يرويها أحمد فؤاد نجم: يرويها أحمد فؤاد نجم:

نشر في 04-08-2011 | 22:01
آخر تحديث 04-08-2011 | 22:01
الشاعر أحمد فؤاد نجم يكمل في الحلقة الرابعة من حكايات الفاجومي ويروي تفاصيل علاقته بالزمن الناصري والساداتي، من وممن التقاهم في السجون من نخبة البشر ورؤوس المعاناة، نتعرف إلى حاكم غزة العسكري اللواء عبد المنعم حسني، الذي أمضى سنوات في السجن لعدم إدراكه أن الثورة لم تغيّر النمط السائد في مصر زمن عبد الناصر، لم تمنع دولة العسس ولا نظام المخبرين، الذين يراهم شاعرنا فئة من «الغلابة» الذين صاحب الكثيرين منهم وأحبهم وأحبوه.

المرة الأولى التي أُحبس فيها لأسبابٍ سياسية كانت في عام 1969، آنئدٍ كانت أشعاري وأغنيات الشيخ إمام بدأت تأخذ طريق انتشارها في ربوع مصر، فقرر عبد الناصر حبسنا، ورغم أن ناصر كان، بالنسبة إلي، بطلاً قومياً إلا أنني غضبت عليه، والغضب منه كان غضب المحبين، غضب الذين وضعوا آمالاً كثيرة جداً على قيادة عبد الناصر، الذي جسد حلم التغيير، وأتذكر أن الراحل لويس عوض قال ذات مرة تعبيراً جميلاً جداً، كتبه حين مات عبد الناصر: «الناس الذين خرجوا وراءك هم الفلاحون والعمال، وهؤلاء في الحقيقة لم يحصلوا منك على شيء، بل كان عندهم أمل في أن هذا العالم القبيح القائم على الاستغلال والتفرقة الطبقية ممكن أن يتغيَّر».

عبد الناصر كان رمزاً للعرب، حين قال: «حيّ على العروبة»، كنا نحبه ونصدِّقه، والقسوة اللي كانت في شعري كانت موازية لعشقي لقيادة عبد الناصر وإيماني بها، عبد الناصر لم يكن يتكلم إلا ويقول إن الشعب هو المعلّم، الشعب هو الأستاذ، الشعب هو المعني بكل الإصلاحات وبكل الاهتمامات، هو كان فارس العرب، وما ضاعف من حبي لعبد الناصر بعد موته مشاهدة أمي تبكي عليه، فقلت لها: «تبكي على اللي سجن ابنك»، فقالت لي: «إنت غبي دا عمود البيت وقع»، عندها شعرتُ بعمق مكانة هذا الرجل في قلوب الناس.

سقوط الأسطورة

قبل يوم من وفاة عبد الناصر، طلب منه أحد الأصدقاء العرب الإفراج عني وعن إمام وقال له: «يا ريّس إمام كفيف ونجم عنده قرحة» وكان نايف حواتمة معهم، فرفض عبد الناصر بإصرار وغضب وقال: «ماحدش يجيب سيرتهم ونجم ده مش هيخرج من السجن طول ما أنا عايش»... لأن أولاد الحرام أفهموه أني شتمته شخصياً، لكن إذا كانت قصيدة «الحمد لله خبطنا» هي سبب الأزمة بيني وبينه فإن قصائد كثيرة بعدها عمَّقت هذه الأزمة وأوصلتنا إلى السجن مثل قصيدة:

«يا مرحرح خالص مالص

يا رفيع جداً وسمين»

والحقيقة أن الأسطورة وقعت أمامي ولأني أحببته جداً غضبتُ منه جداً لأنه جرجرني فترة طويلة خلفه، أحلم به أميراً للفقراء ومُخلّصاً للمُعذّبين.

في هذه الفترة، أثناء وجودي في السجن، عرفتُ مُخبراً طيباً اسمه شوقي، فوجئت به ينظر إليّ ذات مرة وهو يقول: «أصيل إنت يا أبو النجوم».. شوقي كان مخبراً غلباناً، وأنا سعيد جداً لأنني صديق لمعظم المخبرين، لأنهم غلابة، موظفون شاءت لهم لقمة العيش عملاً كهذا، أما «المرشدون» فهم ناس منحرفة لأنهم يعملون متطوعين لحساب «أمن الدولة» يعني بشر وضيعة فعلاً.

وأنا أعرف عن أصدقائي المخبرين كل تفاصيل حياتهم، من هو متزوج وكم عدد أولاده وأين يتعلمون، معظمهم أصدقاء يزورونني وأزورهم، وعلاقتي بالضباط أيضاً كانت علاقة محترمة نتناقش ونتحاور وأقرأ لهم أشعاري، أي أجبرهم على احترامي، ومنهم ضباط حبتهم جداً وأحبوني وساعات واحد يحب يرزِّل عليّ وأنا بالي طويل قوي، ولكن بعد كده أتحوّل إلى شخص مجنون، مرّة دخل عليّ ضابط رزل حب يضايقني، كنت أقرأ للجبرتي حين سألني: «إنت بقى أحمد فؤاد نجم؟» قلت: «إن شاء الله»، قال: «كل واحد يكتب كلمتين يعمل فيها بطل؟» فقمت بهدوء ووضعت «الجردل» الممتلئ بالبول على رأسه وطردته من زنزانتي.

باستثناء هذا الضابط لا يمكن أن أنسى ضباطاً محترمين، قابلتهم واحترمتُهم واحترموني، مثل اللواء صلاح طه، والد الصحافي محمود صلاح رئيس تحرير «أخبار الحوادث»، واللواء إبراهيم عزت واللواء سمير قلادة، هؤلاء مجموعة ضباط راحوا لعبد الناصر وطالبوا بتطوير المؤسسات العقابية، وسمير قلادة هو الذي غيّر حياتي وشجَّعني على دخول مسابقة لجنة الشعر في مجلس الفنون والآداب وطبع ديواني الأول، يعني «هو اللي فتح لي أبواب الدنيا».

مسلسل عبد المنعم بك

التقيت اللواء عبدالمنعم حسني (حاكم عام غزة) وقصة هذا الرجل تنفع مسلسل، اسمه عبدالمنعم بك حسني، ولد ونشأ وشبَّ في حي بولاق أبوالعلا، يعني مثلنا من أصول شعبية، وكان ضمن دفعة الرئيس جمال عبدالناصر في «الكلية الحربية»، وكان عبدالناصر يخصص يوماً كل سنة للدفعة حتى بعد أن صار رئيساً، وكان اللواء عبدالمنعم حسني في فترة زمنية مُعينة قائداً للجيش الشعبي، وكان المشير عبدالحكيم عامر يعطف على اللواء عبدالمنعم حسني وهو الذي عينه قائداً للجيش الشعبي، وقد حكى لي حكايته بأنه ذات يوم سأله المشير:

- ألا تريد شيئاً يا منعم؟

فقال منعم: «عقبال أولاد سيادتك ابنتي الصغيرة سوف تتزوج وزوجها مدرّس ففكرت لو أمكن ينتدب في قطاع غزة إلى أن يجهّز بيته من هناك مثلما يفعل الناس».

فلم يتوانَ المشير عامر عن تلبية طلب منعم ونادى على كمال الدين حسين، وزير التربية والتعليم، وطلب منه تلبية رغبة منعم، وانتهى الموقف عند هذا الحد.

انتهى لأن الوزير لم يفعل شيئاً، في العام المقبل التقى الأصدقاء في بيت الرئيس، وقد سألت اللواء عبدالمنعم حسني: «طبعاً إنت بلغت المشير بتصرف الوزير معاك».

قال لي: «لأ، وحياة عيالي أنا ما كنت ناوي إفتح الموضوع ده تاني».

قلت له: «أمال إيه اللي حصل؟»، قال: {الريس عبدالناصر وهو يسلم عليّ سألني عن أحوال البنت بعد الزواج، ولما لم أردّ على السؤال نظر إليّ المشير نظرة عتاب فقال لي المشير: {هو جوز بنتك ما اتنقلش قطاع غزة؟» قلت له «لأ يا فندم»، فنظر للرئيس وقال لي: «ولا يهمك يا منعم.»

وبعد حوالى شهر من الواقعة دي صدر قرار تعييني حاكماً عاماً لقطاع غزة واتصل بي المشير عامر تلفونياً وقال لي: «ياللا يا عم ولا تزعل روح اشتري جهاز بنتك».

ومن هنا اعتبر منعم واحداً من فرقة المشير وهو أبعد ما يكون عن ذلك، ولم يستطع أن يفرح الرجل، فقد حدثت 5 يونيو سنة 1967 وسقطت دولة المخابرات التي هي دولة المشير عبدالحكيم عامر، وعلى رأي المثل «جت الحزينة تفرح مالقتلهاش مطرح».

منعم لم يتمكن من الفرح بالمنصب الجديد، بل أخذ سعادة «الحاكم العام لقطاع غزة» مع الأسرى والأسلاب، وظل سجيناً أو أسير حرب إلى أن أطلقوا سراحه في صفقة تبادلية مع العدو الصهيوني، ورجع إلى أرض الوطن بالسلامة، فوجد أن الفريق محمد فوزي أصبح وزيراً للحربية، فظل يمشي في طرق وعرة أدت به في النهاية إلى جولة في معتقلات الدولة.

في البداية اتفق مع ضابط في سلاح الصواريخ على أن يبلغه يومياً عن الخسائر وعدد الشهداء الذين يسقطون كل يوم بفعل الضربات الجوية التي يوجهها سلاح الطيران الإسرائيلي إلى العمال والجنود والضباط الصغار، الذين يقومون ببناء قواعد الصواريخ على ضفة قناة السويس الغربية استعداداً ليوم العبور، دون أن يعلم أن المكالمات كلها كانت تسجّل وتُجمع في النهاية للرئيس عبدالناصر، الذي كان أيامها يعاني من السكّري وضغط الدم وتصلّب الشرايين، فكان يأمر باعتقال العنصر الذي تراه المخابرات خطراً على أمن الدولة! وحين سألت منعم بيه:

- ما كنتش عارف إنهم حيسجلوا لك؟

أجاب ببساطة: «كل مشكلتي إني صدقت اللي قالوا سقطت دولة المخابرات».

خفير أعجوبة

في السجن عرفت ولا فخر «الحاج محمد السوفيتي!» أعجوبة عصره وفريد زمانه، اسمه محمد، خفير بمزلقان قويسنا تضرب الإشارة حمرا يقفل المزلقان تضرب الإشارة خضرا يفتح المزلقان، ذات مرة قام موظفو «الدريسة» ـ صيانة وإصلاح قضبان السكة الحديد ـ بتخزين خشب الفلنكات الذي كان يساوي وزنه ذهباً للنجارين قرب محطة القطار التي يعمل فيها «محمد السوفيتي»، لهذا السبب رفض ناظر محطة قويسنا استلام خشب الفلنكات بحجة أن محطة قويسنا محطة فرعية وليس بها مخازن، وقال للمهندس القادم من القاهرة بالخشب «الله يرحم والديك يا باشمهندس شوف لك حدّ غيري ترمي عليه الرزية دي أنا راجل صاحب عيال.»

وبعد أخد ورد وجذب وشد هداهم تفكيرهم الشيطاني إلى تشوين الخشب عند المزلقان، وبتوقيع خفير المزلقان اللي عرف في ما بعد بـ{الحاج محمد السوفيتي» وبصموه على ورقة باستلام الخشب كعهدة وحذروه من اللصوص، لأن أي نقص في الخشب يعني الذهاب إلى السجن.

مهندس المنطقة كان لصاً، وفي ليلة قمرية حاول هو وثلاثة من رجاله سرقة الخشب، إلى أن خرج الحاج «محمد السوفيتي» من الظلام يصرخ:

- «مين هناك... اوعى تتحرك من مكانك».

المهندس كان مخبراً للاتحاد الاشتراكي فكتب فيه تقريراً بأنه «معادي للوجود السوفياتي في مصر» فدخل معتقل القلعة في خانة «نشاط معادي» وقضى هذا المسكين ثلاث سنوات في المعتقل وحين خرج لم يجد زوجته ولا أبناءه.

السادات

وأحد أشهر المساجين أيضاً محمد، قطب القيادي الإخواني الشهير.

في السجن، ولكل هذه الأسباب، ولدت معظم أشعاري لأني سُجنت تقريباً 18 عاماً، يعني طول فترة السادات 11 سنة حُبست منها تسع سنوات، ومن أشعار السجن قصيدة «اتجمَّعوا العشاق في سجن القلعة» و{صباح الخير على الورد اللي فتح في جناين مصر»، وكمان قصيدة «لما تهل البشاير في يناير كل عام»، وهذه القصيدة كتبت أيام السادات، وكان في يناير من كل عام يقوم بعمل ضربة أمنية استباقية ويقبض على المعارضين، وبصراحة كانوا أيام السادات يتخلّصون من المعارضين بالقتل في أي مكان وإلقاء الجثة في الشارع، ومرة أرادوا قتلي، عندما فوجئت بالضابط ثروت قداح يدقّ على الباب، وقلت: «أنا جايلك»، ثم ناديت على جيراني: يا محمد عبد الله يا أم حسين يا كرم، الحرامية جايين يسرقوكم، وبيقولوا إنهم مباحث أمن الدولة، قال لي الضابط: «معلم يا نجم»، قلت: «آه يبقى إنتم كنتوا ناويين تقتلوني بقى».

السادات ضاق بي أنا وإمام وماكانش فيه حلّ غير قتلي وأنا كتبت فيه شوية قصائد جننته، وأشهرها القصيدة اللي دخلت البرلمان:

«قل أعوذو

مد بوزو

الجبان ابن الجبانة

أكل غدانا أما لاقانا

شعب طيب

كل عشانا»

طول فترة السادات وأنا محبوس، بقي في الحكم 11 سنة، حيث صار لحياتي عنوان ورمز «أشعار وأسوار» بينهما صداقات وعلاقات، ومنهم مثلاً عبد الحكيم قاسم، الروائي الجميل، حسين شعلان وسامي خشبة، ودول أول ثلاثة شيوعيين قابلتهم في السجن، وعرفت منهم إن أعداداً كبيرة منهم مسجونون في معتقلات الواحات والفيوم وبني سويف والقلعة وأبو زعبل، ولمن لا يعرفهم، عبد الحكيم قاسم هو الروائي الكبير صاحب رواية «أيام الإنسان السبعة»، وسامي خشبة الناقد الأدبي المعروف وابن الناقد المسرحي دريني خشبة، وحسين شعلان الكاتب السياسي المعروف وكان معي لطفي الخولي.

وكمان عرفت اللواء كمال عبد الحميد، أستاذ عبد الناصر في الكلية الحربية مدرّس العلوم السياسية، واللواء طيار محمد صفوت خال عز العرب زوج بنت المشير عامر، وبعد ذلك جاء في سجن أبو زعبل صلاح عيسى، عقب أحداث 18 و19 يناير سنة 1977 غرفة 9، حيث تضمّ هذه الغرفة المناضل اليساري الكبير نبيل الهلالي وزكي مراد وإبراهيم عبد الحليم وفاروق أبو الحسن وزهدي العدوي ـ رسام الكاريكاتور ـ وهو من دراويش عمي الشيخ زكريا أحمد.

«يا فلسطينيه»

يا فلسطينيه

والبندقاتي رماكو

بالصهيونيه

تقتل حمامكو ف حماكو

يا فلسطينيه

وأنا بدي أسافر حداكو

ناري في إيديَّه

وإيديه تنزل معاكو

على راس الحيه

وتموت شريعة هولاكو

***

يا فلسطينيه

والغربه طالت كفايه

والصحر أنَّت

م اللاجئين والضحايا

والأرض حنّت

للفلاحين والسقايه

والثوره غايه

والنصر أول خُطاكو

يا فلسطينيه

والثوره هي الأكيده

بالبندقيه

نفرض حياتنا الجديده

والسكّه مهما طالت

وباتت بعيده

مدّ الخطاوي

هو اللي يسعف معاكو

***

يا فلسطينيه

فتنام عليكو البشاره

بالنصره طالعه

من تحت ميت ألف غاره

والشمعه والعه

والأمريكان بالخساره

راجعين حيارى

عقبال ما يحصل حداكو

***

القاهرة – 1969

«هلال العيد»

في نورك يا هلال العيد

يطير بينا

سفين عواّم

على الأحلام يودينا

نمد جسور

نعدّي بحور مغطيه

في مركب نور

عليه الحور مراكبيه

قلوعه من نسيج السوق

يهبّ الريح

ياخذها لفوق

ودفّه من أمانينا

بغير ملاح

تغوَّط في الغريق بينا

عشان نرتاح

نلاقي الموجه لحّاجه

ولا نرتاح ولا حاجه

نعود بالحيرة ونعدّي

بُحور بالحزن مواَّجه

وييجي العيد

هلاله جديد

يلاقي الناس حزين وسعيد

حسب شوقه يجود ويزيد

ويحرم الناس على كيفه

يولع للسعيد شمعه

ويطفي للحزين شمعه

ويرمي البسمة والدمعه

حسب شوقه

وعلى كيفه

ونورك يا هلال العيد

يطير بينا

سفين عواّم

على الأحلام

يودينا

القاهرة - 1969

back to top