جمال علي الحلاق في حريق.. نصوص بريئة من الثرثرة... ومتّهمة بالجمال

نشر في 26-09-2011 | 00:01
آخر تحديث 26-09-2011 | 00:01
No Image Caption
يتساءل القارئ: ماذا يريد الشاعر من النصّ المغلق؟! وعند بوابة الطلسمة لا بد من الوقوف لمقاربة الوضوح والغموض. فالوضوح على إبداع هو منتهى الصناعة، ولا يستطيعه شاعر إذا كان لا يتقن السير في غابة ضباب ليعبر منها إلى نجمة لغوية واضحة. والغموض على إبداع لا يعني الفوضى المطلقة في دعوة المفردات إلى وليمة النص، إنما هو فوضى منظمة تنظيماً خاصاً تسمح للمتلقي بممارسة الانفعال وتمنحه حقّ الفهم والقبض على المعنى، فهل الكثيرون من أهل الحداثة يرضون بهذا الكلام؟

في جديده الشعري «حريق» يحتفل الشاعر جمال علي الحلاق بالعبثية، ويمارس احتجاجاً وجودياً بلغة مرّت على غربال دقيق لتنجو من الثرثرة.

الجملة في «حريق» مضغوطة، وتكاد تتّسع لذاتها، والوضوح حاضر بزيارات خاطفة، أما الغموض فهو سمة نصية لافتة.

يستهل الحلاق بوحه، فيقول: «كمن يتكئ على موجة/ هذا المعماري/ وهو يعيد صياغة الفراغ». بساط التأويل واسع أمام هذا الكلام، غير أن للعبثية فيه رائحة لا تخفى، فالموجة هي مياه متحرّكة على طريقة الرمال المتحرّكة، والمعماري قد يكون أي إنسان يبني شيئاً ما: يبني بيتاً، أو ولداً، أو امرأة، أو وطناً، أو نصاً، أو قصر نوم لعينيه... وليس البناء المنجز أكثر من نحت الهواء أو حراثة المياه، إذ إنّ الشكل والوجود اللذين يسعى إليهما المعماريّ لم يتحققا، إذا، يحضر المعماري دائماً ويتخلّف البناء عن الحضور.

وتأتي النصوص اللاحقة أيضاً، لتؤكد هذا المنحى التأويلي: «الوجود كلمة دسمة،/ شجرة عالية ومسنة/ لا يمكن للعين احتواؤها». فالحلاق لا تخدعه دسامة كلمة الوجود، ولا وقعُها، ولن يكون أسيراً بين «واوَيْها»، لأنه لن يتسلّق شجرة شاهقة لا تثمر سوى العجز واللاشيء، ولن يكلّف عينه عناء الاتساع لفراغ أكبر منها، لذلك يكتفي بأن يجلس تحت كلمة ويضحك: «على قصيري الحواس».

وإذا كان لا بدّ من البحث فعن: «كلمة تقول الأشياء دفعة واحدة/ عن معنى لا ينسى/ ويشير/ حتى إلى ما لا أعنيه». وقد تكون هذه الكلمة موجودة، لكن، وبكل تأكيد، ليس في اللعنة. كلمات اللغة يتفرّغ كل منها لمعنى، لمعنيين، لثلاثة... أما الكلمة التي تقول كلّ شيء فهي منفردة أكبر من اللغة كلها، ولن يجدها أحد إلا في قاموس الأحلام، وكتاب الألم الوجودي، فالشاعر يريد أن يتخطّى قفص التراب الذي فيه ويجتاز الإنسان الذي فيه، لكن سرعان ما يكتشف أن ما يريده يقيم على شرفة المستحيل فيقول: «أريد أن أنجو/ ولا أعرف». وفي ظلال العبثية يعلو شجر للحزن، وكأن الحزن شعور بديل من اللغة، أو هو لغة مكتفية إلى حدّ أنها تعيش بلا كلمات: «تعالي أحدثك/ عن الحزن الذي يخلق التضاريس/ قليلون جداً الذين يغرقون إلى هذا الحد». من هي المخاطبة؟ أو ما هي؟ وأين يتم الغرق؟ لا هم ولا مشكلة في الإجابة عن هوية أو ماهية المخاطبة، إنها امرأة على الأرجح، أو إنها على الأرجح ليست امرأة، فالسر يكمن في الحزن والغرق، وما حزن الحلاق سوى ابن الوقوف عند بوابة الدنيا الغامضة، وابن استحالة التعبير باللغة أو بالجسد، وما غرقه سوى ثمرة شوقه إلى المعرفة بحثاً عن جسر يوصله إلى حديقة سلام لينجز مصالحة متواضعة مع الوجود. ولا ننسى «التضاريس»، إنها أورام الحزن الخبيثة ولو كانت جبالاً، فالأرض من تراب وهواء وماء... وحزن أيضاً.

حاسة سادسة

في طريق البحث عن الذات، ينشد شاعر الحريق ذاته في الآخر: «السنارة حاسة سادسة/... وقد تكون أيضاً رحلة في التأمل تشبه كثراً ينتظرون ذواتهم عبر الآخر». إلا أنّ بعض الرموز يبقى مغلقاً، كأن يقول الحلاق، على سبيل المثال: «لم يكن الأسبوع هشاً، ومع هذا فقد جرى دون سمكة». لا شكّ في أن كلمة «سمكة» تحمل على ظهرها معناها، لكن هذا المعنى لا يبدو على علاقة جيدة تتّصف بحسن الجوار مع غيره من المعاني السابحة في ماء النص، وإذا كانت «السنارة» و»الاصطياد» و»الأسماك» تنتمي إلى صفحة معجمية واحدة.

ويظهر الحلاق متمكناً من الجملة، مهتماً بها أكثر من اهتمامه ببناء النص ككل: «أعرف سيلان الوقت والأصدقاء» أو: «الأيام فائض قيمة يتناهبها الناس»، أو: «ها هي ذي الحياة، كعادتها، تتخذ أجسادنا طعماً لاصطياد الموت»... لقد أظهر الشاعر في مثل هذه الجمل تقنية عالية في جعل الكثير من المعاني يستوطن القليل من الكلمات، وليس من السهل أن تندرج هذه الجمل في نصوص، لأنها بحد ذاتها نصوص وأبنية لغوية كاملة، وهي وإن وجدت في النص متّصلة بما قبلها وما بعدها فإنها تحتفظ بشيء من حضورها المستقلّ.

والزمن ليس بريئاً من دم الشاعر، فالأمس لا يمضي، والغد نافذة تطل على شبحه: «الوقت متحف التذكر»، وهكذا تصير الذاكرة صخرة على كتف صاحبها، صخرة تنمو مع كل غد فكأن الآتي وهم بالجديد، وليس غير صياغة أخرى للماضي المتّسع لألف صياغة وصياغة.

ويمد النوم يده للحلاق، لعقله المتصبّب عرقاً: «أركن العقل جانباً/ أنساق لرغبة الجسد/ في الصعود إلى النوم،/ من قال إن الأفكار لا تنمو في حدائق النعاس؟!»... العقل ينبوع تعب في الشاعر، لا يخمد خريره المؤلم إلا النوم المتحوّل بحيرة يطفو العقل على مياهها مرتخياً، مستسلماً لاستقالته من الإنتاج. وهذا النوم عال، ما يعني أنه صعب ولا بد من سلم إليه، لكنه شهي وخصب فهو حديقة أعشابها الأفكار التي تنمو تحت شمس اللاوعي فتكون مفاجأة الصباح والشاعر في آن.

دوران

وما دوران الحلاق الدائم حول عقله مبغاة اصطياد المعنى، كل المعنى، إلا تقليد للأرض المجتازة نفسها بالدوران: «والأرض مدورة/ فقط لأنها/ تتجاوز نفسها بالدوران». فكأنه يرصد الكمال بالحركة الدائرية، وقيل: إن الدائرة أتمّ الأشكال. ولن يكون الدوران أكثر من وسيلة للوصول إلى شيء من التلاشي والخدر والارتماء في الغيبوبة الثريّة الضاجة بالمعنى توقاً إلى الاتحاد بما لا يدركه العقل، وفي هذا الحين يسقط سلطان العقل ويصير الإنسان غابة أحاسيس مبهمة وجميلة على غير تفسير.

ويبقى القلم وحده عكاز الحلاق في صقيع الوجود، يرسم به جبلاً وشمساً تتسلّقه للشروق، ويفكّك به ذاكرته المركبة ليعيد بناءها بمشيئة قلقه ووجعه: «الكتابة ضرب من المستقبل،/ تفكك الذاكرة/ لتصوغها ثانية» لا شيء يفوق الكلمة قدرة على إنجاز شبه توازن بين صاحبها والوجود، وحدها تتدخل بشجاعة وترمم الوقت المكسور والذات المتشظية وترتب الأيام في الذاكرة ترتيباً مقنعاً. ويدرك الحلاق أنه ليس وحيداً: «لست وحيداً/ فالوجود ضجيج هائل/ حتى وأنا أغلق مساماتي كلّها/ أسمع دبيب دمي»... لكن مشكلته أن يقرأ هذا الضجيج الذي يمارس حجب المعنى، وأن يحقن عروقه بالسلام وصولاً إلى حياة تعرف ذاتها.

متشابه وجع الحلاق على امتداد «حريقه»، ومن كلماته تمد النار أعناقاً على جمال وقلق وألم. وميزة نصوصه أنها بريئة من الثرثرة، متّهمة بالتوثّب... والإبداع.

back to top