نصف قرن على انتحار إرنست همنغواي...1

نشر في 14-07-2011 | 00:01
آخر تحديث 14-07-2011 | 00:01
مصارعة الثيران في مواجهة الموت

استعادت الأوساط الأدبية العالمية في 2 يوليو (تموز) الجاري ذكرى مرور 50 سنة على انتحار الكاتب الأميركي إرنست همنغواي، فأقيمت له أكثر من احتفالية في أكثر من مكان من العالم، وأعاد بعض دور النشر إصدار كتبه أو ألبومات صوره فضلاً عن الاهتمام بمحفوظاته بين كوبا وأميركا.

في هذه المناسبة، لا بد من إلقاء الضوء على بعض الجوانب في شخصية هذا الأديب صاحب «السيرة الملغزة»... وهنا حلقة أولى عن علاقته بمصارعة الثيران في إسبانيا.

قبل 50 عاماً، بعد ثماني روايات، أربع زيجات وجائزة نوبل، وفي صباح يوم أحد، تسلّل همنغواي من فراشه خشية أن يوقظ زوجته وخرج من الغرفة. ارتدى ما سمّاه «رداء الأمبراطور» وتناول بندقية بعيارين اعتاد أن يصطاد الحمام بها. اتّجه الى مدخل المنزل، ووضع الفوّهة على جبينه وأطلق النار على نفسه قبل أن يكمل الثانية والستين بتسعة عشر يوماً. فكانت نهاية رجل ذكوري فجّ وعاشق للخمور والنساء والصيد ويخاف من فراغ الورقة البيضاء وسليل عائلة من المنتحرين.

لم يكن انتحار همنغواي إلا تتويجاً لحياة تضجّ بتراجيديا الموت بجوانبها كافة، ومنها عشقه لمصارعة الثيران التي تشبه تماماً سيرته. فهو كان يعشق اللعبة - المأساة ويعتبرها نموذجاً عن مواجهة الإنسان للخطر وتحدّيه الموت بالاقتراب منه. فطالما ذكر النقاد ألا أحد يجيد إحياء تراجيديا مصارعة الثيران كهمنغواي، وهو كتب يوماً رسالة في مديح الثيران وتفوّقها على بني البشر، قال فيها: «الثيران لا تقترض منك المال، الثيران لا تتوقع منك أن تتزوجها لتجعل منها امرأة فاضلة. والثيران حيوانات قابلة للأكل بعد أن تقتل». وفي الرسالة نفسها وهي موجّهة الى الشاعر الأميركي عزرا باوند عام 1925، كتب همنغواي أن «الثيران أفضل من النقاد الأدبيين لأنها لا تكتب عروضاً للكتب».

أكثر من ذلك، خصّص همنغواي كتاباً يُعتبر دليلاً إلى مصارعة الثيران بشكله ومعناه ومضمونه بعنوان «الحياة بعد الظهر»، ويصوِّر فيه حياة مصارعي الثيران ويحكي فيها عن علاقته الحميمة مع إسبانيا، ليصل إلى أن القتل هو الهدف الأخير في مصارعة الثيران. وحين يتحقق ذلك تبلغ اللعبة غايتها السادية البهيجة، وفي ذلك كتب: «تجمع الأحداث لتشارف حدود الموت، يمنح معنى لكل أدوار المصارعة. ويقوم المصارع وحده بدور فني لأنه يسيطر لحظة الموت، ويتحكّم في تقريب الأجل، على نحو فني، ينقل للمشاهد شعوراً بخلوده، فإذا امتدت أسباب هذا الشعور بين المصارع والمشاهد، جذَّها المصارع بسيفه، كأنما يقطع حبلاً مسترخياً مرتاح النفس في تلك البرهة العاطفية، فحقّق ما يسميه أرسطو بالتطهير».

بيكاسو

يعتبر الناقد اللبناني ابراهيم العريس أن فن الفنون بالنسبة الى همنغواي، لم يكن لا الرسم ولا الموسيقى ولا السينما، وأن قمة الإبداع بالنسبة إليه لم تكن لا كتابة الرواية ولا الشعر ولا المسرح. قمة الإبداع والفن بالنسبة الى همنغواي، كما بالنسبة الى بيكاسو، الى حدّ ما، كانت مصارعة الثيران. وهذه المصارعة كانت أيضاً، في رأي همنغواي، إسبانيا نفسها. فكل شيء في إسبانيا يشبه مصارعة الثيران. ولا يمكن لأحد أن يتصوّر وجوداً لهذه المصارعة خارج إسبانيا. من هنا، حين فكّر همنغواي في أن يكتب عن إسبانيا ما إن وصل إليها، ذهب تفكيره مباشرة الى مصارعة الثيران.

ثمة تقاطع بين بيكاسو وهمنغواي، على الأقل لناحية العبقرية وتعاملهما الفج والفاجر مع النساء، وطبعاً حبّهما لمصارعة الثيران. إذ جسّد الأول أسطورة مصارعة الثيران عبر رسمها بطرقه المعروفة، ففي الأعمال التي حققها عام 1935 رسم علاقته بدورا حيث يتماثل الفنان بصورة المينوتور الذي يتحوّل نموذجاً ومرآة لبورتريه ذاتي متعدد الأشكال. صدى لطقس مصارعة الثيران التي ولع بها بيكاسو منذ صغره، يمكن للمينوتور أن يرمز إلى التسلّط الجنسي. ومنذ بداية علاقتهما، يُمثّل الرسام دورا على شكل مينوتور أنثى، كما في الرسم الأول الذي خصّه بها والذي تظهر فيه بقرنين على رأسها وبوَبرٍ يعلو جسدها، باردة الأعصاب، تعكس الضوء بواسطة يدها المفتوحة وتتصارع مع الشمس فتعميها وتطفئها.

في المقابل، ذهب ولدو فرانك في كتابه «إسبانيا العذراء» إلى أن المصارعة تولد نشوة تنتسب إلى الجنس بما تحققه من اتحاد المصارع بالثور في لحظة القتل، فإن همنغواي يرفض هذا المذهب «ولا يقع في أحبولة الرموز الفرويدية»، ويحاول على رغم اعترافه بلعبة المقامرة هذه كلها، أن يعطيها تفسيراً يحمل إدانته في ذاته. قال: «حين يثور الإنسان ضد الموت فإنه يجد لذة في انتحال صفة، هي منح الموت لغيره، لكن مصادرة الحياة من الآخر، في انتحال الحق الإلهي بمنح الموت، تنكشف في التطبيق عن حق مغتصب، عدواني وأثيم، حين نخرج بهذا الحق من دائرة الحيوان إلى دائرة الإنسان».

مأساة

يشرح همنغواي الأسباب التي تجعل الناس يحبون مصارعة الثيران، من ناحية، أو يكرهونها من ناحية ثانية، فهي بالنسبة إليه رياضة تفرز الناس وتجعلهم متجابهين، ليس فحسب في المراهنة على الثور أو على مصارعه، بل في تقبّل الرياضة ورفضها. وفي الرواية نفسها، صار همنغواي يعتني كثيراً بأسئلة الوجود وأصبحت الفلسفة تجاور إبداعه، وكم أسقطته من دون أن يدري في مستنقع المباشرة. إنه حب المصارعة وسؤال الموت، وفي أبريل (نيسان) 1925، كتب همنغواي أول رسالة إلى الناشر بركنز يقول فيها: «إني لأرجو أن أكتب يوماً عن المصارعة شيئاً شبيهاً بكتاب دوتي عن «الصحراء العربية» كتاباً ضخماً مليئاً بالصور المدهشة».‏ وفي 12 يونيو (حزيران) 1926 كتب إليه ثانية: «مصارعة الثيران هي الشعيرة الإسبانية الوحيدة التي انحدرت من الماضي على حالها، إذا استثنينا الشعائر الكنسية. ولما كانت تتعلق بالحياة والموت فإنها تثير معنى المأساة في النفوس، فالكتابة عنها ممتعة، خصوصاً لأن الناس خارج إسبانيا لا يعرفون حقيقة هذا الفن. ثم إن المصارعة حرفة تدر على فلاح شاب أو ماسح أحذية ثمانين ألفاً في العام، قبل أن يبلغ الثالثة والعشرين من عمره».‏ ويذكر الناقد الأميركي كارلوس بيكر في كتابه «أرنست همنغواي»: «كان همنغواي يقصد بكتاباته عن مصارعة الثيران أن يؤدي عن طريق النثر التصويري، ما أداه غوياً بالرسم في لوحة {مصارعة الثيران}».‏

منذ البدء آمن همنغواي بأن مصارعة الثيران «ليست لعباً وإنما مأساة»، ومع ذلك أمضى عام 1958 بصحبة مصارعي الثيران من المقرّبين إليه، وفي حينها طلبت منه مجلة «لايف» الأميركية أن يكتب موضوعاً عن مصارعة الثيران لا تزيد كلماته على الخمسة آلاف كلمة، لكنه كتب الموضوع بـ125 ألف كلمة، وعلى رغم تردّد المجلة في نشره عادت ونشرته كاملاً عام 1960 وانتهى همنغواي في العام نفسه من كتابة روايته «عيد متنقل» التي لم تنشر في حياته، وكانت آخر أعماله.

وجد همنغواي في مصارعة الثيران فرصة لاكتشاف الموت على الحلبة. وكان يرى أن موضوع الموت أحد أبسط المواضيع التي يجوز للمرء أن يكتب عنها، وأكبرها أهمية في آن. وظن أنه حين يرى الموت بعينيه فقد «يعمّق حسّه بالحياة والموت»، أي يحقّق المعاينة الدقيقة التي كان يهدف اليها في كل ما يكتبه.

back to top