نموذجان لأوروبا
لقد عادت الفوارق في أسعار الفائدة على الديون العامة في منطقة اليورو إلى الاتساع من جديد، تماماً كما حدث قبل اعتماد اليورو، فالفوارق في ميزان المدفوعات أصبحت في ازدياد مضطرد. وتتحرك أزمة الديون السيادية بثبات من أطراف منطقة اليورو إلى قلبها، وتتسارع وتيرة نزوح رأس المال، فمنذ الصيف، ربما فرّ ما يقرب من 300 مليار يورو من رؤوس الأموال بالقيمة الصافية من إيطاليا وفرنسا. والآن تعمل مطابع النقود في بنك فرنسا وبنك إيطاليا المركزيين لأوقات إضافية في محاولة للتعويض عن تدفق الأموال إلى الخارج. ولكن هذا يزيد من شدة نزوح الأموال، لأن سكّ المزيد من النقود من شأنه أن يمنع أسعار الفائدة من الارتفاع إلى النقطة التي قد تجد رؤوس الأموال عندها البقاء مربحاً. إذا كانت أوروبا تعمل وفقاً لنفس القواعد التي تعمل بها الولايات المتحدة، حيث يتعين على البنوك الإقليمية التابعة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) أن تدفع للبنك، في مقابل أي سكّ خاص للنقود، بأوراق مالية مضمونة بالذهب، فما كانت لتنشأ الحاجة إلى سك كل هذا القدر من الأموال التكميلية، وكان فرار رأس المال ليصبح محدوداً، ولكن ما يحدث على أرض الواقع هو أن سك النقود محلياً يساعد على نزوح الأموال إلى الخارج. وإذا لم تكن منطقة اليورو راغبة في تبني ضوابط رأس المال، فليس أمامها سوى خيارين: إما أن تزيد من صعوبة سك النقود محليا، وإما أن تقدم ضمانات استثمارية في البلدان التي ترى الأسواق أنها غير آمنة. ويتمثل الخيار الأول بالطريقة الأميركية، التي تلزم المشترين أيضاً بتحمل المخاطر المتأصلة في الأوراق المالية العامة أو الخاصة، وبموجب هذه الطريقة، لا يُستعان بأموال دافعي الضرائب حتى في الحالات القصوى، وهذا يعني أن الولايات من الممكن أن تفلس. أما الخيار الثاني فهو الطريقة الاشتراكية، وهنا تؤدي ضمانات الاستثمار، عن طريق إصدار سندات اليورو، إلى تعميم المخاطر المتأصلة في الديون العامة، ولأن البلدان الأعضاء تقدم كل منها للبلدان الأخرى ضمانات ائتمانية مجانية، فإن أسعار الفائدة على الأوراق المالية الحكومية لم يعد من الممكن أن تتفاوت بما يتفق مع الجدارة الائتمانية أو احتمالات السداد. وكلما كانت أي دولة أقل صحة، انخفض سعر الفائدة الفعّال المتوقع على ديونها. وتستلزم الطريقة الاشتراكية بالضرورة حرية الوصول إلى مطبعة النقود، وهو ما اتسمت به منطقة اليورو حتى الآن. فما دامت البنوك- وبالتالي الحكومات التي تبيع ديونها للبنوك- قادرة على سحب الائتمان الرخيص بأي كمية من النظام الأوروبي للبنوك المركزية، فإن الوضع في أوروبا سيظل متقلباً، وسيستمر نزوح رؤوس الأموال، وستتراكم مطالبات التعويض الهائلة المستحقة على البنوك المركزية في قلب أوروبا، خصوصاً البنك المركزي الألماني والبنك المركزي الهولندي. وفي ألمانيا قد تبلغ مطالبات التعويض هذه نصف إجمالي صافي الثروة الأجنبية لدى البلاد، أو نحو 500 مليار يورو (653 مليار دولار أميركي). وبما أن هذه المطالبات ستضيع على الأرجح في حالة انهيار اليورو، فإن الضغوط السياسية الرامية إلى فرض حل إصدار سندات اليورو في النهاية أصبحت ساحقة. ولكن إذعان ألمانيا لهذه الضغوط من شأنه أن يقود أوروبا إلى نتيجة مأساوية. ذلك أن مرفق الاستقرار المالي الأوروبي في لوكسمبورغ قد يتحول إلى وكالة للتخطيط الاشتراكي، فيتولى تنظيم التدفقات من رؤوس الأموال العامة في أوروبا ويثبط وظيفة تخصيص الموارد التي تتولاها الأسواق. وستكون النتيجة انخفاض النمو، بسبب سوء توزيع رؤوس الأموال الشحيحة، والركود الاقتصادي في المناطق الأساسية. ولن تتحسن الأمور بالتحكم في تدفقات الائتمان بالاستعانة بحكومة مالية، وهذا هو ما قررت بلدان منطقة اليورو الآن أنها في احتياج إليه، ومادام المدينون قادرين على تحديد القواعد بشكل مشترك، فإن رؤوس الأموال التي ستتدفق في إطار هذا الترتيب ستتجاوز الحدود التي قد تسمح بها الأسواق. وسيتضح هذا التشوه حتى داخل البلدان المستفيدة من الائتمان الإضافي، لأن سندات اليورو لن توفر الأمن إلا للديون الحكومية في الوقت الحالي. وسيستمر المدينون في القطاع الخاص في مواجهة مصاعب جمة في إيجاد رؤوس الأموال، وهذا يعني أن الدولة ستتوسع نسبة إلى القطاع الخاص. ولقد أشار كبير خبراء الاقتصاد المؤسسين للبنك المركزي الأوروبي أوتمار آيسنغ إلى هذا بوصفه الطريق إلى العبودية. ولكن هذا الطريق لن يكون سلساً، لأنه يهدد باندلاع المقاومة من قِبَل دافعي الضرائب في الدول المصدرة لرأس المال والنقابات المهنية ضد تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج. وفي ألمانيا بشكل خاص، ستتراكم المقاومة الهائلة إذا دُفِعَت البلاد- بسبب إصدار سندات اليورو- إلى أزمة شبيهة بتلك التي مرت بها نتيجة للتقارب بين أسعار الفائدة الذي أتى في أعقاب العمل باليورو. وهذا يعني أن البديل الأميركي هو البديل الوحيد القابل للتطبيق، حيث يتم تحديد أسعار الفائدة القصيرة الأجل والطويلة الأجل وفقاً للجدارة الائتمانية التي يتمتع بها الاقتصاد، وكل من يريد أسعار فائدة منخفضة يتعين عليه أن يقدم ضمانات حقيقية. ولا يعني الخيار الأميركي بالضرورة تبني نهج التدخل الثقيل في التعامل مع البلدان التي تعاني الأزمة، فمن الممكن دمج هذا الخيار مع نظام قائم على تقديم المساعدة المحدودة المحسوبة، كالتغطية الجزئية للمستثمرين ضد مخاطر إعسار البلاد على سبيل المثال. إن هذا النموذج، الذي قامت بدراسته المجموعة الاستشارية الاقتصادية الأوروبية في مركز الدراسات الاقتصادية التابع لمعهد "آيفو"، من شأنه أن يحافظ على التأثير التأديبي المتمثل بالفوارق بين أسعار الفائدة، في حين يحدد لهذه الفوارق سقفاً من أجل الحد من حالات الذعر المتطرفة في أسواق رأس المال. والواقع أن هذا النموذج يمنحننا الآن الفرصة الأخيرة لتجنب اشتراكية الديون.
* أستاذ علوم الاقتصاد والتمويل العام بجامعة ميونيخ. «بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»