روح السرد في القصيدة

نشر في 04-12-2011
آخر تحديث 04-12-2011 | 00:01
 آدم يوسف تطغى روح السرد على كثير من الأعمال الشعرية التي مرت عبر عصور الإسلام المختلفة، فالقصيدة لم تكن في حينها مجرد وصف لمشاعر أو «هلوسات» وجدانية تقوم على المبالغة اللفظية، إذ إن الوصف الحسي ينتهي بالنص إلى طريق مسدود، بينما الانفتاح السردي، وتنوع الحدث، وتفاعل المكان والأشخاص كلها أمور تمنح الشاعر فضاء كتابيا، لا يتوقف بعد عدة أسطر، بل يمتد إلى ملاحم شعرية إذا أراد هو ذلك.

ويأتي «القص» أو السرد الشعري في صور متنوعة بحسب الأزمان والأشخاص، وكنا نقرأ بإعجاب معلقة لبيد بن أبي ربيعة حين يُغرق في وصف حدث عبر نص موزون يحوي كل العناصر السردية: المكان، الزمان، الشخوص المتحركة، وهي من يقوم بالحدث، كل هذه العناصر تجعلنا أمام «قصة» بكل مواصفاتها، وتشويق يتبع الحدث/ المعركة، كما هو مبين في القصيدة:

حَتَّى إِذَا يَئِسَ الرُّمَاةُ وَأَرْسَلُوا

غُضْفَاً دَوَاجِنَ قَافِلاً أَعْصَامُهَا

فَلَحِقْنَ وَاعْتَكَرَتْ لَهَا مَدْرِيَّةٌ

كَالسَّمْهَرِيَّةِ حَدُّهَا وَتَمَامُهَا

لِتَذُودَهُنَّ وَأَيْقَنَتْ إِنْ لَمْ تَذُدْ

أَنْ قَدْ أَحَمَّ مِنَ الحُتُوفِ حِمَامُهَا

فَتَقصَّدَتْ مِنْهَا كَسَابِ فَضُرِّجَتْ

بِدَمٍ وَغُودِرَ في الْمَكَرِّ سُخَامُهَا

ولعل كثيرا من الباحثين فطنوا إلى هذه الخاصية السردية في قصيدة لبيد بن أبي ربيعة، إذ وجدناهم يقدمونها إلى القراء مع رسوم توضيحية، أو صور تتبع مراحل الحدث، وهذا التصوير عامل خيالي أرى أنه محفز، ومقرب للفهم، وكذلك فإن طغيان العنصر السردي هو سمة مميزة للقصيدة في الشعر الجاهلي بمجمله، وقصائد المعلقات بشكل خاص. تمتد هذه الخاصية حتى تشمل الشعراء المخضرمين في عصر النبوة.

وهناك من يرى أن تغلب الميزة السردية في قصيدة عصر ما قبل الإسلام ناجم عن العرف الشعري الذي احتكم إليه الشعراء في ذلك الزمان، وهو الوقوف على الأطلال، ومن ثم وصف الحبيبة، و»حسن التخلص» كما يقولون، والانتهاء إلى الفخر، أو المدح، إن كانت القصيدة ملقاة على أحد الملوك أو السلاطين، والطرافة الحقيقية حين نقرأ إمعان ذلك الشاعر في وصف راحلته، والمفازات التي يمر بها، والدواب التي يواجهها، والمعارك التي تقع بين هذه الدواب، والمعارك التي خاضها مع فرسان قبيلته البواسل، كل هذه السمات التسجيلية مما يمنح القصيدة الجاهلية جماليتها، وأرى أن أهمية هذه القصائد تكمن في ما تثيره من حنين إلى الماضي، وتوثيق لحياة تكاد تندثر، وزمن يجهل فيه العرب القراءة والكتابة، فلم يعد أمامهم سوى الشعر، والرواة الحفاظ، برغم الكثير الذي قيل عن هؤلاء، والتشكيك في ما ينسبونه من قصائد.

وحين نقرأ «لامية العرب» للشنفرى، لا يعنيني كثيرا، إن كان الشنفرى ذاته قائلها، أم أبدع خلف الأحمر في نسبتها إليه، ولكننا نقف أمام قيم أصيلة مثل المروءة والشجاعة وعفة النفس.

واختيار قصائد المعلقات يأتي بناء على تكامل تلك العناصر «الطللية»، وانسجامها مع العرف العام الذي سارت عليه قصائد تلك المرحلة، وحتى إن قصائد امرئ القيس، والنابغة الذبياني، وطرفة بن العبد، وغيرهم تبقى رهينة بالحدث الذي تنطوي عليه أحداث القصيدة، إذ تبقى القصة عالقة في الذهن، حتى وإن غاب اللفظ، أو توارى خلف النسيان، فحكاية امرئ القيس ومغامراته العاطفية، وكذا ثورة طرفة بن العبد، وطيشه الشبابي، أو حكمة زهير بن أبي سلمى كلها تتجسد في الأذهان صورا وأحداثا، وليس مجرد كلمات وجدانية، ومن هنا تنبع أهمية السردي، واكتشاف معالمه في قصيدة ذاك الزمان.

back to top