الثورة الروسية... الشيوعيون على عرش القيصر (2/3)

نشر في 21-08-2011 | 22:01
آخر تحديث 21-08-2011 | 22:01
زوجة نيقولا الثاني وقصره في قبضة راسبوتين

جربت روسيا لأول مرة نظاما شبيها بالديمقراطية، بعد ثورة 1905، وأخذت سمعة الحكومة في التحسن التدريجي، وبدأ تيار التصنيع يشتد، بينما بدأت التيارات الثورية، التي تلقت ضربة أمنية قاسية في أعقاب فشل الثورة، تتراجع وتتوارى لتلتقط أنفاسها وتجمع شتاتها إلا أن الديمقراطية الناشئة كانت ضعيفة يتربص بها القيصر الدوائر للانقضاض عليها والإطاحة بها، لذلك عندما انعقد مجلس الدوما لأول مرة في تاريخ روسيا في مايو 1906 في قصر «توريد» في سان بطرسبرغ لم يكن في خلد القيصر أن ينفذ أيا من مقترحات المجلس.

وبعد الجلسة الافتتاحية دخلت الحكومة صداما مع النواب الذين تم انتخابهم بحرية ونزاهة، فتدخل القيصر لينتهز الفرصة وحل الدوما في 22 يوليو، ورغم محاولات النواب استثارة المواطنين الروس من أجل العودة إلى الثورة من جديد، لكنهم فضلوا بعد تجربة الثورة الخلود إلى الهدوء والسكينة، فضاعت دعوات النواب أدراج الرياح.

بدا أن الأوضاع ستعاود سيرتها الأولى، وأن القيصر سيعمل للقضاء على جميع مكاسب الثورة، إلا أن وصول شخصية مستنيرة هي شخصية «ستوليبين» إلى رئاسة الوزراء في عام 1906 كان بادرة أمل، فقد امتاز بنزاهة يديه وإخلاصه في العمل ووقوفه أمام محاولات القيصر القضاء على «الدوما».

ونفذ مشروع الإصلاح الزراعي، الذي حسن من أوضاع الفلاحين الروس وجعلهم يمتلكون الأراضي، لدرجة أن لينين أصبح على يقين بأن هذا الرجل لو استمر في خططه فإن روح الثورة الموجودة كجمر تحت الرماد ستنطفئ إلى الأبد، بينما أيد المناشفة إصلاحات ستوليبين، إلا أن الأقدار حققت أمنية لينين في التخلص من هذا الرجل النافذ الشريف المصلح بحق.

وجاء التخلص منه بأوامر من القيصرة ألكسندرة التي تحكمت في زوجها تماما، وكان التخلص من «ستوليبين» في الواقع تعبيرا عن النفوذ الذي بات يتمتع به أشهر دجال عرفته كتب التاريخ باسم «راسبوتين».

راسبوتين

في هذه الظروف الدقيقة التي كانت تمر بها روسيا لم يكن القيصر نيقولا الثاني (حكم 1894-1917) إلا رجلا ضعيفا، ظروف عصره ومشاكل وطنه أكبر من قدرته على العمل والإنقاذ، استسلم لمستشاريه ففي أول بيان رسمي له ألقاه على الشعب أعلن صراحة أن «الأفكار التي تخامر أعضاء المجالس الإقليمية بشأن التدخل في إدارة البلاد هي أحلام لا معنى لها، وأمان باطلة، فإني معتزم التمسك بمبادئ الحكم الفردي بثبات لا هوادة فيه، وعزم لا تراجع عنه».

لكن أكبر خطاياه كان الخضوع لزوجته القيصرة ألكسندرا، الألمانية الأصل المكروهة من قبل البلاط والشعب معا، التي استسلمت لرغبات ذلك الراهب المشعوذ راسبوتين (جريجوري يافيموفيتش) الذي سيطر على العرش والعاصمة تماما في الفترة من 1905 حتى مقتله في 16 ديسمبر 1916، فقد استطاع راسبوتين (وتعني الفاجر بالروسية) أن يشفي ولي العهد الأمير ألكيسيس، فأصبح المستشار الشخصي للقيصرة ومارس عليها تجاربه في التنويم المغناطيسي.

ومن خلال الزوجة مسلوبة العقل استطاع راسبوتين أن ينفذ إلى عقل القيصر نيقولاس نفسه، وأرسى راسبوتين قواعد دعوته إلى ارتكاب الخطيئة الجنسية من أجل التطهر من آثامها للوصول إلى أعلى مراحل الخلاص، وهو ما جعله يسيطر تماما على البلاط الروسي، ويشيع فيه جوا من الفجور والفسوق.

واستغل راسبوتين خروج القيصر إلى ميادين الحرب العالمية الأولى، في زيادة نفوذه فقد أطلقت القيصرة يديه في تعيين الوزراء وعزلهم، وكان مقياسه الأساسي في العزل والتعيين هو الولاء لشخصه أولا وأخيرا، ونظر النبلاء لراسبوتين على أنه التجسيد الحي للشيطان، وأن مدينة سان بطرسبرغ قد تحولت على يديه إلى «مدينة الشيطان».

لذلك قرروا التخلص منه وبالفعل قدموا له كعكا مسموما وعندما تناوله دهش الجميع لعدم تأثره به فقد كان يعود نفسه على جرع من السموم المختلفة حتى اكتسب حصانة طبيعية منها، فما كان من أعدائه إلا أن أطلقوا نيران مسدساتهم عليه، التي يبدو أنها لم تنه عليه، فقرروا حمله وإلقاءه في البحر ليتم العثور على جثته بعدها بيومين.

والغريب أن راسبوتين قبل وفاته بأيام أرسل خطابا للقيصر يخبره فيه بقرب وفاته نتيجة مؤامرة سيشارك فيها أعضاء من أسرة القيصر، وقيل إنه تنبأ في هذه الرسالة بأن جزاء المشاركة في مؤامرة اغتياله هو أن عائلة رومانوف ستباد خلال عامين، وسيقتل أفرادها على يد الشعب الروسي، وهو ما حدث بالفعل.

ويعد راسبوتين واحدا من أغمض الشخصيات في التاريخ، وتمتلئ حياته بالأساطير والخرافات والأكاذيب، لكن الحقيقة الوحيدة في حياته أنه كشف ضعف البلاط الروسي ومدى زيفه، فزادت نظرة الاحتقار من قبل الشعب لحكامه، ففي الوقت الذي كان يدفع زهرة شباب روسيا حياتهم في حرب لا يعرفون لم سيقوا إليها، كان البلاط وعلى رأسه القيصرة يغرق في جو المجون والعربدة والتبذير، مما كان أحد الأسباب التي دفعت الناس إلى الثورة على حكام انفصلوا عنهم.

زعيم... بلا جماهير

عادت الأوضاع السياسية إلى سيرتها الأولى بعد أن تخلص القيصر من ستوليبين، وشعر بأنه صار مطلق اليد كامل السلطات، فأقر القوانين المناهضة لليهود، وجعل تولية المناصب حكرا على التابعين والخانعين المؤمنين بسلطته المطلقة، وقام للمرة الأخيرة بحل الدوما.

وسط كل هذا... كان بطل القصة في الطرف الآخر «لينين» يعاني داخل الأوساط الاشتراكية فقد تقلص نفوذ تيار البلاشفة الذي يمثله أمام صعود تيار المناشفة الذي انتصر لفكرة الإصلاح لا الثورة، وهو ما أعلن صراحة في مؤتمر «استوكهولم» 1906 الذي أطلق عليه مؤتمر الوحدة، وتأكد فيه هزيمة «لينين» وتحول البلاشفة (الأغلبية) إلى أقلية.

لكن هذا لا يعني استسلام لينين فقد عمل على حشد قواه من جديد، واستعد لجولة جديدة لعلها تعيد له نفوذه المتداعي، وجاءت الفرصة في مؤتمر لندن 1907، فقد استطاع أن ينتصر في معركة انتخابات الحزب على بيلخانوف، إلا أن مؤتمر لندن أثبت بما لا يجعل مجالا للشك أن المركب لم يعد يسع المناشفة والبلاشفة معا.

وعادت الحملة تشتد على لينين لدرجة بدا فيها فاقدا للأنصار والأعوان، وطالب المناشفة بضرورة تصفية جريدة البلاشفة «بروليتاريا»، فلم يجد «لينين» بدا من التراجع التكتيكي، فوافق على دمجها في جريدة «البرافدا» (أي الحقيقة)، وهي التي يترأس تحريرها تروتسكي، وظهرت للسطح صورة للتقارب بين الطرفين إلا أن الاختلافات بينهما كانت أعمق من أي محاولة للتقارب، مع ملاحظة أن رضوخ «لينين» كان اعترافا بتفوق المناشفة أكثر منه اعتقادا بصحة آرائهم.

جاء الإنقاذ للينين الذي تحول في مطلع عام 1912 إلى زعيم بلا جماهير، من التغيرات العميقة التي جرت على سطح الساحة الأوروبية فقد بدأت نذر الحرب تتجمع في سماء أوروبا والعالم، وهي أجواء استغلها لينين جيدا خصوصا مع زيادة حدة المشكلة القائمة في روسيا من قسوة ظروف المعيشة وتذمر العمال هناك، فدعا إلى مؤتمر في براغ.

وكان المؤتمر تعبيرا عن فكر البلاشفة لتكوين دكتاتورية أقلية، فلم يدع أحدا من المناشفة للمؤتمر، الذي اقتصر على لينين ورفاقه، وبطبيعة الحال أقر المؤتمر «اللينينية» برنامجا للعمل الثوري في روسيا، واغتصب المؤتمر- بإيعاز من لينين- اسم «البرافدا» من تروتسكي فأصبحت معبرة عن أفكار لينين وبرنامجه الثوري.

وعادت شعبية لينين إلى الارتفاع مرة أخرى داخل روسيا من خلال البرافدا التي كانت توزع ما بين 20 و40 ألفا، هكذا عاد لينين بإصرار لا يعرف الإحباط ومجهود لا يعرف الكلل كي يعيد بناء سمعته الثورية من جديد، ويتصدر مشهد العمل السري في روسيا، في وقت كان القيصر يعد العدة لدخول آخر حروبه... الحرب العالمية الأولى.

الحرب

نتيجة لتوترات بين القوى الأوروبية الكبرى على مدار ربع قرن قررت تلك الدول اللجوء إلى السلاح لحسم جميع القضايا المعلقة، ولم تكن حادثة اغتيال ولي عهد التاج النمساوي أكثر من مجرد ذريعة أدبية لإعلان الحرب، فقد وقفت بريطانيا وفرنسا وروسيا في وجه ألمانيا وإمبراطورية النمسا والمجر والدولة العثمانية، وبدأت الحرب على جميع الجبهات في وقت واحد تقريبا، فقد أعلنت ألمانيا الحرب على روسيا في 1 أغسطس عام 1914، في وقت كانت روسيا قد وصلت إلى الحضيض الأسفل من الفوضى والتفكك.

ففي مطلع عام 1914 شهدت روسيا إضراب مليون عامل عن العمل نتيجة تردي أوضاعهم، لكن ما إن أعلنت ألمانيا الحرب رسميا على روسيا، حتى تناسى الجميع مشاكلهم واحتشدوا خلف القيصر في عداء واضح للألمان، فقد عدل العمال عن الإضرابات، وكفوا عن التظاهر، واندفعوا إلى معسكرات التدريب للاشتراك في الحرب.

بينما اندفع النبلاء وعلية القوم إلى البحث عن رتب في الجيش، ووقف القيصر نيقولاس في مشهد مهيب في الهواء الطلق يؤدي اليمين ذاتها التي أداها إسكندر الأول عند غزو نابليون روسيا، فترتج الآفاق بهتاف الجماهير المحتشدة «حفظ الله القيصر».

وبدأت الحكومة اتخاذ قرارات وطنية، فقد تقرر تغيير اسم العاصمة من سان بطرسبرغ، وهو اسم ألماني، إلى الاسم الروسي «بطرسبراغ»، ولضمان يقظة الشعب الروسي منعت الفودكا، وفي مجلس الدوما تناسى النواب أحقادهم تجاه القيصر والحكومة، وأيدوا بالإجماع إعلان الحرب، وبدا أن الثورة التي كان ينتظرها الجميع قد أصبحت حديث خرافة، وأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة في روسيا.

هذه الحماسة لم تغن في أرض الواقع شيئا، فقد كانت الحرب نذير شؤم وخراب على روسيا، فلم تكن هناك استعدادات حقيقية للحرب أكثر من الحماسة والرغبة في هزيمة الألمان، ولم يتمتع الجيش بقيادة قوية بل كان قائده الجنرال «سوكوملينوف» يفتخر دائما بأنه خلال 25 عاما قضاها في العسكرية لم يقرأ كتابا واحدا في المجال العسكري!

ولم تتوافر للجحافل الروسية العداد الكافي من البنادق والمدافع سريعة الطلقات والمدافع الثقيلة والذخيرة، بل والمؤن الضرورية، باختصار كان الجيش ذاهبا لحرب عالمية بلا سلاح، في وقت كان الألمان يشحذون قرائحهم من أجل تطوير وابتكار أسلحة جديدة تضمن لهم التفوق في الحرب سريعا.

وحشدت روسيا أكثر من 15 مليون شاب أرسلتهم إلى أرض المعركة، لكنهم كانوا يسيرون إلى مذبحة، حيث تخلى الجنرال «سوكوملينوف» عن الاستراتيجية الروسية الشهيرة التي تقوم على ترك العدو يندفع داخل الأراضي الروسية ثم العمل على إحكام قبضة الدب الروسي عليه، إلا أن الحماسة الزائدة والتحريض الفرنسي، لتخفيف حدة الهجوم الألماني عليها، دفع الجيش الروسي إلى الخروج من مكمنه ليندفع صوب الحدود الغربية لملاقاة العدو الألماني.

وكان خطأ الهجوم الروسي أنه اندفع على طول الجبهة الأوروبية كلها (من بحر البلطيق شمالا حتى البحر الأدرياتي جنوبا)، وهو ما شتت القوات الروسية وبعثرها على مساحة ضخمة من الأراضي.

وتبخرت أحلام الروس بتحقيق نصر سريع ليفيقوا على هزائم مروعة بدأت في معركة «تاننبرغ» في نهاية أغسطس 1914، ثم معركة «بحيرات مسوريان» في سبتمبر، وفي شهر يناير 1915 نشبت معركة ثانية حول بحيرات «مسوريان» دمر فيه الجيش الروسي المهاجم واندحرت القوات الروسية وأجبرت على التراجع صوب الحدود الروسية.

وخسرت روسيا أكثر من أربعة ملايين مجند دفعة واحدة، وانهارت معنويات الجيش إلى أقل من الصفر، وبدأت روسيا ترسل استغاثات لحلفائها علهم ينقذونها قبل السقوط، وانقلبت حالة الحماس التي اندلعت في جموع الشعب الروسي إلى حالة من اليأس والقنوط المطبق، مع وصول أنباء الهزائم القاسية وارتداد الجيش الروسي على أثره الجيش الألماني.

ولم يجد الشعب الذي أذلته الهزيمة إلا الانتقام من الألمان المقيمين في موسكو، فمضوا يطاردون كل امرئ يحمل اسما ألمانيا، وعلقت المشانق للجالية الألمانية، وبدأت الأحاديث تشير صراحة إلى أن زوجة القيصر الألمانية الأصل لها نصيب في هذه المأساة، وبدأت الصيحات الغاضبة تتوالى للتنديد بالتجاهل الفرنسي-البريطاني الذين كانوا مستعدين «للقتال إلى آخر جندي روسي».

في تلك الأثناء اتجه القيصر إلى الجبهة ليشرف بنفسه على الجبهة، وترك بطرسبراغ في يد القيصرة وهاديها الروحي «راسبوتين» الذي أصبح حاكما بأمره، وقام بعزل الوزراء ورؤساء الحكومة كيف شاء، في وقت بدأت القوى السياسية في العاصمة تجتمع من أجل التفكير جديا في ضرورة الإطاحة بالقيصر وتولية ابنه الصغير.

واجتمعت أفكار الأسرة المالكة مع الأحزاب الشرعية اليمينية على ضرورة الإطاحة براسبوتين، وهو ما تحقق فعلا باغتياله في 16 ديسمبر 1916، كما أشرنا من قبل، وصارت الخطوة التالية المتوقعة في أي لحظة هي الإطاحة بالقيصر وزوجته الشمطاء التي لم ينس لها كبار روسيا إذلالهم أمام المجنون راسبوتين.

أصيب الروس بإحباط عام نتيجة عدم تغير الأوضاع بعد مقتل راسبوتين، فقد كان هناك اعتقاد راسخ بأن القضاء على هذا الشيطان البشري سيحرر السياسة الروسية من أسره، إلا أن شيئا لم يتغير فالقيصر مازال يحيا في وهم الانتصار المستحيل على ألمانيا، والقيصرة أخذت تعد العدة للانتقام من كل من شارك في مؤامرة الاغتيال، وبدأت أحاديث التحذير من الثورة ترتفع في صالونات العاصمة.

ولم يتأثر القيصر بكل ما يجري حوله فقد ظل متمسكا بالحكم الفردي، وعندما أرسل له أعمامه وأشقاؤه منذرين بأن الثورة واقعة وشيكا، إذا لم يقم بتشكيل حكومة يرضاها الشعب، لم يكن جوابه إلا أن قال: «لا أسمح لأحد بأن ينصحني»، بل عندما نقل السفير البريطاني في روسيا تخوفات لندن وباريس من الثورة القادمة رد بعجرفة تليق بقيصر متغطرس قائلا: «تقول لي أيها السفير إنه يجب عليّ أن أكسب مرضاة شعبي، ولكن أليس أولى به هو أن يكسب مرضاتي أنا».

الثورة

وكان من الممكن للقيصر أن يطمع في أن يظل على عرشه فارغ البال إذا تحقق نصر كبير في الحرب الدائرة في قلب أوروبا، إلا أن نتائج الحرب في عام 1916 كانت كارثية، فالهزائم تتوالى والأمل في النصر يتلاشى، وحلفاء روسيا يتساقطون، فبريطانيا محاصرة من قبل الغواصات الألمانية ذلك السلاح الجديد الذي أصاب الأسطول البريطاني العظيم بالشلل، وفرنسا تتلقى الهزائم المتوالية في قلب القارة من القوات الألمانية-النمساوية.

وكشفت الوثائق الألمانية التي وقعت في يد الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 عن دور ألمانيا في سبيل التعجيل بقيام الثورة الروسية، وكيف كانت ترسم لها الخطط، وتمدها بالأموال وتحاول الإشراف على حركتها بشبكة من أصدقائها من الثوار، ولم تفعل ألمانيا كل هذا عشقا في الحرية وإنما كان يهمها أن تشتعل ثورة ضخمة في روسيا تعجل بانسحابها من الحرب، ليتمكن الألمان من الاستفادة من 400 ألف مجند ألماني في الجبهة الروسية، ونقلهم إلى الجبهة الفرنسية لحسم الحرب سريعا، لذلك تلاقت الأحداث الداخلية التي كانت تعصف بروسيا مع التحركات الألمانية الداعمة للثورة.

الغريب أن معظم القيادات اليسارية التي ستلمع أسماؤها في سماء روسيا قريبا كانوا خارج البلاد أو في سجون سيبريا الرهيبة، قد نفضوا أيديهم من الدعوة إلى الثورة بعد فشل ثورة 1905، وانغمارهم في الصراعات الداخلية في ما بينهم، فقد كان لينين مقيما في سويسرا، بعد أن تأكد من فشل الدعوة إلى الثورة، فبات يعتقد أن الحياة لن تمتد به حتى يرى الثورة، بينما كان تروتسكي في طريقه إلى نيويورك، وبليخافوف ومارتوف وغيرهم من القيادات اليسارية موزعين على البلدان الأوروبية المختلفة، وربما لم يفاجأ أحد بالثورة كما فوجئ لينين ورفاقه.

واجهت الحكومة القيصرية أزمة في شهر ديسمبر 1916، ربما تكون شبيهة بأزمة عام 1905، فقد كان جهاز الدولة شبه معطل والجيش المرتبك في وضع مأساوي على الجبهة، ورغم الحديث الذي بات يتردد في جميع المنتديات والصالونات حول الأزمة التي تواجهها روسيا ولا يبدو لها مخرج في الأفق. وعلى الرغم من تحدث البعض عن الثورة كضرورة للتغيير، وأنه لا مفر من انقلاب يغيير الأوضاع للأحسن، فإن أحدا لم يتوقع أن تندلع تلك الثورة التي كانت أحداثها على وشك البدء، ولم يتوقع أحد أن يخرج الشعب الروسي ليردد مع «تروتسكي» قولته المشهورة: «إن النظام القديم لم يعد محتملا».

ففي أوائل مارس عام 1917 تقرر توزيع الخبز بالبطاقات، فاشتد التزاحم على المخابز، وتلت ذلك حوادث إضراب في مصانع المعادن، وقامت النساء بمظاهرات، ووسط حالة عدم الاستقرار تلك غادر القيصر نيقولا عاصمة ملكه يوم 8 مارس صوب الجبهة، متجاهلا الثورة التي قامت في نفس اليوم.

يوم النساء

الحقيقة المدهشة في الثورة أنها لم تقم لأي من دعايات السياسيين سواء من اليمين أو اليسار، صحيح أنهم دعوا إليها ومهدوا لها إلا أنها جاءت عفوية من قبل الشعب الروسي ذاته، فجاءت الثورة في شكل غضب عارم، فقد أضرب العمال في يوم 3 مارس عن العمل، وقررت النساء العاملات تنظيم تظاهرة في يوم 8 مارس الذي عرف بـ»يوم النساء» فأصيبت الحياة بالشلل.

وانطلق المتظاهرون صوب المخابز وهم يصرخون «نريد خبزا» وخرجت الجماهير إلى الشوارع تعبر عن سخطها وغضبها مما جرى، لا يعرفون إلى أين يذهبون وإن كان زيادة أعدادهم من جراء انضمام ثائرين جدد كان يشجعهم على الاستمرار في غضبهم، وبدأوا يصبون غضبهم على الطبقات العليا ورموز الحكم القيصري فهاجموا رجال الشرطة والأثرياء والقصر القيصري، وساعد الجيش في استمرار الثورة بموقفه الرافض لقمع الثورة بل وإبداء تعاطفه معها.

وبعد يومين تطورت الهتافات إلى درجة رفع شعارات تطالب بـ»سقوط المرأة الألمانية» أي القيصرة، وبدأ الزحف على القصر الذي تقيم فيه، وحدث أول مواجهة مع الشرطة في مساء 11 مارس أدى إلى سقوط أول ستين قتيلا من شهداء الثورة. ليجيء رد الفعل الثوري عنيفا فقد هوجمت أقسام الشرطة المختلفة وأشعلت فيها النيران، وبدأت أعمال السلب والنهب، وبات رجال الشرطة الآن مطاردين واختفوا في الأزقة والطرقات الجانبية، وبادروا بخلع ملابسهم الرسمية خوفا من القتل، وأصدر القيصر أوامره وهو في الجبهة للجنرال إيفانوف بالزحف في الحال على بطرجراد وإخضاعها.

back to top