شروط النهضة... بحث في أصل الحضارة
صدر أخيراً عن وزارة الثقافة والفنون والتراث في دولة قطر كتاب المفكر والكاتب الجزائري مالك بن نبي «شروط النهضة» (ترجمة عمر مسقاوي وعبد الصبور شاهين)، ويأتي في إطار كتاب «الدوحة» الذي تصدره المجلة نفسها.
في مقدمته للكتاب، يؤكد رضوان السيد أن مفكرين مسلمين وغير مسلمين كثراً قاموا بأفعال حضارية في القرنين التاسع عشر والعشرين، للخروج من القابلية إلى الاستعمار، ولتحقيق النهوض، والمشاركة في صنع الحضارة الجديدة. مع ذلك، فإن الوضع العام ظل غير سليم. فما هي عناصر الحضارة، وكيف تقوم الحضارات؟ كي تقوم حضارة لا بد من توافر ثلاثة عناصر: الانسان والتراب والوقت. يبدأ الإنسان نهوضه بأن تسيطر عليه وفي أعماقه وعقله فكرة سامية تصبح دعوة، وهذا لا يتوافر إلا في الدين ذي المنظومة الأخلاقية الخيرة.يتابع السيد أنه من الدين أو الدعوة تصدر فكرة التوجيه أو واجبه، وهو توجيه يتَّخذ أشكالاً عدة: أخلاقية وجمالية وعملية وصناعية أو تدبيرية. هنا يضرب مالك بن نبي أمثلة لذلك في مسائل توجيه العمل ورأس المال والمرأة والزي والفنون الجميلة.بالعودة إلى العناصر الثلاثة التي تقوم عليها الحضارة، ومن بعد عنصر الإنسان، يقصد بن نبي بالتراب العوامل البيئية التي تؤثر في وعي الإنسان ونشاطه إيجاباً. أما الوقت أو الزمان فالمعني به تارة زمن الإنتاج أو إمكاناته، وطوراً الزمان العام الكوني الذي يؤثر في روح الحضارة من طريق التأثير في وعي الإنسان وأفكاره وتصرفاته. فهذه العناصر أو العوامل أو الثوابت النسبية تتلاقى وتتضافر في ما بينها منشئة الحضارة إذا كانت الفكرة الكبرى التي يحملها العنصر الأول أو الإنسان قد تحولت إلى ثقافة ووعي. والثقافة المقصودة هي مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته، بوصفها رأسمالاً أولياً في الوسط الذي ولد فيه. فالثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته، الفرد المزود بالفكرة وبالوعي الثقافي النهضوي، وهذا شأن المسلمين الأوائل الذين حملوا الفكرة والدعوة، وينشرها لخير الإنسان والإنسانية.يضيف السيد بأنه توافر محيط أو زمان صار بمثابة شرط رابع أو خامس لتحقق النهوض والاستقلال، وإن يكن من خارج الإنسان. ثمة التاريخ وفلسفته أو زمانه، وثمة عوالم التحرر الاجتماعي والزماني في الحاضر. وفي فلسفة التاريخ أن الحضارات تأتي في دورات بحيث تعقب إحداها الأخرى، والدائرية هذه كان قد قال بها ابن خلدون، لكنه ضيقها – في نظر بن نبي- عندما أدارها على العصبية، بينما وسعها القرآن الكريم «وتلك الأيام نداولها بين الناس».استعمارإشكالية القابلية للاستعمار، وإشكالية التكيف والتلاؤم، لا تزالان تقضان مضجع بن نبي على رغم ثورات الشعوب آنذاك، وبدء خروج المستعمرين من كل مكان وإن بقوا فيه سابقاً مئات السنين. هنا يضع مالك بن نبي أمله في مؤتمر باندونغ (1955)، وفكرة الآسيوية الإفريقية. فالكفاح السلمي العظيم لشعوب القارتين العريقتين، يوشك من خلال التحالف وجبهة عدم الانحياز، أن ينتج ثقافة جديدة للاستقلال الحضاري. فهذا الغرب الأناني والاستعماري، ما كاد ينهي حربه الكونية الإبادية، حتى نشب الصراع بين أطرافه الرأسمالية والماركسية: فصنع القنبلة الذرية، والحرب الباردة. ويعتز بن نبي بثورة يوليو (1952) التي يعتبرها نهضة، بأنها اندفعت لصنع عالم الحاضر والمستقبل من خلال المشاركة في لقاء الكبار الآسيويين والأفارقة في مؤتمر باندونغ، بتجنب صراعات الأقطاب العدوانيين، وصنع السلام والتعاون وصون حضارة بني الإنسان، والإعانة في تحرير بقية بلدان إفريقيا وآسيا. إنه فعل حضاري كبير وستكون له نتائج بالغة الأهمية، في نظر بن نبي، على مستقبل العالم كله. فالأفارقة والآسيويون يجترحون بعزائمهم ووعيهم عالم حضارة ما بعد الاستعمار، عالم الإنسان الخارجي من الاستعباد والاستغلال. الدورة الحضاريةيرى بن نبي أن كل حضارة تبدأ ببزوغ فكرة دينية تقوم بتركيب عناصر الحضارة، وتنظم طاقة الأفراد الحيوية وتثير فيهم الحركة والنشاط فيتحرر الفرد في هذه المرحلة الأولى الصاعدة من هيمنة الغريزة ويخضع لهيمنة الروح، وفي هذه المرحلة تصل «شبكة العلاقات الاجتماعية» إلى قمة كثافتها (فيصبح المجتمع كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً). هذا هو وضع النهوض، وهو في الحضارة الإسلامية يكافئ المرحلة النبوية ومرحلة الخلافة الراشدة، ويؤرخ بن نبي نهاية هذه المرحلة في الحضارة الإسلامية بمعركة صفين.المرحلة الثانية تنعطف فيها الحضارة بسبب المشاكل المادية الناتجة من توسع المجتمع الوليد منعطفاً تكف فيه الروح عن السيطرة المطلقة على الغرائز، ويبدأ عهد العقل، ويعادل هذا المنعطف في الحضارة الإسلامية المرحلة الأموية والمرحلة العباسية، وبحسب تعبير الكاتب «هو منعطف للعقل». غير أن هذا العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز، وحينئذ تشرع الغرائز في التحرر من قيودها بالتدريج على الصورة التي عرفناها عن عهد بني أمية، إذ أخذت الروح تفقد نفوذها، وكفَّ المجتمع عن ممارسة ضغطه على الفرد، وطبيعي ألا تنطلق الغرائز دفعة واحدة وإنما تتحرر بقدر ما يضعف سلطان الروح. في هذه المرحلة، نقص فاعلية الفكرة الدينية الاجتماعية، وإن كانت الحضارة نفسها تبلغ أوجها فتزدهر العلوم والفنون فيها، لكن مرضاً اجتماعياً يكون قد بدأ وإن تكن آثاره المحسوسة لم تظهر بعد، فتستعيد الطبيعة سيطرتها على المجتمع والفرد شيئاً فشيئاً.ثم تدخل الحضارة طورها الثالث، وهو طور الانحطاط والانحلال، ولا يعود للفكرة الدينية فيه من وظيفة اجتماعية، وتعود الأمور كما كانت في مجتمع منحل، وتتفكك شبكة العلاقات الاجتماعية بانحلال المجتمع إلى ذرات لا روابط بينها وتنتهي بهذا دورة الحضارة.يميز بن نبي بين وضعين متناقضين للإنسان: «وضع ما قبل الحضارة»، و{وضع ما بعد الحضارة». الوضع الأول هو وضع الإنسان الفطري أو الطبيعي وهو مستعد للدخول في دورة الحضارة كما هي الحال مع العرب قبيل ظهور الإسلام، أما الحالة الثانية فهي حالة الإنسان الذي تفسَّخ حضارياً وهي حالة إنسان ما عاد قابلاً لإنجاز عمل متحضّر إلا إذا تغير هو نفسه من جذوره الأساسية.يقول بن نبي إن أول عمل يؤديه المجتمع عند ولادته هو بناء شبكة العلاقات الاجتماعية، ويضرب لذلك مثلاً بميلاد المجتمع الإسلامي في المدينة حيث آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار.على العكس من ذلك، عند أفول المجتمع تتمزق شبكة علاقاته الاجتماعية، كما كانت حالة المجتمع الإسلامي المتفسخ الذي غزاه الاستعمار. في رأي بن نبي أن المجتمع يتكون من ثلاثة مركبات هي {أشخاص»و«أفكار» و «أشياء»، والمجتمع كما يرى الكاتب يتراوح في كثافة شبكة علاقاته الاجتماعية بين حدين: الحد الأول يكون فيه في ذروة نموه ويكون كل فرد عنده مرتبطاً بمجموع أعضاء المجتمع، وأما الحد الثاني فهو حالة المجتمع المتفسخ الذي تحول إلى أفراد لا رابط بينهم.