النموذج الأوروبي... عنوان للفشل!
منذ إرساء الاستقرار في المجتمعات الأوروبية الداخلية بعد الحرب العالمية الثانية، لم يسبق أن بدت أوروبا منهكة وعاجزة لهذه الدرجة وكأنها توشك على الانهيار، ومع ذلك، لا تزال تلقي المحاضرات على مسامع العالم عن كل شيء، لكن لم تعد أوروبا قادرة على إدارة مجتمعاتها الغنية ولو بحد أدنى من الفاعلية والشرعية، إذ يُعتبر النموذج الأوروبي الآن عنواناً للفشل.
بعد الفوضى العارمة التي ضربت أثينا، وحوادث حرق السيارات بأعداد هائلة في باريس سابقاً، ها نحن نشهد الآن أعمال عنف رهيبة وسخيفة وغير مبررة في لندن وعدد آخر من المدن البريطانية!في كل زاوية من أوروبا الغربية، نجد حكومات مفلسة أو توشك على الإفلاس، إذ تعيش هذه البلدان بمستوى يفوق إمكاناتها وتعجز أو لا تريد إخبار الناس بحقيقة وضعهم المالي.عدا ذلك كله، نحن أمام آلية غريبة وغير ديمقراطية وغير ليبرالية تعتمدها الدول الأوروبية العظمى، وهي في الوقت نفسه آلية شاملة وحتمية لكن شائبة ومبتذلة وغير موثوقة كونها تعجز عن تحقيق أي نتيجة، ولكنها تستطيع التدخل في كل شيء واتخاذ قرارات من دون اللجوء إلى مبادئ الديمقراطية أو السيادة الوطنية، مع إضفاء طابع جديد من اللاشرعية إلى المجتمعات التي فقدت ثقة شعبها. لندن تحترق وتعود هذه الأحداث المشتعلة كلها إلى عزة نفس الشباب البريطاني.لا أحد سيستفيد من هذا الوضع مطلقاً، ومن المؤسف بالنسبة إلى الجميع أن يشاهد هذه الأرض الخضراء والممتعة تواجه هذا الوضع المتردي. تشكّل مأساة أوروبا انتكاسة لجميع البشر، وتحديداً للكيان الذي يُسمى "الغرب".عند التفكير منطقياً بالغرب، لا بد من الاعتراف بأنه يخضع لقيادة الولايات المتحدة ويشمل كندا وأوروبا الوسطى والغربية واليابان وأستراليا.جميع هذه البلدان ديمقراطية وغنية نسبياً، وهي تضم أنظمة اقتصادية مختلطة ورأسمالية، وترتبط بشبكة أمان مشتركة، أي حلف شمال الأطلسي، أو تكون حليفة الأميركيين مثل اليابان وأستراليا.توفّر هذه الدول حصة الأسد من المساعدات الدولية، وعلى الرغم من وجود أعداد كبيرة من الدول الأخرى في الأمم المتحدة، تلتزم هذه البلدان على وجه التحديد بمعظم المعايير الدولية، لكن يبقى الموسم الراهن ضعيفاً جداً بالنسبة إلى الغرب.منذ إرساء الاستقرار في المجتمعات الأوروبية الداخلية بعد الحرب العالمية الثانية، لم يسبق أن بدت أوروبا منهكة وعاجزة لهذه الدرجة وكأنها توشك على الانهيار، ومع ذلك، لا تزال تلقي المحاضرات على مسامع العالم عن كل شيء، بدءاً من أبسط أمور الحياة ووصولاً إلى ضرورة فرض ضرائب إضافية ومسائل أخرى، لكن لم تعد أوروبا قادرة على إدارة مجتمعاتها الغنية ولو بحد أدنى من الفاعلية والشرعية، إذ يُعتبر النموذج الأوروبي الآن عنواناً للفشل.يدرك جميع الخبراء الاقتصاديين في العالم أن الدول الأوروبية المنتمية إلى منطقة اليورو كانت ستصبح بوضع أفضل بكثير يخولها التعامل مع أزماتها الاقتصادية لو أنها كانت تعتمد على عملاتها ومصارفها المركزية الخاصة، لكن لا يستطيع أي طرف نافذ في أوروبا مواجهة هذا الواقع.يتابع مؤيدو النموذج الأوروبي تبرير هذه النزعة الجنونية وغير الديمقراطية المبنية على مركزية السلطة على اعتبار أنها تساعد الدول الأوروبية على تجنب الحروب في ما بينها.لكن ترتكز هذه الحجة، التي لا يصدقها أحد، على المفهوم غير المنطقي القائل إن الأوروبيين هم أقل مستوى من جميع البلدان الأخرى التي تتجنب الحرب من دون التنازل عن سيادتها لمصلحة هيئات خارجية مثل الاتحاد الأوروبي.لا تنتمي بريطانيا إلى منطقة اليورو، ولا تزال تحتفظ بعملتها الخاصة، لكن على المستوى الاجتماعي، هي جزء من أوروبا وتلتزم بأسلوب عيش يتماشى مع النموذج الأوروبي على صعد عدة. يمكن وصف النسخة البريطانية من النموذج الأوروبي بطرق إيجابية أو سلبية، بحسب حجم المصداقية الذي نوليه إلى طموحاتها الكبيرة أو مدى اقتناعنا بأن هذا النموذج قابل لتحقيق تلك الطموحات.لكن لا شك أن النموذج الأوروبي والنسخة البريطانية منه يشملان دولة الرفاهية الاجتماعية المبذِّرة، والتعدد الثقافي، ومستوى عاليا من التنظيم الاقتصادي، واختفاء أي مكان خاص بالديانات (ولا سيما المسيحية منها)، ونزعة التصحيح السياسي.يشكّل هذا العامل الأخير مصطلحاً مختصراً للتعبير عن شعور عام بالذنب والعار بسبب الإرث الحقيقي للحضارة الغربية، فضلاً عن الذنب والعار من التاريخ البريطاني، والرغبة في إضعاف الخطاب الذي ساد خلال الجيل الذي سبق الطفرة السكانية.ما من تفسير بسيط لأعمال الشغب هذه، إذ تشهد الدول الأخرى، منها الولايات المتحدة، أعمالاً مماثلة أيضاً. غير أن العوامل المدمّرة في النموذج الأوروبي تبقى متداخلة وتساهم بشدة في تعزيز المشكلة البريطانية.تؤدي دولة الرفاهية الاجتماعية، إلى جانب تنظيم الاقتصاد وسوق العمل– وهي التركيبة المعتمدة في معظم أنحاء أوروبا– إلى إحباط العمالة الهامشية.ربما من الإنساني منح الأموال للناس، لكن على المدى الطويل، تولد الرعاية الاجتماعية الجامدة كارثة تنعكس على كرامة متلقي الأموال وتحفيزه ومعنوياته وسلامة تفكيره.كذلك، يجذب نظام الرعاية الاجتماعية الشامل النوع الخاطئ من الوافدين، ولأسباب خاطئة أيضاً، فبدل السعي وراء فرص العمل، يُسَرّ بعض الوافدين بفكرة الحصول على الأموال من دون الحاجة إلى العمل.يكون الوضع كذلك على وجه التحديد إذا كان الجزء الوحيد من التقاليد التي احتفظ بها المجتمع متعلقا بالتمييز الطبقي أو بعض انعكاساته.قد تكون أوروبا الغربية أقل مجتمع متديّن في العالم، فقد أُضعفت الديانة المسيحية في بريطانيا ومعظم أنحاء أوروبا، مما يعني أنها أصبحت عرضة للإهانة والسخرية.في هذا المجال أيضاً، تتباهى أوروبا بنفسها كونها متفوقة على بقية دول العالم، مع أنها لا تواكب فعلياً بقية بلدان العالم نظراً إلى تاريخها وهيمنتها على الفكر الإنساني.تشجع المدارس، والجامعات، والمجالس الوطنية، ومجموعة لامتناهية من الهيئات شبه الحكومية على مبادئ سطحية ومنتقاة، وتستعمل لغة محددة للتطرق إلى المفارقات التاريخية العنصرية، وتفرض الرقابة على أعمال إنيد بليتون، وتروّج قيماً معزولة وعقيمة عن التسامح، لكن وسط الناس العاديين، لا سلطة فعلية لهذا الرياء.قد يحتفل الفكر العلماني بالوضع القائم في هذا الزمن الذي يتجاوز أحكام الدين في أوروبا، وتحديداً في بريطانيا، لكن كيف يمكن أن يصبح الشباب متماسكاً وموحداً وسعيداً إذا كان عاطلاً عن العمل ولا يستند إلى أي تقاليد أو أسس تربوية معينة، وإذا كان يملك أموالاً كافية نسبياً لكن من دون تطلعات كثيرة ولا ركيزة أخلاقية ولا من يساعده على التمييز بين الخطأ والصواب، وإذا كان لم يتعلم كيفية التحكم بانفعالاته، ولا يعرف شيئاً عن تاريخ بريطانيا عدا واقع أن هذا البلد كان مخزياً وعنصرياً ويميز بين الرجل والمرأة؟ما الذي يمنع هذا الشباب من الاستمتاع بحياته؟ وما الذي يدفعه إلى مهاجمة العاملين في سيارات الإسعاف وسرقة أجهزة التلفزة؟ما من سبب واحد وبسيط أو جواب واضح لتفسير هذه الأزمة البريطانية ولا المرض الأوروبي المتفشّي.لكن بغض النظر عن الكلام الذي تفوه به المسؤولون في بروكسل في العقود الأخيرة، يبدو أنه لم يكن نافعاً بأي شكل، بل إنه ولّد آثاراً جانبية سامة، وقد ثبت ذلك من خلال وضع أوروبا الراهن.