بداية ونهاية

يتساءل الدكتور علي: "هل يذنب المثقف حينما يسرف بالقراءة، تماما كما أذنب دون كيخوته بإسرافه بالقراءة والحلم!هل كتب على المثقف أن يكتشف دوماً عدم تلاؤم الحلم مع الواقع... وكم هو الواقع شرس... كما اكتشف دون كيخوته ذلك في آخر الرواية؟!هل المثقف محكوم بأن تهشمه طواحين الهواء وتوصله حد القنوط؟! مفارقة جلية لا يملك المرء أن يغفلها...هكذا هو المثقف... يقرأ... ويقرأ... ثم يقرر أن يهجر إقطاعيته، ويتخطى المستنقع الذي غرق الواقع في وحله، من أجل إعادة تشكيل العالم على هواه، لكنه لا يلبث أن يدرك... كم هي هلامية رؤاه!".عند كلمات الدكتور أقف في مواجهة مع النفس، فبالرغم من محاولات والدي الحثيثة لكشف الوجه الآخر للحياة، فإن كتب المدبولي وعشاءات النيل وغرف الهيلتون خففت وطأة زيارات الدويقة، حولتها إلى زيارات تراثية، لواقع أرثيه ولا أتصل به، إنه ذنبي وذنب كل مثقف أخذته كتبه في رحلة "هلامية" تفصله عن الواقع وتفصل له آخر يتكيف وما قرأ فيها، رحلة تزداد انفصالاً عن ذلك الواقع بيسر الحياة، فالثقافة في البيوت الميسورة كالطرق المبتورة، تأخذك لفة في مناحي الحياة... ثم تعيدك من حيث بدأت.ولكن هل "الهلامية" هي كل نتاج معاشرة الكتب؟ يقول الدكتور علي العنزي في ختام مقاله "يبدو أن أوان الاستفاقة من أحلام اليقظة قد آن... ولكن رباه... كم هي مُرة هذه الاستفاقة!"، وهنا أتساءل: هل يمكن للحظة الاستفاقة أن تبقي على الحلم الجميل بالعدل والإنسانية والرحمة؟ هل يمكن لإيماننا بالمعجزة الأكبر في هذه الدنيا، معجزة الإنسان وإرادته وتأصل الخير الفطري في نفسه أن يحول لحظة الاستفاقة الى مشروع إنساني ناجح؟في سن الثانية عشرة قرأت لبدر شاكر السياب من كتاب تحليلي لحسن توفيق أهداه لي والدي كأول كتاب شعر أمتلكه في مكتبتي الصغيرة: أسمع في كركوك والموصلأسمع في كركوك هذا النداءهذا حصاد الموسم المقبلنار وأشلاء ومجرى دماءلم أكن أعرف ما هما كركوك والموصل ولم حصادهما يغرقه الدم، ولم أشأ أن أسأل خوفاً من جواب لا يحتمله قلبي الصغير، كرهت الكتاب وحنقت على والدي إهدائي إياه، لكنني سرعان ما فهمت الرسالة خلف هذا الإهداء القاسي، فهمت أن وقت المواجهة حان، فهمت أن الكتب تختارني ولا أختارها، وأنها ملك صاحبها فإما أن تغرقه في أحلامه وإما أن توقظه على آلامه.لا يزال لحد اليوم، يقف كتاب بدر شاكر السياب بشموخه اللعين على رف مكتبتي، يتحداني، لكنني أتركه كمعركة أخيرة، عندما يقصرني العمر على المعارك الأدبية فحسب، أما اليوم فأنا أوفر طاقتي لأجيب عن تساؤل الدكتور علي العنزي حول مصير رحلتي: "أهي بداية الرحلة الضارية بالنسبة إليها أم هي النهاية؟".شكراً د. علي، سؤال الاستفاقة جرأني ففتحت كتاب السياب بعد زمن.* عنوان لرواية أديب العالم العربي نجيب محفوظ