أمير المنفى الأكبر 2-2

نشر في 06-06-2011
آخر تحديث 06-06-2011 | 00:01
 زاهر الغافري في يوم ماطر وقبل أن أقرأ كتاب اللا طمأنينة، كنتُ أعبر الجسر فقفزت من أحلامي هذه الصورة الشعرية:

الشمس تتسلق الأبراج وأنا أحلم بأشباح وقبّعة

فرناندو بيسوا.

سيأتي اليوم، سيأتي ذلك اليوم ليحمل آثامي

كلها إلى الإغفاءة الأخيرة.

هل كنت أحد أشباهه دون أن أدري؟

فرناندو بيسوا الذي عاش حياة شعرية واستنشق هواء البحر الحقيقي، كان نائماً هناك في مستشفى سانت لويس وهو يردد:

«لقد نسيت الموت أيضاً». كان طوال حياته يبحث عن نقطة ارتكاز في نفسه فوزع تلك «الحيوات» في أرواح أنداده وكان لكل واحد منهم سيرته الشخصية، وتاريخه، مكان ولادته وإقامته وأعماله الإبداعية.

هكذا انفرطت تلك الحياة إلى حيوات متعددة، مختلفة ومتناقضة أيضاً. لقد أخرجهم من ضلعه فأصبحوا أشخاصاً حقيقيين مستقلين عنه تماماً. سوف لن تغدو هذه الشخصيات المختلفة على مر السنين، استعارات لأنا بيسوا فحسب، بل طرائق في التفكير والمزاج والكتابة والعيش. ريكاردوريس، البرتو كاييرو، الفارودي كامبوس، برنارد سواريش، والشخصية الأقل شهرة بارون دي تايبي.

في الرواية المتخيلة «هذيان» عن سيرة فرناندو بيسوا في أيامه الثلاثة الأخيرة والتي كتبها أنطونيو تابوكي -أحد أهم المختصين والدارسين في أعمال بيسوا- تأتي الشخصيات الأربع لتزور بيسوا المريض والراقد في سرير الموت، في مستشفى سان لويس، تزوره كل شخصية على حدة، ويبدو الحوار بينها وبين بيسوا، مكثفاً وعميقاً ذا دلالات متعددة، كأنما بيسوا يحكي عن نفسه، يستعرض حياته، قبل أن يغادر الأرض، هادئاً، فكهاً، وكئيباً متألماً أحياناً، لكنه راض كل الرضا عن أنداده، وهو حين يودعهم يتمنى لهم حياة طيبة، كأنما لا يودع نفسه، كأنما غابوا بعيداً عنه وحين سمعوا بمرضه عادوا من أمكنة مختلفة لإلقاء النظرة الأخيرة عليه. في 29 نوفمبر من عام 1935 ودع بيسوا هذا العالم إلى الأبد بعد أن جهل «ما الذي سيأتي به الغد». وبعد أن كتب روائعه الشعرية بأقلام أشباحه. «دائما كانت الحياة تجرحني، دائماً كانت الحياة شحيحة، وأنا شقي» وفق تعبير الفارو دي كامبوس. ربما كانت مفارقة بيسوا العجيبة هي في هذا التعدد الخلاق الذي ابتدعه، هذه الأقنعة التي خلقها ثم اختفى خلفها والتي بلغت خمسة عشر شخصية وبأسماء مستعارة. كل شخصية شعرية تمتلك استقلالاً لغوياً وتركيبة كتابية تختلف عن الأخرى.

كل هذا عن سابق تصور وتصميم، لكن عن فكر يشع بالوحدة أيضاً إلى حد التلاشي، لنسمع ما يقول: «اليوم وصلت فجأة، إلى إحساس سخيف وصحيح. لقد تيقنت بنفسي في وميض باطني، أنني لا أحد، لا أحد ألبتة... أنا أرباض مدينة غير موجودة، أنا التعليق المسهب على كتاب لم يكتبه أحد. أنا لا أحد، لا أحد، لا أعرف لا الإحساس ولا التفكير ولا الإرادة، أنا شخصية في رواية لم تكتب، أطفو خفيف الوزن، متناثراً من غير أن أوجد، بين أحلام كائن لم يعرف كيف ينهيني؟».

أينبغي أن تكون الكتابة عن بيسوا حقل غفران تجاه الموت؟ أتكون قصيدته هي القصيدة الأخيرة حقاً؟!

back to top