تأثير تركيا في الوضع السوري
ستكون فكرة نسخ جميع التغييرات التاريخية التي مرت بها التجربة السياسية والديمقراطية التركية وإعادة لصقها وإنتاجها في مصر أو سورية (لمجرد أنهما مجتمعان مسلمان) منطقية، بقدر محاولة إقناع المكسيك بتبني أسلوب الحياة الأميركية لمجرد أنها بلد مجاور يضم غالبية مسيحية.
اتبع وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو سياسة خارجية طموحة تستهدف خلو علاقات بلاده الخارجية من المشاكل مع الجوار، لكن أوغلو (الذي يمكن أن يتحول إلى النسخة التركية عن كيسنجر) كان يحاول إثبات قدرته على تجاهل الغرب.صحيح أن الاتحاد الأوروبي، بقيادة فرنسا وألمانيا، يواصل تجاهله طلب انتساب تركيا إلى الاتحاد، لكن تركيا أصبحت أكثر خبرة من الناحية الدبلوماسية وأكثر تقدماً من الناحية الاقتصادية، وبالتالي هي تملك خيار طرح استراتيجية كبرى خاصة بها: أداء دور رائد لتشكيل اتحاد اقتصادي وسياسي في دول الشرق الأوسط، على أن يشمل الاتحاد سورية المجاورة وغيرها من بلدان المشرق التي كانت في الماضي الغابر جزءاً من السلطنة العثمانية.بين أحلام العرب وواقعهمغداة الربيع العربي، بدأ الدعم لهذا المفهوم الاستراتيجي الجغرافي يكسب زخماً ملحوظاً. يعتبر الناشطون الذين ينادون بالديمقراطية في تونس ومصر (إلى جانب المتوهمين في واشنطن وعواصم غربية أخرى) أن تركيا قد تكون النموذج المثالي للمنطقة كونها تمثل نظاماً ديمقراطياً مسلماً ناجحاً واقتصاداً مزدهراً يقوم على مفاهيم السوق الحرة، حيث يمكن أن يتعايش الإسلام السياسي والنزعة الليبرالية معاً. بالتالي، يمكن الحفاظ على مشروع داود أوغلو الإقليمي المبني على سياسة إبداء المصالح الوطنية استناداً إلى النزعة المثالية، أو ما يُسمى "القوة الدبلوماسية" التركية.لكن فيما توشك الأزمة السياسية في سورية على التحول إلى حرب أهلية دموية، يدرك داود أوغلو وزملاؤه في حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم أن إنشاء نسخة عن الاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط لا يقتصر على إرسال بعثات تجارية إلى العالم العربي أو إنتاج مسلسلات تلفزيونية رائعة أو التعهد بدعم القضية الفلسطينية.تكثر الخلافات بين الأميركيين والأوروبيين، ويشهد الشرق الأوسط الآن وضعاً متفجراً، وتعتبر تركيا أن الانجرار إلى تطورات المنطقة يشبه الانغماس في متاهة سياسية خطيرة، وأن القوة الدبلوماسية لا تكفي للخروج منها.وفيما يرتكز المفهوم القائل إن مصر ستصبح نسخة أخرى عن إيران على افتراضات تحكمها الميل لتغليب حتميات سياسية وثقافية، فإن التوقعات التي تشير إلى أن مصر (أو حتى اليمن والمغرب) ستتبنى في نهاية المطاف النموذج التركي، تعد مجرد تمنيات. فمن المعروف أن تطور تركيا وتوجهها نحو إرساء نظام ديمقراطي فاعل نسبياً حصل بعد أحداث درامية امتدت على قرن كامل وشملت عوامل متعددة مثل حكم أتاتورك، والفوضى الاجتماعية، والأزمات السياسية، والحروب العرقية، والانقلابات العسكرية، وحركة تحرير المرأة، وظهور طبقة وسطى جديدة ونخبة من رجال الأعمال.ستكون فكرة نسخ ولصق جميع هذه التغييرات التاريخية في مصر أو سورية (لمجرد أنهما مجتمعان مسلمان) منطقية بقدر محاولة إقناع المكسيك بتبني أسلوب الحياة الأميركية لمجرد أنها بلد مجاور يضم غالبية مسيحية.الاضطرابات السورية لا مفر من أن يتذكر أي مراقب أميركي وضع المكسيك عند النظر إلى الأزمة السورية. يبدو أن المخاطر الاستراتيجية التي تواجهها أنقرة بسبب الانتفاضة الحاصلة في سورية (لها أطول حدود مشتركة مع تركيا) تبقى مرتفعة بقدر المخاطر التي يمكن أن تُجبر واشنطن على التأهب والتحرك في حال بدأت المكسيك تغرق في حرب أهلية مفتوحة.خلال معظم فترات وجود تركيا واستقلال سورية، لطالما كانت العلاقات متوترة بين البلدين. نجم ذلك عن الاضطرابات التي وقعت بسبب مطالبة السوريين بأن تعيد لهم تركيا محافظة هاتاي وغضب تركيا من دعم دمشق للعصابات الكردية الانفصالية (مثل حزب العمال الكردستاني) والسيطرة على مصادر المياه الإقليمية. كادت قضية حزب العمال الكردستاني تسبب حرباً بين البلدين وكانت خلافاتهما العسكرية أحد أسباب التعاون العسكري الوثيق بين تركيا وإسرائيل.بدأ الانفراج الدبلوماسي بين تركيا وسورية قبل وصول رجب طيب أردوغان وحزبه الإسلامي إلى السلطة وقبل أن يطلق داود أوغلو استراتيجيته الخارجية التي تخلو من المشاكل مع الجوار. غداة الحرب الباردة، لم تعد سورية تستطيع الاتكال على موسكو كقوة عسكرية عالمية موثوقة. في غضون ذلك، واجهت تركيا سلسلة من الخلافات مع واشنطن بسبب سياساتها في الشرق الأوسط، وسرعان ما تأزم الوضع حين رفضت أنقرة دعم الولايات المتحدة في غزو العراق.ومن ثم، كان تزايد التعاون الاقتصادي والعسكري بين البلدين يتعلق أساساً بتغير مفهوم تركيا عن مصلحتها الوطنية، ولم يكن هذا التطور مرتبطاً بالإيديولوجيا الإسلامية الخاصة بحزب العدالة والتنمية. حتى إن أردوغان حاول التلاعب بالتزامات أنقرة المتناقضة التي تقضي بتحسين روابطها مع سورية والحفاظ على علاقاتها مع إسرائيل من خلال محاولة تسهيل عملية السلام بين الإسرائيليين والسوريين عام 2008. لكن سرعان ما انهارت المحادثات بعد أن استاء أردوغان من سلوك إسرائيل بسبب إطلاق حملة عسكرية في قطاع غزة الذي تسيطر عليه "حماس" في تلك السنة نفسها.ثم برزت الصعوبة الكبرى عندما حاولت تركيا الحفاظ على استراتيجيتها الخارجية السلمية تزامناً مع تراكم المشاكل مع سورية. منذ بداية الاضطرابات في سورية في السنة الماضية، لم تنجح ردود داود أوغلو في بث الروح الدبلوماسية الفاعلة التي برع فيها كيسنجر (حتى إنه لم يستطع مضاهاة براعة تجار اسطنبول في التفاوض وعقد الصفقات). يبدو أن الأتراك لم يثيروا إعجاب الحكام الانتهازيين في دمشق، فقد رفض هؤلاء مطالب أردوغان بتهدئة الوضع. إنه فشل للقوة الدبلوماسية التركية!أدى استمرار القمع في سورية، إلى جانب الاعتداء على البعثات الدبلوماسية التركية في دمشق ومدينتي حلب واللاذقية، إلى صدور خطاب صارم من أردوغان الذي أمر بإلغاء مشاريع مشتركة للتنقيب عن النفط مع سورية (بما في ذلك احتمال وقف تزويد البلد بالكهرباء) فضلاً عن تعليق تعهدات اقتصادية ثنائية أخرى. يبدو أن أردوغان فقد كل أمل بأن يستجيب الرئيس السوري بشار الأسد لمطالب وقف استعمال العنف، وقد أعطى الضوء الأخضر لتقديم المساعدة التركية إلى أبرز جماعة في المعارضة السورية: الجيش السوري الحر.هذا الأسبوع، صرح أردوغان أمام أعضاء من حزبه: "يجب أن يواجه بشار الأسد النهاية المأساوية التي يستحقها كل من يعلن الحرب على شعبه. أريد أن أذكره بأن المستقبل لا يمكن بناؤه على دم المقموعين. سيذكر التاريخ هؤلاء القادة باعتبارهم زعماء يتغذون على الدم".التوازن الصحيحلقد استعملت تركيا قوتها العسكرية حديثاً لمنع الحكومة القبرصية اليونانية من البحث عن رواسب الغاز التي تقع قبالة ساحل قبرص. لكن لا تتناسب معظم الجهود التي بذلتها تركيا رداً على الأزمة الحاصلة في جوارها مع طموحاتها لأداء دور دبلوماسي قوي في الشرق الأوسط.لا يجب أن يقف الأتراك أمام خيارَي تنفيذ تدخل عسكري شامل يهدف إلى تغيير النظام في دمشق أو عدم تحريك أي ساكن. من خلال التعاون مع أعضاء جامعة الدول العربية، على الأتراك أن يبحثوا عن حل إقليمي للأزمة السورية على أن يشمل إسقاط عائلة الأسد ومحيطها من السلطة. بعد نفيهم إلى موسكو، يجب نشر قوات حفظ سلام تركية وعربية في سورية.كذلك، يجب أن تمارس أنقرة وشركاؤها العرب (وليس الولايات المتحدة) الضغوط على موسكو وبكين لضمان موافقة الأمم المتحدة على هذا النوع من الاستراتيجيات، مع التحذير بأن الرفض سيُجبر تركيا على استعمال القوة العسكرية لحل الأزمة.تملك تركيا ثاني أكبر قوات مسلحة في حلف الأطلسي بعد الولايات المتحدة، وهي واحدة من أهم عشرة جيوش في العالم. حان الوقت كي تُظهر أنقرة أنها مستعدة لتسخير نفوذها السياسي والعسكري في المجالات التي جاهرت بها على مر السنوات الأخيرة.