وجهة نظر: دمشق مع حبي : المكان هو الزمن... هو الذاكرة

نشر في 24-10-2011
آخر تحديث 24-10-2011 | 00:01
 محمد بدر الدين لا يخلو من روح أسطورة إيزيس وأوزريس، حيث تجوب المرأة المخلصة المحبة البلاد بطولها وعرضها بحثاً عن المحبوب الرائع الجدير بالرحلة والمشقّة وتجميعاً لأجزاء الغائب الحاضر أبداً في وجدانها الذي لا يأفل لحظة واحدة، ولا تخور قواها أو تستسلم حتى تبلغ غرضها.

نتحدث عن الفيلم السوري الأخاذ «دمشق مع حبي» للمخرج فنان السينما محمد عبد العزيز، وهو فيلمه الروائي الطويل الثاني بعد «نصف ميلليغرام نيكوتين» (2007) الفائز بثلاث جوائز في مهرجان باري في إيطاليا (أحسن فيلم وأحسن ديكور وأحسن ملابس) وبتنويه لجنة التحكيم بالسيناريو والتصوير، كذلك شارك في مهرجان جنيف، ثم في «مهرجان ليل للسينما المستقلة» في فرنسا ومهرجان «سينما القارات الثلاث» في ميلانو.

في خضمّ تفتيشها عن حبيب صباها نبيل حنا بشارة (ميلاد يوسف) الذي شارك في الحرب اللبنانية، تبحث المرأة هالة مزراحي (مرح جبر) في الحقيقة عن وطنها وهويتها فيه، فقد غادرت أسرتها اليهودية سورية، الوطن الذي لم تعرف البطلة غيره، وسافرت إلى روما ولم تتجه في ظل الصراع العربي - الصهيوني إلى كيان الصهيونية (هذا تصرّف يُحسب لها) الذي يشقّ قلب الوطن العربي في فلسطين.

منذ الاستهلال، يرصد الفيلم برهافة العزلة التي يعاني منها أفراد هذه الأسرة في روما وشعورهم باقتلاعهم من جذورهم، ويتمتم الأب (خالد تاجا) كلمات في البداية، هي أول مفاتيح قراءة الفيلم: «المكان هو الزمن... هو الذاكرة»، فالمكان أو الوطن الحقيقي يظل تفاصيل وروح ما عشناه في زماننا، جذورنا فيه وانطلاقنا منه وتطلعنا إليه.

تترك هالة أسرتها ولا تكفّ عن الإبحار في وطنها الحقيقي سورية بحثاً عن نفسها وحبها ولا تترك مكاناً إلا وتطرق بابه بحثاً عن نبيل، فنجوب في الفيلم مع بطلته ونعايش براعة الارتحال في المكان ـ الزمان. نرى سورية بقصارى ما تتمتع به من جمال وتفاصيل، في المعمار والتاريخ والحاضر والبشر، ليس من باب رحلة سياحية إنما قراءة تتأمل في المكان ـ الزمان. الإنسان.

لذلك «دمشق مع حبي» بقدر ما هو أنشودة بحث طويل عن حب جميل، هو أغنية عشق لدمشق وتراتيل حنين هائل للوطن وإحساس بالجذور والانتماء إلى الأرض. نكتشف مع المرأة الجميلة العاشقة، في ذروة أنشودتها ونشوتها، أن حبيبها حاول الابتعاد إشفاقاً عليها، فهو مقعد فقد ساقيه في الحرب. وبتحية وإيماءة لافتتين منه تعتادهما وتطيب لهما منذ الصبا تكتمل رحلتها أو بالأصح تولد مجدداً. الحبّ هنا يجتاز ويتجاوز ما عداه من ألوان أو أشكال أو صنوف أو تصنيف. إنه البداية الحقة والرحلة الحقيقية التي تستحقّ عناء ومشقة للوصول والتواصل والصلاة.

تتناغم الموسيقى الساحرة والتصوير المرهف اللماح والمونتاج الذكي الدقيق والأداء البارع الممتع في سيمفونية تعزف الفيلم الأخاذ «دمشق مع حبي».

حلّق محمد عبد العزيز في فيلمه الأول «نصف ميلليغرام نيكوتين» متجاوزاً الواقعية إلى عالم فني رحب، منجزاً قصيدة حداثة ـ أو ما بعد الحداثة ـ بلغة سينمائية خاصة وأسلوب مميز لمخرج نابه. أما في فيلمه الثاني «دمشق مع حبي» ـ وهو فيلم طريق ـ فيجوب مع بطلته الآفاق، لكن في إطار التجديد أو البحث عن الجديد داخل الواقعية ذاتها. سواء في فيلمه الأول غير الواقعي المحلق أم الثاني الواقعي المجدد، فإنه يعبر بأصالة موهبته عن رؤية خاصة ذاتية للحياة والمجتمع والوجود. يُذكر أن عبد العزيز أخرج سابقاً أفلاماً وثائقية.

تمثّل سينما عبد العزيز رغبة جيل جديد من السينمائيين العرب ومقدرته في تحقيق حقبة سينمائية تثري بروح وثابة وشجاعة صروح العالم السينمائي لفرسان الفن السابع العربي على مرّ الأيام.

back to top