الملك الأسطورة (5): فريد شوقي... الحيرة بين التمثيل والهندسة

نشر في 05-08-2011 | 22:02
آخر تحديث 05-08-2011 | 22:02
ودّع فريد شوقي الصمت، وأصبح في كل الأدوار التي يؤديها في مسرح يوسف وهبي كومبارساً متكلماً، قد يختلف شكل الدور، بين خفير أو عامل بسيط، أو حتى عسكري، وقد يختلف حجم ظهوره فوق خشبة المسرح ومساحة الكلام، من جملة إلى اثنتين على الأكثر، ولكنه متكلّم.

إحساس عارم بالسعادة، أن يوافق يوسف وهبي على أن يصبح فريد شوقي ممثلاً متكلماً في مسرحه، لكنه في النهاية مجرد واحد من مجموعة كبيرة من الذين يؤدون هذه النوعية من الأدوار، ومن الممكن أن يظل هكذا سنوات طويلة، قد يعرفه الأصدقاء والأهل والمقربون، لكن لن يعرفه الجمهور، لن يكون مثل هؤلاء الذين تعلّق صورهم في مدخل المسرح داخل نجمة كبيرة تشير إلى نجوميّتهم، ويلفّها إطار مذهب.

اختفت لحظات السعادة بالتحوّل من كومبارس صامت إلى متكلّم، وبدأت لحظات اليأس، والسؤال: متى يصبح فريد مثل هؤلاء؟

بدأ يوسف وهبي بروفات مسرحية جديدة بعنوان «بيت تهدم»، وكالعادة كان دور فريد شوقي فيها «العسكري» فحفظ الجملة التي يقولها جيداً. بدأ وهبي بروفات الحركة، حيث يقوم هو بدور أب «مجرم» يطارده البوليس، غير أنه في النهاية يتم القبض عليه، وتشاء الأقدار أن من يلقي القبض عليه هو ابنه، ويتم ذلك في مشهد ميلودرامي مؤثر للغاية، لا بد من أن ينتزع الدموع من عيون المتفرجين وأن يستقبلوا ذلك بعاصفة من التصفيق.

أجرى وهبي بروفات عدة على هذا المشهد تحديداً، مع ذلك الممثل الذي يؤدي دور الضابط، وفي كل مرة كان يصيح وهبي بعنف وغضب شديدين:

* زفت... مش ممكن كده... يا أخينا شوية إحساس... ده انت أداءك بيخرجني من اندماجي... فتخيل ممكن يعمل إيه في هذا الجمهور المسكين الذي يدفع تذكرة المسرح من أجل الاستمتاع فإذ به يجدك تقدم أداء كوميديا، من الممكن أن يجد أفضل منه في الروايات الهزلية.

- يا أستاذ أنا ببذل أقصى ما...

* انت لا تبذل... انت تأخذ من وقتي ووقت هؤلاء الأفاضل... اسمح لي أقولك إنك ممثل كوميدي ضل طريقه إلى التراجيديا.

الاحتراف

قرّر وهبي الاستغناء عن هذا الممثل فوراً ليمنحه الفرصة في مسرح يبحث جمهوره عن الضحك وليس البكاء، لكن دوره أساسي في الرواية، وهذه هي البروفة الأخيرة، وافتتاح الرواية في اليوم التالي...

وقف الجميع كلّ في مكانه في انتظار قرار وهبي، هل سيتم التأجيل الى حين العثور على فنان يستوعب هذه الأحاسيس والمشاعر التي يمتلئ بها الدور، أم سيتم إلغاؤه؟

صمت وهبي، وقطع خشبة المسرح ذهاباً وإياباً، ثم توقّف والتفت إلى فريد شوقي وصاح فيه:

* انت اللي هتعمل الدور ده يا فريد... حافظ الدور.

ساد الصمت بين الجميع الذين ألجمتهم الدهشة، وراحوا يتبادلون النظرات بأعين جاحظة، بمن فيهم فريد شوقي نفسه الذي لم يصدّق ما سمعه، فلم ينطق ولم يجب عن سؤال وهبي، فكرّره عليه:

* حافظ الدور ولا لأ؟

- أنا حافظ الرواية كلها يا أستاذ.

* خلاص... جهّز نفسك... ذاكر الدور كويس الليلة واحفظ الحركة... وخليك جاهز للافتتاح بكره.

ألقى يوسف وهبي بالقنبلة في وجه فريد وانصرف... تركه زائغ العينين، لا يعرف ماذا يقول أو ماذا يفعل، حتى أنه لم يترك له فرصة للاعتذار، كذلك وجد أعضاء الفرقة يلتفون حوله يواسونه ويعزّونه بدلاً من تهنئته بهذه الفرصة التي لا تحدث إلا مرة واحدة في كل جيل... إذ أشفقوا عليه من هذا الامتحان الصعب الذي ستكون نتيجته أن يغادر الفرقة لامحالة، وإلى غير رجعة بعد فشله في الدور، ومؤكد سيفشل، فإذا كان الأقدم والأفضل منه في الفرقة قد فشل خلال البروفة، فماذا سيفعل هذا المسكين غداً في الافتتاح؟!

* شد حيلك يا فريد.

- معلش يا بني... ربنا معاك.

- اللي عاوزه ربنا هيكون يا فريد متشلش هم.

لكن بالنسبة الى فريد شوقي فجاءت الفرصة التي طالما حلم بها، وهو على ثقة بأنه قادر على القيام بها، وقد عرف النتيجة مسبقاً من خلال نظرات وهمسات كبار نجوم الفرقة: أمينة رزق، علوية جميل، محمود المليجي، فاخر فاخر، حسين رياض، وغيرهم.

لم ينم فريد ليلته، راحت جملة يوسف وهبي ترن في أذنيه، وتقابلها كلمات كبار الممثلين بالفرقة... ماذا سيفعل؟ ولماذا اختاره يوسف وهبي ولم يختر ممثلاً آخر له خبرة كبيرة في الفرقة؟ هل يمتنع عن الذهاب إلى المسرح ويختصر الطريق ويوفر الكلام الذي سيسمعه، ويتجنّب طرد يوسف وهبي له أمام الجميع مثل الممثل الذي سبقه؟ الكارثة أن الطرد هذه المرة سيكون الجمهور شاهداً عليه، فيوسف وهبي لا يتورّع أن يفعل ذلك أمامه من دون أدنى اعتبار لأي أحد.

قبل موعد رفع الستار بثلاث ساعات كان فريد شوقي يجلس في حجرة تبديل الملابس بالمسرح، ارتدى ملابس الدور، وضع الماكياج، وظل جالساً يراجع الحوار، بدأ توافد الفنانين المشاركين في المسرحية، ودخل كلّ منهم يلقي بالسلام عليه وليس على ألسنتهم سوى دعاء واحد: «ربنا معاك»، وهم يتحاشون أن تقع أعينهم في عينيه.

وصل يوسف وهبي، نظر في عيني فريد شوقي طويلاً، ولم ينطق بكلمة واحدة، ولا حتى بكلمة تشجيع، اكتفى بهذه النظرة، ثم ابتسم نصف ابتسامة وهزّ رأسه وغادر الحجرة.

ارتفع الستار، وجرت أحداث المسرحية سريعة متلاحقة، غير أنها مرت بطيئة ثقيلة عندما بدأ مشهد فريد شوقي مع يوسف وهبي... هكذا شعر فريد، الدقائق لا تمر، غير أنه لا يريد أن ينتبه إليها... وقف أمام وهبي، قدّم المشهد من دون أن ينظر في عينيه... جاءت اللحظة الحاسمة، وخرّ وهبي (الأب في أحداث الرواية) راكعاً متوسلاً أمام فريد شوقي (الضابط الإبن)، الذي أصرّ على تنفيذ القانون حتى ولو على والده... هنا ضجت قاعة المسرح بالتصفيق، ووقف الجمهور مصفّقاً، لم يصدّق فريد شوقي نفسه، هل هذا التصفيق كلّه له؟ لقد نجح إذن... لكن يبقى رأي الأستاذ. لم ينتظر فريد طويلاً ليعرف رأيه، الذي جاء سريعاً. أمسك وهبي يد فريد وتقدّم به إلى مقدمة خشبة المسرح يقدّمه للجمهور... راح جسد فريد كلّه ينتفض، هل يحلم؟ يوسف بك وهبي يمسك بيده ويقف بجواره كتفاً بكتف يستقبلان تحية الجمهور... والأمر الأهم الذي كاد أن يطير عقل فريد معه أن وهبي انحنى أمامه مقدماً إليه التحية.

يا للهول!!

ما إن أسدل الستار حتى التفّ الجميع حول فريد شوقي يقبلونه ويهنئونه، فالتقطه من بينهم يوسف وهبي بقوة وهو يصيح على مدير الفرقة:

* عباس أفندي... يا عباس أفندي... وقّع عقد مع فريد شوقي من الليلة بسته جنيه في الشهر... مبارك يا فريد أفندي.

عهد جديد بدأ ودنيا جديدة فتحت ذراعيها لفريد شوقي، فقد أصبح ممثلاً محترفاً وبشهادة أكبر ممثل في البلد، تمنى لو يوقظ أهل البيت كلّه ليزفّ لهم هذا الخبر غير العادي ويحتفل معهم حتى الصباح...

الوظيفة الميري

ليت هذا الصباح لم يأتِ... فقد أتى ليقتل حلم فريد شوقي الوليد في مهده فقبل أن يزفّ هذه البشرى لوالده، زفّ له الأخير بشرى من نوع آخر:

* ألف مبروك يا فريد أفندي... دلوقت تستحق كلمة أفندي عن حق وجداره.

- الله يبارك فيك يا بابا... حضرتك عرفت؟

* طبعا والجواب في ايدي أهه.

- جواب!!

* أهه... حضرة المهندس فريد أفندي محمد عبده شوقي... نفيدكم علما أنه قد قُبل طلبكم وتم تعيينكم مهندسا بمصلحة الأملاك... رئيس شؤون المستخدمين... مبروك يا بطل... جهز نفسك بقى علشان يوم السبت تروح تستلم الوظيفة.

- مهندس مين؟ ووظيفة إيه؟ أنا مقدمتش طلبات.

* يا سيدي أنا اللي قدمت بالنيابة عنك باعتباري والدك.

- وقوام كده قبلوا الطلب؟

* لا طبعا.. يا سيدي ما احنا برضه مش قليلين في البلد... لولا أن معالي الوزير بيعزني شخصيا ماكنش ممكن أبدا ده يحصل ولو بعد عشر سنين.

- أيوه يابابا... بس أنا حضرتك يعني منفعش في الوظيفة.

* ليه يا سي فريد ناقص ايد ولا رجل... حد تجيله وظيفة زي دي ويقول الكلام ده.

- بابا أنا اتخلقت علشان أكون ممثل مش علشان أبقى موظف.

* بلاش كلام فاضي... انت عارف إني بحب التمثيل وبقدره وكنت من أوائل الناس اللي التحقوا بمعهد التمثيل الوطني اللي أنشأه زكي طليمات سنة تلاتين بقسم الخطابة... لكن ده مش معناه إني أسيب وظيفتي وشغلي.. خليك في التمثيل هاوي زي ما انت لكن الوظيفة مفيش بد منها.

- أيوه بس أنا مضيت عقد احتراف بستة جنيه مع فرقة رمسيس امبارح.

* يا ابني مع كامل تقديري للتمثيل والممثلين... لكن دول ناس بيشتغلوا شهر وعشرة لا...

- بس دي الفرصة اللي بستناها من زمان... ولما تيجي أفرط أنا فيها؟!

* يا سيدي ماتفرطش فيها ولا حاجة... استلم وظيفتك... وخليك زي ما انت في الفرقة... المهم يبقالك وظيفة حكومية ودخل شهري ثابت يكفيك شر الأيام.

وجد فريد شوقي أن كلام والده مقنع إلى حد ما، فلا مانع أن يعمل موظفاً في النهار وممثلاً في المساء، إذ لا تعارض بين الوظيفتين، إنما لا بد من أن يخبر يوسف وهبي بهذا الأمر فلا يصحّ أن يخفيه عنه، لكن ما إن عرض عليه الأمر حتى فاجأه بأن عليه أن يستعد للسفر مع الفرقة في جولة بالمسرحية في عدد من الأقطار العربية.

أعاد يوسف وهبي الى فريد الحيرة من جديد، ماذا يفعل؟ فإذا كان وهبي يرى مستقبله في التمثيل وهو يميل أيضاً إلى هذا الرأي، ويرى والده أن مستقبله في الوظيفة الحكومية، فلا بد من رأي محايد، ففكّر في استشارة حكماء الفرقة من كبار الممثلين.

سأل محمود المليجي فبادره قائلاً:

* شوف يا فريد... أنا من رأيي إنك تقبل الوظيفة... صحيح ممكن يكون المرتب واحد هنا وهنا... لكن الفرق أن مرتب الوظيفة هتضمن إنك تاخده كل شهر حتى لو نمت في البيت... لكن هنا في الفرقة لو غبت يوم واحد مش هتقبض... وكمان ممكن تقبض شهر واتنين لا... ومتنساش أننا بنشتغل عند الجمهور... يعني لو الجمهور قعد في بيته ومانزلش يروح المسرح مش هنقبض... وبعدين شوف بقى أنا مع المثل اللي بيقول «إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه»... اتوكل على الله يا بني واقبل الوظيفة.

هذا الكلام أيّده أيضاً فاخر فاخر وحسين رياض، وبدلا من أن تُحلّ المشكلة زادت فريد حيرةً، غير أن جبهة قبول الوظيفة أصبحت أقوى.

اتخذ فريد القرار، ووقف والدموع تملأ وجهه، مختبئاً خلف أحد أعمدة محطة مصر، يراقب أفراد الفرقة وهم يستقلون القطار المتّجه إلى الإسكندرية حيث سيسافرون على الباخرة إلى بيروت لتقديم عرضهم المسرحي، ومنها ينتقلون الى بعض الأقطار العربية الأخرى.

الباشمهندس

استلم فريد شوقي وظيفته كمهندس في مصلحة الأملاك، غير أنه لم يحتمل وجوده فيها أكثر من شهر واحد، فاضطر الى مصارحة رئيسه بالمصلحة بأنه لا يصلح لأن يكون موظفاً ولا مهندساً. ترك فريد العمل وسط دهشة رئيسه، ولم يعد إليه متوقّعاً أن يصله بين اليوم أو الغد خطاب فصله لتغيّبه، لكن ذلك لم يحدث، فوالده صديق شخصي لمعالي الوزير!

خرج فريد من الوظيفة ولم يعد إليها، غير أن أهم ما خرج به منها هو مجموعة من الأصدقاء الموظفين الذين يشاركونه حب التمثيل. اعتاد هؤلاء اللقاء مساء كل ليلة في أحد المقاهي بمنطقة «باب الخلق»، يتحدثّون في التمثيل والمسرح والسينما، يبحثون عن متنفّس لهوايتهم. شعر فريد بالندم على الفرصة التي كانت بين يديه وبين أحضانه وتخلى عنها بسهولة، ولكن لا وقت للندم على ما فات ولا بد من التفكير في المستقبل، وماذا يمكن أن يفعل مع هؤلاء الأصدقاء الجدد من «شلة الموظفين» على اختلاف اهتماماتهم: عبد الرحيم الزرقاني، أكبرهم سناً ومهتم بالإخراج أولاً ثم التمثيل، وشقيقه الأصغر علي الزرقاني مهتم بالتأليف والكتابة، وأحمد الجزيري وكمال إسماعيل مهتمان بالتمثيل مثله، أما عبد الفتاح البارودي فهو مهتم بالصحافة وكتابة المقالات النقدية عن المسرح والسينما... وما يجمع بينهم جميعاً حب الفن.

لم يطل بهم التفكير، إذ كوّنوا فرقة مسرحية أطلقوا عليها اسم «الرابطة القومية للتمثيل» وكتب علي الزرقاني أول مسرحية ستقدّمها، على أن يخرجها شقيقه عبد الرحيم الزرقاني، ويقوم ببطولتها فريد شوقي ويشاركه أحمد الجزيري وكمال إسماعيل، لم يبقَ سوى البطلة التي ستقف أمام فريد شوقي بالمسرحية، لكن عبد الرحيم الزرقاني استطاع أن يتّفق مع شابة جميلة عاشقة للتمثيل اسمها زوزو حمدي الحكيم.

أما المسرح الذي سيعرضون عليه المسرحية فأمّنه عبد الفتاح البارودي الذي اتفق مع مدير مسرح الريحاني على إيجار المسرح في فترة «الماتينيه» على أن يكون عرض الريحاني في «السواريه»... قدّمت فرقة «الرابطة القومية للتمثيل» مسرحية «الفاجر» على خشبة مسرح الريحاني، في صيف 1945، ولاقت نجاحاً كبيراً، لتصبح أهم فرقة هواة في مصر كلّها.

بين الهواية والدراسة

استمرت الفرقة في تقديم عروضها حتى ساقت الأقدار فريد شوقي الى تعلّم اللغة الإنكليزية في المعهد البريطاني الذي كان أنشئ لتوّه آنذاك، ليكتشف أن للمعهد مسرحاً كبيراً، والأهم أنه متاح لمن يرغب من الطلبة الدارسين في المعهد، فوجدها فرصة لينضمّ بقية أفراد الفرقة إلى المعهد ليكون المسرح متاحاً لهم سواء في البروفات أو العروض من دون أي مقابل.

لم يكن فريد الوحيد الذي اهتدى إلى هذه الفكرة الثمينة، بل كانت ثمة مجموعة أخرى من الشباب من هواة التمثيل انضمت إلى المعهد للفكرة والسبب نفسيهما: استغلال المسرح، وهم: السيد بدير، صلاح منصور، محمد توفيق، محمود السباع، كمال حسين، نصري عبد النور، ماهر عبد النور، غيرهم. استطاع فريد إقناع أفراد فرقته بالانضمام إلى هؤلاء الشباب الجدد، فوصل عددهم جميعاً مجتمعين إلى 20 شاباً بين التمثيل والتأليف والإخراج والنقد المسرحي، فأطلقوا على أنفسهم «فرقة العشرين»، التي راحت تقدّم عروضها على خشبة مسرح المعهد البريطاني، سواء باللغة العربية، أو باللغة الإنكليزية، بل إن إدارة المعهد استقدمت لهم عدداً من أساتذة التمثيل في القطر المصري ليلقوا عليهم محاضرات في فن التمثيل والإلقاء، وكان من بينهم يوسف وهبي وعزيز عيد وزكي طليمات.

حرصت مجموعة «العشرين» على الاستفادة من كل كلمة في محاضرات هؤلاء العظماء من أساتذة فن التمثيل، خصوصاً أنه لم يعد يتوافر معهد أو مدرسة في مصر تقوم على تعليم هذا الفن، منذ أغلق حلمي باشا عيسى، «وزير التقاليد» كما كان يُطلق عليه، معهد التمثيل الذي أنشأه زكي طليمات في العام 1930، بحجة أنه يحرّض على الفجور، غير أن طليمات لم ييأس وظل يجاهد مع الحكومة المصرية لإعادة إنشاء هذا المعهد لأهميته القصوى لدى أي شعب متحضّر. وفي أول محاضرة ألقاها طليمات أمام مجموعة العشرين في بداية العام 1946، زُف إليهم الخبر السار:

* دعوني أزف إليكم هذه البشرى... فقد وافقت الحكومة المصرية على إعادة افتتاح المعهد القومي للتمثيل، وستبدأ إدارة المعهد في تلقي طلبات الراغبين في الانضمام للمعهد بدءاً من الغد، وسيتم تحديد الاختبارات خلال الأسبوع المقبل، وعلى من يرغب منكم الانضمام للدراسة بهذا المعهد، وإن كنت أنصحكم جميعاً بالانضمام إليه... فمن المؤكد أن الموهبة ضرورية ومهمة... ولكن الأهم صقلها بالدراسة.

في اليوم التالي كان فريد شوقي الأول في الطابور الذي وصل العدد فيه على مدار اليوم الى ما يزيد على ألفي متقدم. سحب فريد استمارة التحاق وكتب بياناته، وراح يساعد بقية أفراد العشرين في ملء استماراتهم، بل وآخرين غيرهم ممن توسّم فيهم خيراً، وتمنى نجاحهم، غير أنه أسقط في يده عندما علم أن إدارة المعهد قد حدّدت عدد 15 طالباً فقط سيتم قبولهم من بين هذا العدد، وما زاد قلقه، إعلانهم أن الأولوية ستكون للفتيات، لكن ما طمأنه أنه التقى أحد المتقدمين الذي سبق أن شاهده في مسرحية «بيت تهدم» مع فرقة رمسيس، فبادره قائلاً:

* حتى انت يا أستاذ جاي تقدم... انت فنان محترف... يعني أكيد ناجح ناجح. الدور والباقي على الغلابة اللي زينا.

بدأ سكرتير اللجنة ينادي على الطلبة الذين سيدخلون لحضور الامتحان واحداً تلو الآخر، وقف فريد ينتظر سماع اسمه... طال انتظاره حتى انتهى السكرتير من كل الأسماء، فذهب إليه فريد:

* يا أستاذ.. أنا مسمعتش اسمي.

- يبقى اسمك مش موجود.

* إزاي؟ دا أنا كنت أول واحد في الطابور.

- حاضر يا سيدي... اسمك إيه؟

* فريد محمد عبده... واسم الشهرة فريد شوقي.

- شهرة!! انت لسه دخلت من باب المعهد علشان يبقالك اسم شهرة... فريد... فريد... فريد... مش موجود يا أستاذ يا بتاع الشهرة.

البقية في الحلقة المقبلة

back to top