مازال الجيش حاكماً... لكن بتكتيك مختلف!

نشر في 28-07-2011
آخر تحديث 28-07-2011 | 22:01
No Image Caption
 أ. د. محمد جابر الأنصاري لقد استطاع الجيش أن يحسم الوضع في كل من تونس ومصر نظراً لكونه يعبر عن «انسجام» مجتمعي تمثله الدولتان الناضجتان والمكتملتان، فثمة «حديث إعلامي مجامل» لشباب الثورة في البلدين, مما جعل أحد المعلقين يقول إن كل شاب من هؤلاء بات يتصور نفسه أنه «قائد الثورة» ولابد أن يُستمع إلى رأيه، ولكن حقيقة الأمر أن المؤسسة العسكرية هي التي «حسمت» الأمر.

تونس ومصر هما أكثر بلدين عربيين «نضجت» فيهما الدولة، حيث أصبحت أكثر «انسجاماً» وتكاملاً في امتدادها المؤثر.

إن تونس «الساحلية» ومصر «الوجه البحري» بالذات قد وصلتا إلى درجة من النضج والاكتمال كدولة، وإذا تمعنا في مؤسسات الدولة وشخوصها في هاتين المنطقتين الكبيرتين في البلدين وجدنا ذلك متحققاً فيهما.

 إن «الجنوب» التونسي و»الوجه القبلي بمصر», أي الصعيد, بما بقي فيهما من مؤثرات معاكسة لنشوء «الدولة» ونضجها واكتمالها يمثلان جزءاً صغيراً من الوطن التونسي والوطن المصري على التوالي.

لذلك نجحت فيهما الثورة, أعني تونس ومصر, في زمن قياسي، وكان «الانسجام» الحاصل في الامتداد السكاني, وبالتالي, في الجيش مدعاةً لذلك, وكان ابن خلدون التونسي منذ زمنه, أي قبل ستة قرون ونيّف, يقول عن مصر إنها «سلطان ورعية» بمعنى آخر سلطة وامتداد سكاني منسجم لا تقسمه «العصبويات» المجتمعية كغيره.

ولابد أن نتأمل في التطور التاريخي لكل منهما, خاصةً في القسم البحري المطل على المتوسط والمتأثر بالوجود الأوروبي– شمالاً- في ذلك البحر.

أما في البلدان العربية الأخرى, كليبيا وسورية واليمن, فإن «العصبويات» مازالت تتصارع وتؤخر الحسم, وكان ابن خلدون أيضاً, يردد في مقدمته «إن الأوطان الكثيرة العصائب قلّ أن تستحكم فيها دولة، فالعصائب الكثيرة من قبائل وطوائف تفرض نفسها ولا تسمح للدولة بالنشوء. إن هذا يمكن أن يوصلنا إلى تفسير موضوعي, بعيداً عن الاعتبارات الشخصية, للظاهرة المحيرة في عالمنا العربي لنجاح الثورتين التونسية والمصرية في زمن قصير, وبقاء «الحالات» الأخرى في بلدان عربية كليبيا واليمن وسورية دون حسم, بسب الصراعات المحلية, ونحن لا نستبعد محاولة الدول الخارجية الاستفادة من ذلك. وعلينا إدراك الظروف الموضوعية الداخلية وعدم نسبة الأمر إلى اعتبارات «شخصية» أدت إلى التطورات في البلدين, تونس ومصر. وربما كان النظر في دور «الجيش» مساعداً لنا في استيعاب الفكرة أعلاه.

لقد «حسم» الجيش, أعني استطاع أن يحسم الوضع في كل من تونس ومصر نظراً لكونه يعبر عن «انسجام» مجتمعي تمثله الدولتان الناضجتان والمكتملتان، ولابد لنا هنا من أن نتحدث بصراحة, ثمة «حديث إعلامي مجامل» لشباب الثورة في البلدين, مما جعل أحد المعلقين يقول إن كل شاب من هؤلاء بات يتصور نفسه أنه «قائد الثورة» ولابد أن يُستمع إلى رأيه، ولكن حقيقة الأمر أن المؤسسة العسكرية هي التي «حسمت» الأمر. وبرز حديث طويل عن الدور «الوطني» للجيش في دعم الثورة، وحقيقة الأمر أن المؤسسة العسكرية قررت الحفاظ على امتيازاتها بالتخلي عن رئيس الدولة الذي أصبح عبئاً عليها.

وإذا أخذنا أهم وأكبر بلد عربي, وهو مصر, لوجدنا الجيش يحكمها منذ ثورة 23 يوليو 1952، وكل رؤساء مصر من محمد نجيب إلى حسني مبارك قد جاؤوا من الجيش الذي نذر نفسه للحفاظ على «الاستقرار» في البلدين. فالقوى الأمنية التونسية واجهت «متمردين» من الذين يريدون الاستعجال, والقفز على الظروف الموضوعية. كما أن الجيش في مصر قام بالعمل ذاته (اذ كيف يمكن تلبية مطالب الناس في «العدالة الاجتماعية» في ظل الإمكانات المعروفة لكل بلد, ومع اتجاه «الثوار» إلى التمرد, برومانسية, ورفض متطلبات العمل المنتج؟!)

إن «شروط» الديمقراطية الكاملة على الطراز الأوروبي والغربي, مثلاً, لم تكتمل في العالم العربي والسلسلة محكومة بأضعف حلقاتها, لا بأقواها، فالتغيير السياسي في كل من تونس ومصر, يمكن أن يحقق بعض الثمار, ولكن اكتماله لن يتحقق في اللحظة الراهنة ولابد من انتظار أضعف الحلقات كما يتضح في كل من ليبيا واليمن وسورية, وربما في أي بلد عربي آخر, مازالت تتحكم به «العصبويات التاريخية» التي لم تنضج ولم تنسجم بعد... وهذا هو «الثمن» الذي دفعته مصر من قبل.

فظروف هزيمة 1967 يعود بعضها إلى أسباب مصرية داخلية, لكن استمرارها يعود أيضا إلى «أضعف» الحلقات في السلسلة العربية المتصدية, رغماً عنها, للمسألة الفلسطينية!

لقد قيل في مصر في الذكرى التاسعة والخمسين لحركة الجيش في 23 يوليو 1952, إنه في ذلك الوقت تصدى الجيش للتغيير وسانده الشعب, وان الشعب في «ثورة» 25 يناير هو الذي تصدى للتغيير فسانده الجيش. وثمة تصور لصيغة حكم مزدوجة, في مصر, وربما في بلدان عربية أخرى, بأن يكون «نائب الرئيس» في الانتخابات المقبلة عسكرياً. (الشرق الأوسط: 24/7/ 2011 مقابلة مع اللواء سيف اليزل).

بطبيعة الحال لابد من رئيس مدني منتخب, ولكن حتى تستقيم «المعادلة» لابد من «تطعيم» الرئاسة بعنصر عسكري، فالجيوش لا يمكنها القيام بانقلابات، لأن العالم لا يتقبل ذلك، وبإزاء «الفوضى» التي شهدها العراق بعد الاحتلال الأميركي, راجت شائعات عن احتمال حدوث «انقلاب» ولكن هذه الفكرة تم العدول عنها. وفي تركيا كان الجيش يقوم بانقلاباته كلما خرج الساسة عن «الخط» ولكن ذلك لم يعد مقبولا في عالمنا.

فإن أراد الجيش, أن يحكم, حيث تسمح له الظروف بذلك, فلابد أن يلجأ الى تكتيك آخر وأن يقبل ظاهرا بلعبة الديمقراطية من خلال تنظيمات «مدنية».

في مصر اليوم, وعشية المواجهة الأمنية بين الجيش وبعض فئات «الثورة», ثمة استذكار لأزمة مارس 1954, عندما هبت قوى وأحزاب سياسية مصرية تطالب بعودة الجيش إلى ثكناته والعودة إلى الديمقراطية البرلمانية. ولكن عبدالناصر وجماهيره وقفوا في وجه تلك «الانتفاضة» واتخذت الأحداث مساراً آخر, ويقول الضباط الموالون لعبدالناصر إن تلك القوى المصرية المنتفضة في أزمة مارس 1954 كانت تريد العودة إلى مواقعها في السلطة, كما أن «التجربة البرلمانية» كانت سيئة السمعة في مصر, حيث لم يجرب الناس –بعد– حكم العسكر!

* مفكر من البحرين

back to top