حياة باسلة
أم الشاعر
فجراً عند الساعة السادسة.. كنا في مرأب المدينة.. وأمي تتأمل قامتي المتقوّسة الجذع كنخلة عجفاء.. وتنفخ على وجهي وفي جوف قميصي بسملاتها وأدعيتها السجادية.. والدمع يسيح سخيناً على فوطتها السوداء.. وهي تردد نخوتها للمعتوق ألا يدعني مهما قست الظروف.. حاولت منعها من مرافقتي الى مرأب المدينة.. لكني وجدتها مثل غمامة حزن تترقب وصولي.. ويبدو أنها فرغت من صلاتها على عجل وسبقتني إلى المرأب حتى تراني للمرة الأخيرة قبل فراقها.. قلت لها غاضباً: ستكشفين سرنا أمام الناس.. هيا انصرفي..أخرجت شريطاً أخضر من جيبها.. واستعانت بصديقي لتنفيذ رغبتها: بني.. أرجو أن تقنعه حتى يضع هذه التميمة حول معصمه.. هذا طلبي الأخير..وقبل أن يرجوني المعتوق وجدت جثتي ترتعش بين أحضانها وهي تشمني بعمق..كان المعتوق حينها منكسراً.. والحزن الذي خلفته أمي ما زال يضرب في شرايينه بعنف.. ورأيت الدمع يلمع في عينيه وهو يتأمل التعويذة في معصمي.. ثم قال : هنيئاً لك بهذه الأم ..فمازحته بخبث: نتبادل بالأمهات.. ما رأيك..؟أجابني وهو يتفادى سقوط الدمع من عينيه: الأمهات متشابهات بكل شيء يا صديقي..الواقع أن أم المعتوق طيبة وحنون وكانت تغسل صديقي بالطشت على كبر.. ولكنها تخشاه كثيراً.. وهذا ما دعاها للركون في البيت.. وركبنا باص الريم.. وخلال ساعة ونصف كنا في مرأب العلاوي.. مرت الأمور كما نشتهي.. فالتفتيش عند الصباح عادة ما يكون سهلاً في السيطرات.. وعبرنا بسلام من سيطرة ديالى التي حطت أقدامنا على شوارعها والساعة تربو على التاسعة صباحاً.. كان المانعي بانتظارنا في مرأب المدينة ولمح ديوان الترقب للمعتوق بين يديه.. فعلق باسماً: حسنا فعلت.. فديوانك يبعد عنا بعض الشبهات..أجل كان المعتوق قد صدر له هذا الديوان عن الشؤون الثقاقية بعنوان الترقب.. وهو الديوان الأول الذي يصدر لشاعر من طائفة الصعاليك.. وبشكل رسمي.. أذكر أن السيارة التي احتضنتنا كانت مما تسمى الـ 18 راكباً.. وكانت تسير متهادية في الشارع الذي سيصل بنا الى كركوك.. وعند جسر «الطبقجلي» لم يكن القاص زنكنه موجوداً.. وأسراب الزنابير بدأت تنتشر في أرجاء المدينة مما سببت إرباكاً لنا.. ولكن المانعي على حين غرة هتف بلعنة السماء.. وأشار إلى شخص قصير القامة يقف عند ناصية الجسر :هذا عباس..ودنا القزم إلينا ثم طلب منا الركوب في سيارة لاندكروز.. كانت واقفة على بعد يسير.. انطلقت بنا السيارة إلى ناحية التون كبري.. وفي بيت صغير دوّنت أسماءنا من قبل فتى كردي.. ووضع بيد كل منا رشاشة كلاشنكوف مع ملحقاتها من جعب الرصاص.. ثم طلب من القزم الانطلاق بنا إلى رابية أشوان.. فلقد أصبحنا خلال لحظات من الفرسان الأكراد.. ولكن أي فرسان كنا؟ بعد أن لبسنا السراويل العريضة والتي زودنا بها مع السلاح.. وعند الرابية كان زنكنة بانتظارنا الذي أطلق ضحكته وهو يهجونا بمرح: يالكم من ملاعين.. كأنكم أكراد من دم ولحم.. ولا كأنكم هاربين من الحرب..كانت الرابية عالية جداً.. ولقد قطعنا أكثر من عشر دقائق حتى أصبحنا نقف إلى جنب آمرنا الجديد زنكنة جبت بنظراتي مستطلعاً المكان الذي بزغت بمناطق متفرقة من أرضيته الطينية بعض الشجيرات العشبية المتقزمة ثم عانقت نظراتي وجه صديقي المعتوق وقلت له: مكان رائع لكتابة الشعر..ضحك زنكنة وقال محذراً: مع ضوء الشمس نعم، ولكن عندما يحل الليل، توقعوا وصول البيش مركة في أية لحظة.. وهذا يعني نهاية حياتنا..رد المعتوق على تحذيره قائلاً: سنقرأ لهم شعراً قبل أن يحشوا صدرونا بالرصاص .ودخلنا إلى الخيمة وكنت أفكر هل سنبقى على قيد الحياة ليوم غد؟درب الخلاصكانت مهمتنا في تلك الرابية هي الدفاع عن أبراج النفط القريبة من ثكنتنا... فلربما يشن البيش مركة هجوماً مباغتاً عليناً.. وكان يطلق علينا من قبل الثوار الأكراد كلمة في غاية المهانة والسخرية.. ألا وهي «الجاش» وتعني بالعربية «الحمير».. والواقع لم نكن نأبه لهذه التسمية القاسية، فلقد كانت هواجسنا وأفكارنا تخطط لليوم الذي نلتحق به إلى أولئك الثوار الأكراد.. وبعد مضي أسبوعين على مكوثنا بتلك الخيمة المهلهلة تعرفنا على فتى كردي كان معنا ويجيد التكلم بالعربية.. ويدعى محمد وحرصنا على منحه الثقة والصداقة.. فازداد هو الآخر تمسكا بنا، خاصة بعد أن اكتشف ميولنا الأدبية وقد هربنا من الجندية الإلزامية ومن جبهة الحرب بحثاً عن الخلاص.. وذات صباح أيقظتنا مفزوعين من منامنا أصوات طلقات رصاص متقطعة ونباح كلب يستغيث.. وحين رفعت ذيل الخيمة، رأينا جميعاً المشهد الدامي الذي أصاب قلوبنا بالهلع.. بينما كان عباس القزم ما زال منتشياً بإطلاق الرصاص على الكلب الصغير والذي لا يبعد عنه سوى أمتار وقد سبح بالدماء.. هرعت نحوه وخطفت البندقية من يديه وأنا أردد: حرام عليك.. حرام عليك. فأجابني وابتسامة نصر في عينيه: تحاسبني لأني قتلت كلباً صغيراً، ولا تحتجون على طاغية بسببه يموت مئات الجنود على السواتر كل يوم؟بدا لي ذلك القزم لحظتها مأفوناً.. أو أن هاجس الجنون قد سيطر عليه.. ومرت لحظات توتر شديدة لم نسمع خلالها إلا أنين وغرغرة الحيوان الصغير وهو يسلم الروح.. وقد غرق في بركة من الدماء.. فاستدرك القاتل كمن يكفر عن ذنبه: رأيته يأكل من طعامنا.. وهو نجس.فضحك المانعي وهز رأسه الكبير متسائلاً: وهل أنت تعرف الحلال والحرام؟ويبدو أن هذا السؤال قد شجع المعتوق ليقول بوجه القزم: بعيني اللتين يأكلهما الدود رأيتك تتبول على مخلفات الطعام، أنت أشد قسوة من قاتل محترف كما يبدو..ضحك القاتل براحة تامة وعانقنا معتذراً.. لكننا رفضنا عناقه.. وقال: لا تبالغوا بأساكم.. إنه مجرد كلب..لم نفطر ذلك الصباح.. ووجدنا في مقتل الكلب مبرراً معقولا للتجوال في البراري والوديان لنسيان ما حدث.. فحملنا أسلحتنا وكان برفقتنا الفتى الكردي محمد وانطلقنا مبتعدين عن الرابية بسرعة.. بينما ظل زنكنة يلاحقنا بنظراته المريبة وحين وصلنا إلى قاع الرابية هتف بنا باسماً ومحذراً:- إياكم والهروب الى العصاة؟؟لم نرد على هتافه وواصلنا خطواتنا باتجاه قرية كردية تدعى «مير ميرو».. وخلال الطريق طلبنا من الفتى الكردي العودة إلى الرابية.. ارتبك محمد قليلاً ثم قال بحسم: أنا معكم.. كما أن لغتي الكردية ستكون عونا لكم بالتفاهم مع البيش مركة..ولدقائق ظلت عيوننا تتحدث سراً فيما بينها.. حتى انهيت تلك الريبة بالكلام المباشر: كاكه محمد.. لقد أصبحت صديقا لنا كما ترى.. إياك والخيانة ..فجأة ترك بندقيته تسقط على الأرض المعشوشبة وهرع نحوي وعانقني وهو يبكي: إذا كنتم لا تثقون بي فهذه بندقيتي أضعها معكم..والتقط أنفاسه وهو يكفكف الدمع ثم قال: أنا أيضاً أريد الهروب من هذا الجحيم..انحنيت على بندقيته ووضعتها بين يديه.. واستدرت بوجهي نحو الطريق المؤدي إلى قرية «مير ميرو» وتوكلت في سري.. ثم قلت فرحاً: هذا هو درب الخلاص.. أيها الشعراء ..وانطلقنا نحو القرية..إعدام ملاكدم زاه رأيته يزحف على وجوه من معي ونحن في الطريق إلى تلك القرية.. بل إن صديقنا المعتوق عبر عن عتقه حقاً في تلك اللحظات، فراح يقفز مبتهجاً ويحرك بيديه كجناحي طائر ويردد بإنتشاء: يا الهي.. لم أصدق أني نجوت من بطش الحرب..وكنا نكركر بالضحكات تضامناً معه حتى توهجت بغتة ذكرى دامية أمام خاطري.. يوم كانت نوبتي بحراسة سجن الوحدة.. وهو عبارة عن غرفة صغيرة تكدس بها الجنود الذين تغيبوا لأيام معدودة على إجازتهم.. كانت الساعة تشير إلى انتصاف النهار.. عندما توقفت عجلة الإيفا وأمرني على عجل ضابط الاستخبارات بصعود الجنود السجناء الى حوضها الخلفي.. وخلال دقائق انطلقت بنا السيارة إلى ميدان رمي الفرقة الأولى في قاطع الفكه.. وقد فر الدم من جميع الوجوه.. بل إن بعض الجنود أجهش بالبكاء.. فالطريق المؤدي إلى هناك.. يعني أن ثمة مكروهاً كبيراً سيحدث.. ولما هبطنا من السيارة.. صدمت أبصارنا بحشد من العساكر شكلوا حلقة كبيرة قرب مثابة للرمي.. صار قلبي يخفق بعنف.. والبندقية التي بيدي تهتز مثل سعفة داهمتها الريح.. دنونا من الحشد.. وهناك رأينا ضابطاً برتبة نقيب من كتيبة دبابات الأندلس.. وكان متوتراً.. وغاضباً.. وعرفنا أنه بحاجة إلى رماة بهذه الساعة.. وبينما كان يستطلع الوجوه.. رميت بندقيتي إلى أحد الجنود السجناء خشية من اختياري لهذه المهمة.. ولم يدم الأمر طويلاً حتى خرج ثلاثة رماة كانوا جميعاً من كتيبة دبابات الأندلس أحدهم من الكوفة والآخر من الموصل والثالث من الرمادي.. وفجأة استدارت الوجوه عندما فتح الباب الخلفي لسيارة الإنضباطية الصندوقية.. وهبط منها فتى بدشداشة بيضاء.. حافي القدمين وقد كبلت يداه الى الخلف بسلاسل حديد.. كان يمشي ببطء وعلى جنبيه يمشي زنبوران حمراوان طويلاً القامة.. حددا حركته حتى صار في منتصف الحلقة.. لم أتمالك نفسي فأجهشت بالبكاء بصوت مسموع.. ووصلت شهقاتي إلى مسامع النقيب الذي اقترب مني بسرعة وصفعني بشدة على خدي.. وتطاير الشرر من فمه: جبان.. اتبكي على مجرم؟وركلني بحذائه الأنيق على عجيزتي.. فتهاويت على الأرض مستسلماً.. وأنا أستغيث: دخيلك سيدي.. دخيلك سيدي..