الأئمّة الأربعة لسليمان فياض... محنة الفقهاء والسلاطين

نشر في 21-08-2011 | 22:01
آخر تحديث 21-08-2011 | 22:01
No Image Caption
عن وزارة الثقافة والفنون والتراث في دولة قطر، صدر أخيراً كتاب بعنوان «الأئمة الأربعة» للكاتب سليمان فياض، ضمن سلسلة كتاب مجلة الدوحة الشهرية، ويستعرض حياة الأئمة الأربعة وعلمهم وعصرهم وشخصية كلّ منهم، وفقهه ورؤيته في العقائد وفي السياسة على السواء.

يقول سليمان فياض في مقدّمته للكتاب: «في التاريخ الإسلامي كان هناك فقهاء عاشوا بفقههم في القرن الثاني الهجري، والثامن الميلادي، وحملوا في حياتهم، وبعد مماتهم لقب «إمام» من علماء عصرهم وتلاميذهم، وعلماء الأجيال التالية، لأنهم كانوا مجتهدين وأصحاب مناهج في الفقه الإسلامي، وكانوا علماء يستنبطون الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، معتمدين في أسس هذا الاستنباط على فهمهم لنصوص القرآن الكريم والأحاديث الشريفة».

يضيف فياض: «في التاريخ الإسلامي طريقان رئيسان في الفقه الإسلامي، هما: طريق أهل السنة أو الجماعة، وطريق الشيعة العلويين، وفي كل من الطريقين كان أئمة، وعلى رأس أئمة أهل السنة، كان فقهاء أربعة عظام، عاشوا كفقهاء أئمة، هم: أبو حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وكانوا من جيل تابعي التابعين، والتابعون هم من تبعوا صحابة رسول الله (ص)، وعايشوهم حياة وعلمًا، وتابعوا التابعين وهم من لم يروا الصحابة، وعرفوا الصحابة التابعين، حين تتلمذوا على أيدهم».

والأئمة الأربعة المتفقهون على جيل التابعين، جمعوا هذه اللبنات، أضافوا إليها، وساروا في طرائق أربعة: طريق الرأي وإمامه أبو حنيفة النعمان، وطريق أهل السنة، وإمامه مالك بن أنس، وطريق يجمع بين هذين الطريقين، وهو طريق النقل والعقل معاً، إمامه الشافعي، وطريق رابع، وهو طريق الاتباع، وإمامه أحمد بن حنبل، وهو طريق يقترب كثيراً من طريق الإمام مالك، ويبتعد كثيراً عن طريق أبو حنيفة ويفتح مثل الإمام مالك باب المصالح المرسلة وسد الذرائع، كي لا يقول بالرأي وبالقياس، لا كثيراً مثل أبي حنيفة ولا قليلاً مثل مالك.

يوضح فياض أن الفقه، بمعناه الاصطلاحي، تأثر من تأصيله لاحقاً بالفقه الروماني وبمنطق أرسطو، وكان لهذا التأثر دور كبير في تأسيس فقه الشريعة الإسلامية، وأن لفظ الفقه يعني في اللغة: الفهم، ثم أطلق اصطلاحاً، أولاً على علم الشريعة الإسلامية أصولاً وفروعاً، في عصر الصحابة والتابعين، ثم خصص ثانياً بعلم الفروع في عصر تابعي التابعين، ويراد به عندهم العلم بالأحكام الشريعة، المأخوذة من أدلتها التفصيلية، وفي إطار هذا التخصيص كانت جهود أئمة الإسلام الأربعة وكانت اجتهاداتهم.

وكُتب أن ليس بين الأئمة الأربعة فقيه لم يتعرّض في حياته لمحنة، كادت تودي بحياته، أو أودت بها، بسبب السياسة غالباً، وقد باعدوا بينهم وبينها، بسبب هذا الصراع المرير بين كلّ من الأمويين والعباسيين من جهة، والعلويين من جهة أخرى، وذلك الصراع الدامي في العقائد، بين نظرة الفقهاء ونظرة علماء الكلام. ويورد فياض نماذج للقارئ يستطيع من خلالها أن يتعرّف إلى جذور الصراع السياسي والديني حول العقيدة الإسلامية في فترات تاريخية مختلفة، وفي القلب منه تأجّج حوار آخر لم يكن خالياً من الدماء حول أفكار ونظريات صنعها الفقهاء وعلماء الكلام ولم يكن في أفضل أحواله سوى صراع بين أهل العقل وأهل النقل.

ففي سيرة أبي حنيفة، يمكن التوقّف أمام وقائع ذات دلالة كبيرة في واقعنا المعاصر، الأولى إصراره على الوقوف الى جانب «العلويين» على رغم المواجهة الدامية التي خاضوها مع الحكام الأمويين وبسبب هذا الإصرار قرر الأمويون محاسبته وعلماء آخرين واختبار ولائهم لبني أمية بإغرائهم بالمناصب. فقد دعا ابن هبيرة أبا حنيفة للعمل في ديوان الإمارة لكنه رفض، عندئذ أقسم أن يسجنه ويضربه، وتم ذلك بالفعل وضرب لأيام متتالية، ثم هرب من العراق إلى مكة. ويصف فياض أبا حنيفة في الفصل المخصص له بـ{إمَـام أهــل الـرّأي» ويقول عن فقهه: «عاش أبو حنيفة في عصرين كانت البلاد الإسلامية تموج فيهما بمسائل في الفكر الديني، عقيدة وفقهاً، وسياسة وعلماً، وحياة اجتماعية. وتموج بحضارات أمم وعلومها، وبشعوب مختلفة العادات والتقاليد والأعراف، وبفتن الصراع الديني بين السنة والشيعة والخوارج، والصراع السياسي الاجتماعي بين الأمويين والعلويين والعباسيين، ثم بين العباسيين والعلويين. وبعقائد هؤلاء وهؤلاء، وسياستهم. وبفقه هؤلاء وهؤلاء، يتوقّف الفقه هنا عند آراء السلف، ويتجدّد هناك عند أهل الرأي».

يتابع فياض: «وبعد رحيل أبي حنيفة عن الدنيا اكتسب مذهب أبي حنيفة نفوذاً في الدولة العباسية، من وقت أن صار تلميذه أبو يوسف قاضياً للقضاة، في عهود الخلفاء العباسيين: المهدي، والهادي، والرشيد، وشاع في أكثر البقاع الإسلامية، في مصر، والشام، وبلاد الروم، والعراق، وما وراء النهر، وفي الهند والصين حيث لا منافس له ولا مزاحم}.

مالك

لم تختلف محن الإمام مالك عما تعرّض له أبو حنيفة، إذ ضُرب بالسياط في عهد أبي جعفر المنصور ومدت يداه حتى انخلعت كتفاه، لأنه عند خروج محمد ابن عبد الله على الخلافة العباسية، تصادف أن مالكاً كان يحدث الناس آنذاك بحديث «ليس لمستكره طلاق»، ووجد الناس في هذا الحديث ما يدل على أنه بالمثل ليس لمستكره بيعة، لذلك فلا بيعة للمنصور، ووجد الكائدون لمالك فرصة للكيد له عند الوالي وقد كان. لكن مالك على رغم ما تعرّض له وإيمانه بأن الحكام الأمويين والعباسيين الذين عاصرهم لم يكونوا ذوي عدل إلا أنه لم يكن أحد أنصار الخروج على الحاكم ليأسه من الإصلاح عن طريق الثورة! ويوضح فياض أنه وفي زمن مالك لم يكن علم الحديث قد تميز تميزاً كاملاً عن الفقه، فقد كانا مختلطين، فالفقيه يروي الأحاديث، فيكون محدثاً وفقيهاً في آن، وقد جمع الإمام مالك الإثنين في كتابه «الموطأ» فهو كتاب حديث وفقه، ومرتب ترتيباً فقهياً، جرى على مثله، من بعده، جامعو الأحاديث والسنن، وقد نقل أصحابه آراءه الفقهية في المسائل المختلفة، وكانوا من بلاد الحجاز ومصر والأندلس وشمال أفريقيا. وكتاب «الموطأ» ثابتة نسبته الى مالك، وقد تناقلته الأجيال.

الشافعي

كان الإمام الشافعي محور الفصل الثالث، وهو لم يسلم من ظلم الحكام والتعرّض للمحن، لأنه كعالم راح ينقد والي نجران، لذا راح الوالي يكيد له بالدس والوشاية عند الخليفة العباسي وقد نجح في ذلك، وكاد أن يقتله الخليفة هارون الرشيد، لولا حجته وشهادة بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة.

الإمام الشافعي الذي شغل الناس بعلمه، نجح في صياغة آرائه الفقهية في ظل مناخ اتسم بالحوار الخصب بين مختلف حضارات الدولة الإسلامية. لذلك تبدو قريبة من آراء علماء الكلام لكنها ظلّت آراء فقهية محدثة، لا بد له من استخدام العقل مع النقل عند الحديث عن العقيدة وقد تبلور هذا الاستخدام على نحو لافت في المرحلة الثالثة من حياته التى عاشها في مصر حيث قدم مراجعة للكثير من أفكاره. ويقول فياض: «بعد الشافعي، كان هناك أتباع للمذهب الشافعي بمكة، وبالعراق، وبمصر وبخراسان، وباليمن، وفي عصور متلاحقة. وكانوا في المذهب الشافعي، بين مجتهدٍ منتسب اجتهادًا مطلقًا، ينهج نهج الشافعي في الاجتهاد، وفق أصوله، لكنه لا يقلده، لا في أصوله، ولا في أدلته، ومجتهدٍ متقيد بمذهب الشافعي، لا يخالف نهجه ولا أصوله في الفتوى فيما يستجد من المسائل، وبين فقيه غير مجتهد، له الفضل في جمع الفقه الشافعي، وترتيب أدلته، وتهذيب مسائله، وجمع فروعه، أو له الفضل في حفظ مذهبه، ونقله، وفهمه، وشرحه، وتلخيصه. وفئتا المجتهدين كانتا غالبًا في الفقه الشافعي إلى آخر المائة الرابعة الهجرية، وبعدها كانت فئة الفقهاء الشافعيين غير المجتهدين غالبًا».

أحمد بن حنبل

كرّس فياض الفصل الأخير من كتابه لسيرة أحمد بن حنبل الذي تعرّض لمحنة عظمى بتعبير فياض إذ إن الخليفة المأمون وكان صاحباً للمعتزلة كان يقول مثلما يقولون إن القرآن الكريم مخلوق ومحدث، وأراد من الفقهاء أن يقولوا مقالته في خلق القرآن ومنهم الإمام أحمد بن حنبل، لكنه رفض وأصر على قوله إن القرآن كلام الله، لذا تعرض لمحنة مدوية استمرت في عهد المأمون وفي عهد المعتصم والواثق من بعده، لقي فيها العذاب، فطوال 28 شهراً كان يضرب بالسياط إلى أن يغمى عليه، وينخس بالسيف فلا يحس، وحين يئس معذبوه أطلقوا سراحه، ثم جاء الخليفة الواثق وأعاد محنة بن حنبل عن طريق منعه من إلقاء درسه في المسجد أو غيره ومنعه من أي اجتماع مع الناس، وجاء المتوكل بعد الواثق وأوقف هذا الاضطهاد الذي ظل في التاريخ الإسلامي. لخّص فياض فقه أحمد بن حنبـل بقوله: «لم يكتب أحمد بن حنبل إلا الحديث، ولم يكتب أحمد كتابًا في الفقه، يمكن أن يعد أصلاً ومرجعًا، لكنّ له أبوابًا متناثرة، مكتوبة في الفقه، فيها فهم للنصوص القرآنية والأحاديث، وليس فيها رأي مبتدع، ولا استنباط، ولا قياس».

back to top