 نوفمبر 1799م، ثم قاد انقلاب وحركة تطهير انتهت بتأسيس حكومة القنصلية مؤلفة من «سييس» و»روجيه ديكو» و»بونابرت».وحلف القناصل الثلاثة يمين الولاء أمام مجلس الشيوخ للجمهورية التي لا تتجزأ وللحرية والمساواة وللنظام النيابي، على أن يكون بونابرت قنصل أول له حق إعلان الحرب وتوقيع المعاهدات.تصدر بونابرت المشهد وبدأ يمهد لارتقائه السلطة بصورة منفردة حيث أقصى منافسيه وأعلن نفسه امبراطورا تحت اسم نابليون الأول وسيطر على المشهد الأوروبي حتى عام 1815م.بذلك تكون صفحة الثور الفرنسية قد انقضت بعد أن هزت ضمير أوروبا والعالم بأسره وفتحت آفاقا أخرى أمام الإنسانية لترتقي وسط قيم ومبادئ أعلى، تعلي من شأن الإنسان واحترامه لذاته، فقد حررت أعناق الناس من أغلال السخرة، وإرهاق الضرائب الفادحة، ووقفت حدا فاصلا بين عهد قديم كان كل شيء فيه لعدد قليل من الإقطاعيين، وعهد جديد أصبح كل شيء فيه ملكا لجموع الشعب، وبقت رغم كل شيء النموذج الأمثل الذي يحتذى وأصبحت وثيقة «حقوق الإنسان» نبراسا يهدي الأمم في دروب البحث عن الحرية وعلى أصولها ترتكز اليوم دساتير الأمم الحرة في أوروبا والعالم، بل إن وثيقة منظمة الأمم المتحدة نفسها قامت على مبادئ هذه الوثيقة.