أميركا تقلص وجودها العسكري في أوروبا لاستعادة التوازن

نشر في 18-01-2012 | 00:01
آخر تحديث 18-01-2012 | 00:01
بينما يشعر الأميركيون بالغضب بسبب الجهود الدفاعية الضعيفة التي تبذلها بعض الدول الأعضاء في «الناتو»، لا تزال هذه المنظمة القناة الوحيدة التي توفر شركاء فاعلين عندما تريد الولايات المتحدة تنفيذ مهمة معينة ولا ترغب في تنفيذها بشكل أحادي الجانب.

أثار "الدليل الاستراتيجي" الجديد الذي أعلنه باراك أوباما في 5 يناير جدلاً واسعاً حول مستقبل القوة العسكرية الأميركية. في المعسكر اليميني، اعتبر النقاد أن تلك الخطط ستُمعن في تقليص النفوذ الأميركي لأنها تسعى إلى التوفيق بين الأولويات الاستراتيجية الأميركية والحاجة إلى توفير حوالي 500 مليار دولار من المدخرات الدفاعية خلال العقد المقبل.

أدى التخلي عن الافتراض السائد منذ 60 عاماً (مفاده أن الولايات المتحدة تستطيع الحفاظ على قوتها إذا شاركت في حربين ميدانيتين واسعتين في آن) إلى انتشار مشاعر الامتعاض والقلق. إنه افتراض غريب فعلاً لأن الولايات المتحدة واجهت صعوبات كبرى لتوفير الموارد اللازمة للفوز بالحربين في العراق وأفغانستان على الرغم من زيادة ميزانية الدفاع بنسبة هائلة بعد 11 سبتمبر 2001، وقد تعرضت الحملة الأفغانية لإهمال شبه كامل بسبب مستلزمات حرب العراق.

يسود إجماع على ضرورة إبداء رد مركز (على شكل عقيدة جديدة تُعرف باسم "المعركة الجوية البحرية") لمواجهة الإمكانات العسكرية الصينية التي تشهد نمواً متسارعاً ولتهدئة مخاوف الحلفاء في المنطقة بشأن طريقة تصرف القوة العظمى الناشئة، لكن تكثر المخاوف المتعلقة بالافتراض الذي تصدقه الإدارة الأميركية المقتنعة بأن الولايات المتحدة لن تضطر إلى خوض عملية واسعة لمكافحة التمرد فور رحيل قوات القتال من أفغانستان في عام 2015، وأن الإدارة تراهن بنسبة كبيرة على احتمال تسليم مهمة مكافحة الإرهاب إلى القوات الخاصة والطائرات المسلحة بلا طيار.

قد يكون مستقبل القوات الأميركية في أوروبا الموضوع الذي حصد أقل تعليقات وانتقادات ضمن الاستراتيجية الجديدة. ظاهرياً، تشمل هذه المسألة "معظم الدول الأوروبية" التي أصبحت الآن "تنتج الأمن بدل استهلاكه"، وهي تتناول أيضاً "الفرصة الاستراتيجية لإعادة التوازن إلى الاستثمار العسكري الأميركي في أوروبا" غداة الانسحاب من العراق وأفغانستان. تلمح هذه الخطة إلى أن وجود الجيش الأميركي في أوروبا هو من المخلفات المكلفة للحرب الباردة، وهي تشير إلى عدم وجود أي تهديدات كبرى على أمن أوروبا باستثناء إيران التي تطور صاروخاً باليستياً نووياً، ومن المتوقع أن يتصدى له نظام صاروخي دفاعي جديد بدأت الولايات المتحدة بنشره حديثاً.

سبق أن انخفض عدد الجنود الأميركيين المتمركزين في أوروبا من 213 ألف عنصر في عام 1989 إلى 41 ألف عنصر اليوم، وقد تم الاتفاق أيضاً على عودة واحد من ألوية القتال الأميركية الأربعة العاملة ضمن الجيش الأميركي في أوروبا بحلول عام 2015. أوصى القائد العسكري مارك هرتلينغ بالاحتفاظ بوحدة عسكرية وبوضع جدول محدد، لكن قد يرغب البنتاغون الآن بالمزيد كونه يجازف بتقليص حجم "القيادة الأميركية في أوروبا" (EUCOM) وحصرها ضمن مقرات شبه فارغة، ويؤكد الجنرال هرتلينغ وجود شرخ بين الميزانية والأمن القومي، وقد أبدى قلقه من التخلص من القوات التي تضمن حماية المصالح الأميركية، إذ يصعب إعادة إحياء تلك القوات بعد تفكيكها.

يبدو منطق التفكير الذي ترتكز عليه خطة "إعادة التوازن" شائباً لأسباب عدة: يتعلق السبب الأول بواقع أن منطقة "القيادة الأميركية في أوروبا" التي تشمل 51 بلداً تُعتبر واحة للاستقرار وتغطي بعض المواقع المضطربة، منها حدود جورجيا مع روسيا، وحدود كوسوفو مع صربيا، وحدود تركيا مع العراق وسورية. تدخل إسرائيل أيضاً في إطار "القيادة الأميركية في أوروبا". بفضل هذه المنطقة، تتراجع التهديدات الأمنية من الإرهابيين الذين يختبئون في الملاجئ الآمنة أو ينفذون الاعتداءات الإلكترونية.

أما السبب الثاني فهو أن أوروبا هي أقرب من القواعد الموجودة في الولايات المتحدة إلى المعارك التي يمكن أن تخوضها القوات الأميركية مستقبلاً (مع أن أوروبا تُبعد نفسها عن نقاط النزاع الأساسية في محيطها الخاص). يملك الجيش الأميركي في أوروبا راهناً وحدتين من أصل أربع في أفغانستان (لواء المشاة رقم 170 في مزار الشريف ولواء المشاة رقم 172 في بكتيكا، وهي إحدى المحافظات التي تشهد أبرز أعمال العنف في أفغانستان).

فضلاً عن تعبئة القوات العسكرية وتكليفها بالمهمات الخارجية، توفر "القيادة الأميركية في أوروبا" الخدمات إلى قيادتين مقاتلتين مهمتين هما "القيادة الأميركية في إفريقيا" (AFRICOM) و"القيادة المركزية الأميركية" (CENTCOM). في الشهر الماضي، تنقل أحد المراسلين ما بين تركيا وأفغانستان وحضر اجتماعات عدة بين الجنرال هرتلينغ وكبار المسؤولين الميدانيين، ولم يتردد القائد العسكري في السؤال عمّا يمكن تقديمه لتسهيل عملهم.

يتعلق السبب الثالث بواقع أن الاستراتيجية الجديدة تركز بشدة على التعاون العسكري مع الدول الأخرى؛ ولتحقيق ذلك، تقضي أفضل طريقة بأن يتدرب الجنود الأميركيون مع نظرائهم من الدول الأخرى.

يقول الجنرال هرتلينغ إن الأولوية الثانية بعد التدريب المشترك هي عقد شراكات فاعلة مع الدول المختلفة في منطقة عمل القيادة العسكرية. بحسب رأيه، يمكن بناء روابط الثقة مع الشركاء من خلال تبادل الأفكار والاستراتيجيات والإجراءات. خلال التدريب الأخير لاختبار الجهوزية قبل الانتشار العسكري في أفغانستان، تدربت الوحدة رقم (172) مع قوات عسكرية من تسعة بلدان أخرى، وهي البلدان نفسها التي شاركت في القتال لاحقاً إلى جانبها بحسب قول الجنرال.

ما يقارب الـ80% من القوات العسكرية المشاركة ضمن التحالف الذي يقوده حلف الأطلسي في أفغانستان مصدرها المنطقة الأوروبية، وقد تدربت أعداد منها في "مركز الجهوزية المشتركة المتعدد الجنسيات" التابع للجيش الأميركي في أوروبا في هوهنفيلز، ألمانيا. بعد خوض تدريبات واسعة النطاق في شهر أكتوبر، شملت اللواء الجوي رقم (173) وجنوداً من سلوفاكيا وبريطانيا وألمانيا، قال نائب الجنرال هرتلينغ، الرائد جيمس بوزر: "ستسمعون عن تعاون أمني استعراضي وتطوير قدرات الشراكة. هذا ما نفعله، وفي المقابل، لا تقوم أي وحدات في الولايات المتحدة بتطوير قدرات الشراكة".

بينما يشعر الأميركيون بالغضب بسبب الجهود الدفاعية الضعيفة التي تبذلها بعض الدول الأعضاء في حلف الأطلسي، لا تزال هذه المنظمة القناة الوحيدة التي توفر شركاء فاعلين عندما تريد الولايات المتحدة تنفيذ مهمة معينة ولا ترغب في تنفيذها بشكل أحادي الجانب. تجازف الخطة الأمنية التي طرحها أوباما بتضخيم أهمية الشركاء مقابل إضعاف فاعلية القيادة العسكرية التي تبذل أكبر الجهود لضمان نجاح تلك الشراكات بما يصب في مصلحة الولايات المتحدة.

back to top