في ذكرى رحيله: رائد الأغنية السعوديّة طلال مداح (1) ... طفولة معذّبة وصوت شجيّ يُطرب الأسماع
الفنان القدير طلال مداح أحد أبرز رواد الأغنية السعودية الحديثة، إذ استغرق مشواره الفني أكثر من نصف سنوات عمره، وقدّم ما يقارب الألفين ومئتي أغنية في مجالات الأغنية الوطنية والعاطفية. غنى من ألحانه مطربون في الدول العربية عموماً والسعودية خصوصاً، لكن المميز منها تلك الألحان التي أداها لنفسه، إذ تفنّن فيها وقدّم الجمل الغنائية الجميلة. تقدّم «الجريدة» عبر ثلاث حلقات صفحات من حياة الفنان القدير، متوافقة مع ذكرى رحيله الحادية عشرة، فقد توفّي على خشبة المسرح في 11 أغسطس عام 2000 وهو يؤدي إحدى أغنياته، في مشهد مؤثر استقطب أنظار المتابعين ووسائل الإعلام.
اسمه الكامل طلال بن عبد الشيخ بن أحمد بن جعفر الجابري من مواليد مدينة مكّة المكرمة في المملكة العربية السعودية في الخامس من أغسطس 1940، ونشأ في بيئة فقيرة، أما «مداح» فهو لقب زوج خالته علي عبدالحميد مداح الذي رباه على أثر وفاة والدته بعد ولادته بقليل واضطرار والده الى العمل سقاء في أحياء مكة، وعندما أراد زوج خالته تسجيله للدراسة سُجّل باسم طلال علي مداح في الكُتَاب ليتعلم القراءة والكتابة.أمضى مداح سنوات طفولته الأولى في حي أجياد في مكة المكرمة، لكن مع انتقال عمل زوج خالته إلى وزارة الدفاع في مدينة الطائف اضطرت العائلة، بما فيها طلال، إلى الانتقال إليها (1947) وسكنت بداية في منطقة باب الريع، ثم في حي الشرقية حيث أكمل طلال دراسته حتى شهادة الكفاءة ومن ثم عمل في البريد السعودي براتب شهري قدره 350 ريالاً سعودياً.له من الأبناء 13 ولداً من زوجاته الثلاث الأولى مغربية والثانية مصرية والثالثة سعودية، هم: عبدالله، رأفت، محمد، أحمد، رجاء، ملك، إخلاص، رشا، سارة، نورا، دنيا، خالد، نغم.بدأ طلال بتعّلم العزف على آلة العود على يد صديق طفولته المقرّب عبدالرحمن خوندنه الذي كان يملك آلة عود، وكان هو يعزف وطلال يغني نظراً إلى جمال صوته. خوفاً من والده، اقترح عبدالرحمن خوندنه على طلال أن يبقى العود في منزله، فراح الأخير يتدرّب على العزف عليه ويغني بين أصدقائه ومعارفه كهاوٍ.في ما بعد أتقن طلال العزف على العود على يد الفنان محمد الريس، ومن خلاله تعرّف إلى المقامات الموسيقية، ما ساعده على تقديم أغانٍ بدوية وشعبية كانت منتشرة في منتصف الخمسينيات من بينها: «بدر السما بادي» للمطرب طارق عبدالحكيم، «ويلاه» للمطرب حسن جاوه، بالإضافة إلى أغانٍ لمحمد علي سندي، وكبار المطربين في العالم العربي مثل محمد عبدالوهاب وأم كلثوم.فتح طلال مداح عينيه على زخم الدانات المكاوية والغناء الشعبي القديم ومجرور الطائف، ومن هذا التراث بدأ يتواصل مع الجلسات الفنية...لكن سرعان ما اكتشف أن قدره في الحياة أن يكون فناناً، فراح يغني في حفلات الزفاف والأمسيات في مدينة الطائف، مركز الطرب والموسيقى في ذلك الزمن في فترة الصيف، ويروي طلال أن أول مبلغ تقاضاه نظير غنائه في الحفلة كان 30 ريالاً سعودياً وكان مبلغاً كبيراً آنذاك.وفي إحدى الأمسيات حضر مدير الإذاعة السعودية آنذاك الأستاذ الفنان عباس غزاوي فأعجب بصوت طلال وطلب منه أن يأتي إلى الإذاعة في جدة لتسجيل أغنيات للإذاعة السعودية بصوته.أول أغنيةسجّل طلال أول أغنية له من تلحينه بعنوان «وردك يا زارع الورد»، شعر عبدالكريم خزامي، وقد أطلّ بها على المستمعين عبر الإذاعة السعودية عام 1959، فكانت السبب المباشر في شهرته. وبعدما أعطته الإذاعة السعودية فرصة للإطلالة عبر أثيرها في برنامج «بريد المستمع»، قدّم ثلاث أغنيات من ألحانه هي: «شذا الطير»، «أسمر حليوه»، «مشاعل بالحي»، بعد ذلك بدأت إحدى شركات الإنتاج تسجيل أغانيه.على أثر هذه الخطوة الناجحة، انتقل طلال إلى مدينة جدة، في الستينيات واستقرّ فيها، وقد اشتهرت في تلك الفترة أغنيات له من بينها: «أسمر حليوه»، تأليف طاهر زمخشري وألحان غازي علي، «مشاعل بالحي»، كلمات أحمد صادق وألحان طلال مداح.طبع أول أسطوانة له في مدينة المنامة في مملكة البحرين، ثم سافر إلى بيروت، في منتصف السبعينيات، وحقّق شهرة واسعة بعدما قدّم أغنية جديدة من ألحانه بعنوان «سويعات الأصيل» وبعدها أغنية «أهل الهوى»، في ما بعد أسّس شركة أسطوانات «رياض فون» مع الفنان لطفي زيني إلا انها أغلقت أبوابها مع ظهور شريط الكاسيت، كذلك أسّس شركة إنتاج فني سماها «سويعات الأصيل».نشاطه الفني في مصرسافر طلال مداح إلى القاهرة، للمرة الأولى، عندما كان في التاسعة من عمره، أما أول زيارة فنية فكانت في منتصف الستينيات عندما دُعي، ضمن مجموعة من المطربين العرب، لإحياء حفلة لمناسبة عيد تأسيس إذاعة «صوت العرب» وقد حققت له هذه المشاركة شهرة في القاهرة.بعد ذلك، شارك في حفلات {أضواء المدينة} في القاهرة مع عبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة ووردة وفايزة أحمد وحققت له هذه الحفلات انتشاراً واسعاً.غنى في القاهرة «مقادير» أشهر أغانيه عام 1393هـ أمام 40 ألف متفرّج في «ستاد نادي الترسانه»...على رغم النجاح الكبير الذي حققه طلال في أعماله الغنائية إلا أنه لم يوفَّق في تجربته في مجال التمثيل في السينما، إذ شارك عام 1965 في فيلم واحد «شارع الضباب» وأدى فيه دور البطولة مع المطربة صباح، وقدّم «الأصيل»، مسلسل تلفزيوني من إنتاجه يقع في 11 حلقة مع لطفي زيني وحسن دردير والفنان محسن سرحان.مع الملحنين العربأحد أبرز الملحّنين العرب الذين غنى لهم الراحل طلال مداح موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب في أغنية «ماذا أقول؟» بالإضافة إلى أغنية «منك يا هاجر داني»، إلا أنها لم تطرح رسمياً ولم تسجَّل مع فرقة موسيقية حتى وفاة طلال، لكنها طُرحت في الأسوق مسجلة على آلة العود والإيقاع في أواخر الثمانينيات. كذلك، غنى طلال للفنان الكبير محمد الموجي ثلاث أغنيات هي: «لي طلب»، «ضايع في المحبة» «الوطن»، للموسيقار بليغ حمدي «يا قمرنا»، وكان له تعاون مع الملحن إبراهيم رأفت في أغنيتين: «غلاب يا هوى»، «عز اغترابي»، مع الملحن جمال سلامة في أغنية «يا حبيب العمر»، لكنها لم تطرح رسمياً إلا بعد وفاته، ومع الملحن اللبناني مروان سالم.تعاون طلال مداح مع ملحنين سعوديين من بينهم: الفنان القدير طارق عبدالحكيم الذي غنى له أغنيات جميلة من بينها: «عاش من شافك»، «لمين إشكي غرامك»، «فات الأوان»، وأوبريت غنائي بعنوان «أفديك يا وطني».تعاون أيضاً مع الفنان عبدالله محمد في مجموعة من الأغنيات من بينها: «يا صاحبي»، «سويعات الأصيل»، وغنى من ألحان فوزي محسون: «يللي جمالك جعلني باكي متألم»، «يا حبيبي.. يا حياتي»، «مين فتن بيني وبينك»، «كلام البارحة تغير»، من ألحان عبادي الجوهر أغنيتين هما: «طويلة يا دروب العاشقين» و{عضة الأبهام»... من ألحان الدكتور عبدالرب أدريس غنى «أحرجتني»، ومن ألحان أبو بكر سالم وكلماته غنى «ده اللي حصل من بعد».كذلك، تعاون طلال مع الملحّن سامي إحسان في مجموعة من الأغنيات منها: «تكفيني أنت» و{مرت»، ومع الملحن محمد شفيق في «فاتر اللحظ» وغيرها، ومع طلال باغر في «أنا العاشق، ومع سراج عمر وصالح الشهري في «ما أودعك»، وغنى من ألحان غازي علي ثلاث أغنيات هي: «سلام الله يا هاجرنا» و{أسمر حليوه» و «جينا من الطايف».غنى طلال مداح لشعراء أغنية كثر من أشهرهم: عبدالله الفيصل الفقيه، ساري، سعود شربتلي، د. سعود بن عبدالله، عبدالكريم خزام السليماني، أسعد عبدالكريم. وفي تصريح له نشر في مجلة «عالم الفن» في27 أغسطس 1978 يقول:- «أعتبر نفسي من مدرسة طارق عبدالحكيم وأنا مدين له، ومعظم أغنياتي من كلمات الشاعرين الأميرين محمد الفيصل وبدر بن عبدالمحسن، وأنا أعشق كل ما يكتبانه في الأغنية السعودية، وهما اللذان طورا الأغنية السعودية في المدة الأخيرة».الأغنية الوطنيّة قدّم الراحل طلال مداح لبلده الكثير من الأغنيات الوطنية تقدَّر بـ 80 أغنية شكّلت معالم خاصة للأغنية السعودية، فكان أول مطرب في الخليج تناول وطنه وذلك في «وردك» (1959) ثم «وطني الحبيب أفديك يا وطني»، «أبشري يا بلادي»، « سعوديين».خلال أزمة الخليج أطلق أغنيات كثيرة من بينها: «المحبة والسلام»، «حبيبتي ديرتي»، «رقصة الموت»، «يا أهل الكويت»، «نحنه للفهد»، «تعيشي يا سعودية حرة»، «كويت الشهامة»، «ليه يا عرب»، «يابو البلد»، «ديرتي»، «أم الخليج»، وقد شارك في تلحين هذه الأغنيات أبرز الملحنين منهم: سامي إحسان، عدنان خوج، طلال باغر، محمد شفيق، وصالح الشهري.تميّز طلال بوقفته الشجاعة مع الكويت إبان الاحتلال العراقي الآثم حينما صدح صوته في أغنيات منها: «يا أهل الكويت»، «كويت الشهامة»، «أرضك أرضنا وعرضك عرضنا يا كويت»، كذلك شارك مع المطرب صالح الحريبي في أوبريت «سامحيني يا كويت»، وقدّم في أوبرا القاهرة في فترة الاحتلال العراقي الغاشم وشارك في أوبريت «إن الكويت لنا» من ألحان أحمد عبدالكريم، إخراج محمد المنصور، شارك فيها المطربون: أحمد الجميري من البحرين وعلي عبدالستار من قطر وصالح الحريبي.يقول الشاعر الغنائي عبداللطيف البناي كاتب الأوبريت: «رفض الفنان الراحل طلال مداح أن يأخذ فلساً واحداً عندما قدمنا عملاً معاً أثناء الغزو العراقي لدولة الكويت، وقد حاولنا معه أنا والزملاء في المركز الإعلامي في القاهرة كثيراً لكنه رفض وقال: لو أردتم دمي لقدمته».ألوان غنائيّة عربيّةرحلة الفنان القدير طلال مداح مع الغناء بدأت مع مرحلة الهواية ثم اتجهت إلى مرحلة الاحتراف، فاهتمّ بالغناء والتلحين وأولى الفولكلور الغنائي في الخليج والجزيرة العربية عناية خاصة.نجح طوال خمسين عاماً في الألوان كافة التي تطرقّ إليها في أعماله الغنائية التي قدمها لجمهوره بدءاً من أغنيته الفولكلورية «يا سارية خبريني» و{سويعات الأصيل» وأغنية «مقادير» أشهر أغانيه.قدّم مجموعة من الأغنيات بألوان غنائية عربية منها على سبيل المثال:- «يا حلوه شيلي اللثام» (باللغة الإنكليزية).- «يا مليحة» (باللهجة السورية).- «نايم المدلول» (باللهجة العراقية).- «غلاب يا هوى» (باللهجة المصرية).- «هيا بنا هيا» (باللهجة اللبنانية).- «طول يا ليل» (باللهجة التونسية).- «الليل يا أنت زمن» (باللهجة المغربية).- «هل تذكر يا أسمر» (باللهجة السودانية).- «ظبي اليمن» (باللهجة اليمنية).كفاح وصبرأكثر من خمسين عاماً قضاها الفنان القدير طلال مداح في مسيرة الأغنية العربية، رسم خلالها خطواته بكل كفاح وصبر وجلد، حتى حدد معالم طريقه وبصمته الخاصة على أي لحن يصوغه ويغنيه، وإن لم يكن بعض ألحان الأغنيات هو مؤديه، ذلك أنه قدم ألحاناً شجية لكمّ من المطربين والمطربات ما زالت تذاع حتى اليوم ومن هؤلاء: وردة الجزائرية، فايزة أحمد، هيام يونس، هالة هادي، سميرة سعيد، رجاء بلمليح، عبدالكريم عبدالقادر، عبادي الجوهر، عادل مأمون، علي عبدالكريم، عبدالله الرويشد، محمد المسباح، أروى، ذكرى، نبيل شعيل، محمد ثروت، رباب، داليدا رحمه، عزه مسعود، منى عبدالعزيز...شعراء كويتيونللشاعر الغنائي الكويتي عبداللطيف البناي نصيب في التعاون مع هرم الأغنية السعودية أبو عبدالله من خلال سبع أغنيات لعل أجملها وأبرزها «مرمر زماني» و{حط النقط فوق الحروف» والأغنية الرائعة «كلما دقيت وتد في الأرض» (1985) في أول عمل يجمعه مع البناي ويقول في مطلعها:كلـمـا دقـيــت في أرض وتــــدمــن رداة الحــظ وافتــني حصــاة- لحّن طلال من كلمات أحمد الشرقاوي أغنية «تدلل يا قمر» (1993)، ثم «ليش الغدر طبعك» (1995) من ألحان يوسف المهنا.- تعاون مع ماجد المهنا في أغنية «يا من بسهمه رماني» وهي من ألحانه وغنائه أيضاً.- من كلمات علي المعتوق لحّن «الحقوق» وغناها.- وآخر تعاون غنائي مع فناني الكويت كان مع الملحن سليمان الملا في ألبومه «لا نفترق».