عمر الحريري... ابن الوطن والفن البار

نشر في 04-11-2011
آخر تحديث 04-11-2011 | 00:01
 محمد بدر الدين عقب رحيل الشامخين هند رستم وكمال الشناوي، يغرب الفنان عمر الحريري وهو يقف حتى آخر لحظة في حياته على المسرح مقدِّماً للأطفال مسرحية «حديقة الأذكياء» مع فرقة المسرح القومي للأطفال.

كان عطاء الحريري الذي رحل في 17 أكتوبر 2011 شاملاً ومستمراً منذ تخرّجه في المعهد العالي للتمثيل عام 1947، ومعه زميل الدفعة ورفيق الدرب شكري سرحان، وأبناء الجيل كمال الشناوي وأحمد مظهر وصلاح ذو الفقار وغيرهم.  كذلك شمل عطاؤه المستمر المسرح والسينما ودراما الراديو والتلفزيون.

بدأ الحريري بعد تخرُّجه مباشرة العمل في المسرح القومي، ولفت انتباه الرائد المسرحي زكي طليمات فضمّه الى فرقته، كذلك أُعجب بموهبته الفنان الفذّ يوسف وهبي فاختاره في مسرحيّته «راسبوتين» ثم اختاره في فيلم «الأفوكاتو مديحة» عام 1950.

الحريري الذي تجاوز الـ85 عاماً، قضى منها أكثر من 65 عاماً في الشغف بالفن ورسالته، واصل العطاء الجميل الراقي في جميع حقول فن الآداء التمثيلي، بأعمال وأدوار لا يُنسى الكثير منها وسيظلّ يذكر بقيمته وتميّزه وروحه الخاصة وأسلوبه الدقيق المرهف في الأداء. تجاوزت أعماله الـ 180 فيلماً و87 مسلسلاً تلفزيونياً و70 مسلسلاً إذاعياً و34 مسرحية، فضلاً عن تأسيسه المسرح في ليبيا كما أسّس طليمات المسرح في الكويت، وهذا دور مصر الرائد والطبيعي عبر البناة الأكفياء.

كأنما أراد الحريري أن يغلق أقواساً بحياته بطريقة تخصّه، فقد بدأ حياته الفنية على المسرح وأنهى الرحلة عليه، وكان ضمن أبطال فيلم «الوسادة الخالية» الأربعة الرئيسين، من إخراج صلاح أبو سيف عن رواية إحسان عبد القدوس، وقد أسهم الحريري في نسج قصة حافلة بالعواطف الجياشة الصادقة والتأملات المتدفّقة في الحب والحياة، مع عبد الحليم حافظ ولبنى عبد العزيز وزهرة العلا، وها هو ينهي القوس قبيل رحيله بالوقوف مجدداً على خشبة المسرح مع البطلة والرفيقة القديمة الغالية لبنى عبد العزيز، التي حنّت بدورها الى فن الأداء الجميل بعد غياب طويل وسفر لعقود مع أسرتها خارج مصر، فعادت لتقف أمام الزميل القديم الرائع عمر الحريري في مسرحية «سكر هانم» وليناديهما الجمهور بإسميهما القديمين في «الوسادة الخالية»: سميحة والدكتور فؤاد!

عمل الحريري مع مخرجين مقتدرين، فإلى جانب أبو سيف في «الوسادة الخالية» (1957) و «هذا هو الحب» (1958)، عمل مع عزّ الدين ذو الفقار في «وفاء» و{نهر الحب» (1960)، ومع السيد بدير في «غصن الزيتون» (1962)، ومع يوسف شاهين في «الناصر صلاح الدين» (1963)، ومع حسن الإمام في «وبالوالدين إحساناً» (1976)، ومع سمير سيف في «دائرة الانتقام» (1976)، ومع هنري بركات (1979)، ومع علي بدرخان في «أهل القمة» (1981) وغيرهم...

في «أهل القمة» مثلاً، أمتعنا الحريري بمعزوفة أداء، في دور رجل الأعمال الذي مثّل عصر الانفتاح الزاحف منذ 1974، بتجاوزات بل انحرافات قلبت حال المجتمع ككل رأساً على عقب. عَبَر الحريري بأداء دقيق وإحساس كامل بالشخصية ووعي فكري بطبيعة الدور ومنطقه، أداء ودور يصلحان كدرس نموذجي، على قصر الدور نسبياً إلى جانب الأبطال الثلاثة البارعين: سعاد حسني ونور الشريف وعزت العلايلي. إنه الفيلم الاستشراف، الذي كان شهادة مبكرة على عصر، فقد أخرجه فنان سينما نابه هو علي بدرخان، عن قصة لأديب مصر والعربية الأكبر نجيب محفوظ الذي عبّر بنفاذ عن قضايا أكثر من مرحلة وأكثر من جيل، كذلك عُرض الفيلم في 1981، العام الأخير من حياة السادات مؤسّس عصر العودة إلى الرأسمالية القديمة باسم الانفتاح، النظام الذي أدى إلى عودة التفاوت الطبقي الصارخ على نحو تجاوز واقع ما قبل ثورة 1952!.

الحريري جزء لا يتجزأ من أعمال غدت كلاسيكيات في دراما الراديو والتلفزيون إلى جانب المسرح والسينما. قدّم في دراما التلفزيون على سبيل المثال، مسلسلَي «الإمام الطبري» إخراج مجدي أبو عميرة (1977)، و{أحلام الفتى الطائر» إخراج محمد فاضل (1978)، فوازير رمضان من خلال «ألف ليلة وليلة» إخراج فهمي عبد الحميد (1986)، ومسلسلات: «ساكن قصادي» إخراج إبراهيم الشقنقيري (1995)، «خالتي صفية والدير» إخراج إسماعيل عبد الحافظ (1995)، «الإمام المراغي» إخراج وفيق وجدي (2006)، و{شيخ العرب همام» إخراج حسني صالح (2010).. وغيرها.

في المسلسل الأخير قدّم الحريري دور والد شيخ العرب همام (يحيى الفخراني)، وكان دوراً متميزاً أبدع فيه الحريري أداء مدهشاً، مزج في نسيجه بين سن الشيخوخة وروح الطفولة وأحياناً الرعونة في تلك السن، مع التصلّب أو التشبّث بالرأي وعدم العدول عن القرار مهما حاول الإبن الذي  وإن كبر سناً ومقاماً فهو سيظلّ في نظر الشيخ ولداً صغيراً، لكن كم كان أداء الحريري رائعاً وقد امتزج فيه هذا الارتباك والتعثّر والتعنّت بحكم السن، بالحكمة الجميلة المصفاة، التي ـ بأداء الحريري ـ تعبّر كل كلمة فيها وكل إيماءة وكل نظرة ونبرة عن معنى دقيق نفاذ في الحياة!!.

عمر الحريري أحد الكبار في فن الأداء العربي، وسيبقى دائماً أحد الكبار الملهمين المنيرين، كفنان أخلص وتفانى في فنّه، وبرع وتألّق، وكإنسان راق رقيق دمث نبيل، في الوقت نفسه.

back to top