إعادة توجيه أميركا

نشر في 22-11-2011 | 00:01
آخر تحديث 22-11-2011 | 00:01
No Image Caption
 ريتشارد هاس قبل نحو أربعين عاما، عندما التحقت بجامعة أكسفورد كطالب للدراسات العليا، كشفت عن اهتمامي بالشرق الأوسط، ولقد أُخبِرت آنذاك أن هذا الجزء من العالم يندرج تحت عنوان "الدراسات الشرقية"، وأنني سأبدأ دراستي تحت إشراف الأستاذ المناسب، ولكن عندما وصلت في موعد مقابلتي الأولى إلى مكتب الأستاذ، وجدت الأرفف التي تحمل كتبه مصطفة بمجلدات تحمل أغلفتها كتابات باللغة الصينية، وتبين لي أنه كان متخصصاً فيما بدا لي وكأنه المشرق الخطأ، في ذلك الوقت على الأقل.

ويبدو أن السياسة الخارجية الأميركية انزلقت إلى شيء أشبه بهذا الخطأ، فقد انشغلت الولايات المتحدة بالشرق الأوسط- المشرق الخطأ من أكثر من جانب- ولم تعط الاهتمام الكافي لشرق آسيا ومنطقة الباسيفيكي (المحيط الهادئ)، حيث سيدون التاريخ العديد من أهم صفحاته في القرن الحادي والعشرين.

والنبأ السار هنا هو أن هذا التركيز بدأ يتبدل الآن، بل إن تحولاً هادئاً يجري الآن في السياسة الخارجية الأميركية، وهو التحول المهم الذي جاء متأخراً إلى حد كبير، فقد أعادت الولايات المتحدة اكتشاف آسيا.

ويُعَد تعبير "إعادة الاكتشاف" مصطلحاً أساسياً هنا، فقد كانت آسيا أحد مسرحين أساسيين في الحرب العالمية الثانية، ثم تقاسمت آسيا الأهمية مع أوروبا أثناء الحرب الباردة، بل إن اثنين من أعنف صراعات هذه الفترة جرت وقائعهما على البر الآسيوي: الحرب في كوريا ثم في فيتنام.

ولكن مع نهاية الحرب الباردة وزوال الاتحاد السوفياتي، تراجع الاهتمام الأميركي بآسيا، وأثناء العقد الأول من عصر ما بعد الحرب الباردة، وجهت الولايات المتحدة قدراً كبيراً من اهتمامها نحو أوروبا. كما ركزت أميركا في الأساس على توسيع منظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" لكي تشمل العديد من بلدان حلف وارسو سابقا، وعلى التعامل مع حروب ما بعد يوغوسلافيا. ثم بدأت المرحلة الثانية من عصر ما بعد الحرب الباردة بالهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر 2001. وأعقب ذلك عقد من التركيز الأميركي على الإرهاب والالتزام الواسع النطاق بإرسال قوات عسكرية ضخمة إلى العراق وأفغانستان، حيث اندلعت حربان حصدتا أرواح أكثر من 6000 من الجنود الأميركيين، وتكلفتا أكثر من تريليون دولار أميركي، واستهلكتا ساعات لا حصر لها من وقت رئيسين أميركيين وكبار موظفيهما.

ولكن هذه المرحلة من السياسة الخارجية الأميركية تشرف الآن على نهايتها، فقد أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما أن القوات المسلحة الأميركية ستخرج من العراق بحلول نهاية عام 2011. وفي أفغانستان بلغت القوات الأميركية ذروتها ثم بدأت في التناقص؛ والسؤال الوحيد الآن يدور حول سرعة الانسحاب وحجم ودور أي حضور عسكري أميركي قد يظل هناك بعد عام 2014.

كل هذا لا يعني أن منطقة الشرق الأوسط لا تشكل أهمية أو أن الولايات المتحدة لابد أن تتجاهلها، بل إن الأمر على العكس من ذلك، فالمنطقة لا تزال تحتوي على احتياطيات هائلة من النفط والغاز. وهي تشكل جزءاً من العالم حيث ينشط الإرهابيون وتشيع الصراعات، فإيران باتت اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى إنتاج الأسلحة النووية؛ وإذا حدث هذا فإن دولاً أخرى قد تحذو حذوها. هذا فضلاً عمّا تشهده المنطقة الآن من اضطرابات سياسية داخلية قد تؤدي إلى عواقب تاريخية، وهناك أيضاً الارتباط الفريد من نوعه بين الأميركيين وإسرائيل. ولكن هناك على الرغم من ذلك من الأسباب ما قد يدفع الولايات المتحدة إلى تقليص دورها في منطقة الشرق الأوسط الكبير مقارنة بالأعوام الأخيرة: ضعف تنظيم "القاعدة"؛ والاحتمالات الهزيلة لنجاح جهود صنع السلام؛ وفي المقام الأول من الأهمية، الأدلة المتنامية التي تؤكد بكل المقاييس أن مبادرات بناء الدولة الهائلة لا تدر من العائدات ما يتناسب مع الحجم المستثمر فيها من أموال وجهد.

ومن ناحية أخرى، هناك حجج قوية تدعم زيادة حجم المشاركة الأميركية في منطقة آسيا والباسيفيكي، فبسبب ضخامة أعداد سكانها وسرعة نمو اقتصادها، يصبح من الصعب أن نبالغ في تقدير الأهمية الاقتصادية التي تشكلها المنطقة. إذ تُصَدِّر الشركات الأميركية ما تزيد قيمته على 300 مليار دولار أميركي من السلع والخدمات إلى بلدان المنطقة كل عام. وفي الوقت نفسه، تشكل الدول الآسيوية بالنسبة إلى اقتصاد الولايات المتحدة مصدراً بالغ الأهمية للاستثمار.

وهذا يعني أن الحفاظ على الاستقرار الإقليمي يشكل أهمية حاسمة لنجاح اقتصاد الولايات المتحدة (واقتصاد العالم)، وتلتزم الولايات المتحدة بتحالفات متعددة- مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والفلبين وتايلاند- مطلوبة جزئياً لردع العدوان الكوري الشمالي. فضلاً عن ذلك فإن سياسة الولايات المتحدة لابد أن تعمل على خلق بيئة لا تغري الصين أبداً باستخدام قوتها المتنامية لقهر جيرانها- أو أي دولة أخرى خارج المنطقة. ولهذا السبب، كانت الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة أخيراً لتعزيز علاقاتها بالهند والعديد من دول جنوب شرق آسيا منطقية إلى حد كبير. إن الولايات المتحدة تحسن صنعاً بتحويل تركيزها من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى، ومما يدعو إلى التفاؤل أن هذا التوجه يبدو مقبولاً لدى الأطياف السياسية المختلفة في الولايات المتحدة. فقد تعهد ميت رومني المرشح الجمهوري المحتمل للرئاسة بزيادة معدل بناء السفن، وهو التزام مرتبط بزيادة الوجود الأميركي في منطقة المحيط الهادئ. كما تحدثت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون عن تحويل أميركا لمحور اهتماماتها بعيداً عن الشرق الأوسط الكبير: "إن مركز الثِقَل الاستراتيجي والاقتصادي العالمي يتحول باتجاه الشرق، ونحن حريصون على زيادة تركيزنا على منطقة آسيا والباسيفيكي".

بعيداً عن كون القرن الحادي والعشرين "قرناً أميركياً" آخر أو غير أميركي، فمن المؤكد أنه القرن الذي ستضطلع فيه منطقة آسيا والباسيفيكي بدور بالغ الأهمية. ومن الطبيعي والمعقول أن تمثل الولايات المتحدة كياناً محورياً في صياغة وتشكيل كل ما قد ينشأ عن هذه الحقيقة.

* المدير السابق لتخطيط السياسات لدى وزارة الخارجية الأميركية، ورئيس مجلس العلاقات الخارجية حاليا.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top