حصّة الغريب لكاظم جهاد... الترجمة في تصوّرات جديدة

نشر في 23-10-2011 | 00:01
آخر تحديث 23-10-2011 | 00:01
No Image Caption
صدر حديثاً عن «منشورات الجمل» كتاب «حصة الغريب، شعرية الترجمة وترجمة الشعر عند العرب» للشاعر والأكاديمي العراقي كاظم جهاد، وترجمة محمد آيت حنا.

لزمن طويل، ظل النقاش حول الترجمة حبيس المفاهيم الثنائية التي أبانت تجربة الحداثة عن افتقادها الواقعية والدقة في آن. فطويلاً تساءل المعنيون بشأن هذه الممارسة عمَّا إذا كان على الترجمة أن تكون أمينة، ولنضرب صفحاً عن جمالها، أم أنها، كي تكون جميلة، ينبغي ألا نجازف بالسقوط في مهاوي الخيانة؟ أهي ممكنة أم مستحيلة؟ أهي مجرد نسخة ناقصة عن أصل لا يمكن تقليده، أم هي صورة جديدة لنص هو نفسه غير مكتمل؟ بورتريه دقيق للآخر، للغريب، مثلما يتجلى في نصه، أم احترام مطلق لقيم اللغة والثقافة المستقبلية؟ مثل هذه المقابلات المتناظرة، التي يبطل بعضها بعضاً، لم تعد لحسن الحظ توجه التفكير المتعلق بالترجمة. لقد أخلت مكانها لتصورات جديدة، ليست بالضرورة محكومة بالثنائيات، تصورات تخضع الأصل وترجمته، والنص والروح، والخصوصي والغريب، وغيرهما من ثنائيات مفاهيمية، تخضعها إلى ضرب جديد من المساءلة، يجتهد هذا الكتاب في تجليته، قبل أن ينصرف إلى مراجعة تصور العرب للترجمة، ثم إلى مقاربة ترجمة الشعر إلى العربية من باب المقارنة والنقد.

صيغة

صدر هذا الكتاب باللغة الفرنسية منذ سنوات، وتصدر صيغته العربية هذه في لحظة يشهد فيها التفكير بالفعل الترجمي في العربية تصاعداً وتعمقاً غير مسبوقين. حسب كاظم جهاد، فإن الأمر يتعلق بحركة فكرية آيلة إلى تطور واتساع، تجد التعبير عنها في ترجمات رصينة لدراسات مهمة عن الترجمة، وفي كتابات لا تقل عنها رصانة وأهمية ينتجها كتاب عرب معنيون بهذه الفاعلية مراساً وتفكيراً. إذ كانت في العربية سابقاً عشرات المؤلفات غير عديمة الأثر في الترجمة، لكن تسود في أغلبها لغة الاستعراض التاريخي والنقد الانطباعي للترجمات. في السنوات الأخيرة فحسب، بدأت تصدر كتابات وتترجم دراسات تمس فعل الترجمة في خلفياته الفكرية ودلالاته الفلسفية وانخراطه الفني والتاريخي.

الترجمة

القسم الأول من الكتاب مخصص لتحليل تصورات الترجمة التي قدمها مفكرو الغرب ومترجموه في العقود الأخيرة. خلال عمله على مساءلتها ومواجهتها بعضاً ببعض، فإن كاظم جهاد يسعى إلى استخلاص فلسفة شعرية لمجمل فعل الترجمة، خصوصاً في مجال ترجمة الشعر. يعرض الكاتب في الفصل الأول من القسم الثاني مختلف المراحل التي اجتازتها حركة الترجمة في الثقافة العربية في العصر الوسيط، باحثاً عن سبب تجنب هذه الثقافة ترجمة الآثار الشعرية. أما الفصل الثاني من القسم نفسه فيوقفه المؤلف على دراسة الترجمة الأدبية في الثقافة العربية في العصر الحديث وانبثاق ترجمة الشعر فيها رويداً رويداً. أما الفصل الثالث فيعمل فيه على دراسة بعض الترجمات العربية للأشعار الأوروبية، دراسة مقارنة ونقدية.

يلفت المؤلف، إلى أن القضايا التي يثيرها هذا الكتاب سيتم إرجاعها في نهاية المطاف إلى حقل الشعرية أو فن الشعر، ويسعى إلى تجاوز الدراسات التي تكتفي عادة بمناقشة الأخطاء المعجمية والدلالية التي يقع فيها المترجمون. يشرح المؤلف أنه يحصل أن تكون ترجمة ما صحيحة، ولا تفلح مع ذلك في تجلية لطيفة من لطائف المحتوى أو الشكل، أو جزئية من الجزئيات، أو خصيصة من الخصائص، الخافية بدرجة أو بأخرى. لذا فإن كاظم جهاد يدفع المساءلة إلى الدرجة التي يكف فيها الخطأ على أن يكون مجرد هنة أو ضعف لغوي، ويصير لازماً النظر إليه من زوايا أخرى. فغالباً يكون الخطأ ناتجاً عن آيديولوجية أدبية، أو وليد عدم ملاءمة استراتيجية القراءة التي ينتهجها المترجم. يتعلق الأمر إذاً بالمراهنة على مراس ترجمي صعب ومتطلب. ذلك أننا نصادف يومياً أعمالاً نظرية وروائية تبدو قابلة للترجمة بأيسر مجهود ممكن، من حيث أنها لا تقلق الاستعمال المتداول للغة ولا تزعزع الفكرة الرائجة عن الأدب.

بيد أن الأمر يختلف مع النصوص الصعبة، كالملاحم والشعر عموماً وكل نص أدبي أو فلسفي يحكمه همّ الخطاب اللغوي والشكل، إذ يكون من الضروري هنا الاضطلاع بممارسة للترجمة أكثر تطلباً وحرصاً. فمثل هذه النصوص تحدث آثاراً دلالية يصعب إدراكها لكنها من الأهمية بمكان، ولقد صرنا في العقود الأخيرة أكثر انتباهاً لها بفضل تطور الشعرية واللسانيات وفلسفة الأدب، وبوسعنا أن نفيد من هذا كله، ما أمكننا الإفادة، في فعل الترجمة.

يذكّر المؤلف بما تحققه كتابات بعض الشعراء والكتاب والنقاد العرب في المجلات والصحف من ترسيخ لأهمية الترجمة في الثقافة، ومن تعميق لتلقي فعلها وتبيين لما تدين به الإبداعات الحديثة لصنيع المترجمين. هذا التفكير في تعدد مستوياتها واشتراطاتها قد نكون، نحن عرب العصر الحديث، بادرنا إليه متأخرين، بيد أن من الطيب أن نكون شرعنا به أخيراً. كذلك ينبغي التنويه بأن هذا الإنصات العميق إلى أسئلة الترجمة لا يمسّ الثقافة العربية وحدها، بل بدأت تنفتح عليه ثقافات أخرى تتدارسه ضمن شروطها الخاصة بعدما أشبعته الثقافات الأوروبية نقاشاً وبحثاً. هذا ما نلاحظه في ما يصدر من مؤلفات عن الترجمة في ثقافات أخرى غير الثقافات الأوروبية، وما يقال عنها في ملتقيات الترجمة وندواتها عبر العالم.

شعرية الترجمة

كذلك يشير كاظم جهاد إلى خوض مغامرة النقد الترجمي والبحث في شعرية الترجمة، وهما موضوعا هذا الكتاب، المتكافلان والمتكاملان، لا يحققان من دون اضطرارات لعل من شأن التأكيد عليها أن يشكل ميثاق عمل مشترك يجمع المؤلف والقراء. من هذه الاضطرارات شيء من البطء المقصود في قراءة النصوص، ومن الإلحاح على عناصر أو تفاصيل فيها مخصوصة. مثلاً، توضيح بيت شعر واحد وتبيان أفق ترجمته يتطلبان أحياناً صفحة كاملة أو أكثر. فلا فائدة تجنى من قراءة ترجمة بيت أو مقطع شعري من دون إحلاله في سياقه اللغوي والثقافي الخاص واستجلاء معالمه التعبيرية ودلالاته الظاهرة والمضمرة. وبقدر ما يفلح ناقد الترجمات في توسيع أفق بحثه بحيث يشكل إبحاراً في عوالم الشعر واللغات لا انحباساً في الجوانب الفنية المحض من فعل الترجمة، تتضاعف المتعة التي ينالها قارئه، وهو بالضرورة قارئ معني بمغامرة الشعر، وقد يكون معنياً أيضاً بعمل اللغات.

back to top