أستاذ الأدب الشعبي الإيراني د. أحمد لاشين: الانفتاح على ثقافة الآخر يحتاج إلى ثورة فكريَّة
ما زال الانفتاح على ثقافة الآخر إشكالية تواجه العقل العربي، رغم وشائج ربطت بين الثقافات الإنسانية منذ قرون بعيدة. في الحوار التالي يلفت الباحث د. أحمد لاشين، أستاذ الأدب الشعبي الإيراني في جامعة عين شمس، إلى ضرورة إعادة صياغة الفكر العربي والتخلّص من النظرة الأحادية وحواجز العزلة، ويلقي الضوء على كتابه «كربلاء بين الأسطورة والتاريخ»، مؤكداً أن الأدب الشعبي فكر إنساني أصيل متشابه في كل المجتمعات، ومحذّراً من الجدل الدائر حول تنقيح الكتب التراثية ومصادرتها، وما يترتّب عليهما من طمس للهويّة الثقافية. كيف جاءت فكرة كتابك «كربلاء بين الأسطورة والتاريخ» كدراسة للوعي الشعبي الإيراني؟
العلاقة بين الأسطورة والتاريخ علاقة تأسيسية بمعنى أن كلاً منهما يحمل حقيقة ما، أو على الأقل فكرة لها مصداقية في العقل الجمعي عموماً، فالأسطورة هي تاريخ بالنسبة الى أصحابها وذلك بحسب المرحلة الزمنية التي ظهرت فيها، مثل أساطير العراق القديم أو الأساطير المصرية القديمة، وكلّها لها قداستها في العقل الاجتماعي ومن الصعب أن يعتبر إنسان تلك العصور أن ما حُكي وتوارثته الأجيال مجرد ضرب من خيال. هذا هو المنطلق الأصيل لفكرة الكتاب، فمقتل الحسين بن علي في كربلاء حدث له أهميّته المفصليّة في التاريخ الإسلامي، وعندما تناوله رواة التاريخ حاولوا صبغه بقداسة دينيّة حسب ثقافتهم المختلفة بطبيعة الحال.لماذا تبدو حكايات شعبية كثيرة غير منطقيَّة الحدوث؟يرجع ذلك إلى أن الكتابات التاريخية اعتمدت في الأساس على مبدأ النقل والتعديل، وبالتالي على مبدأ شفاهي بكل ما تحمله الشفاهية من أبعاد اجتماعية يسكنها الكثير من الحكايات غير الطبيعية عن شخصيات مقدّسة مثل الحسين. وتتجلّى تلك الفكرة بوضوح في التناول الإيراني خصوصاً بعد اعتناق إيران المذهب الشيعي «الإثني عشري» بشكل رسمي في القرن التاسع الهجري، فحمّلته الكتابات الإيرانية والطقوس في ذلك الوقت الكثير من الحكايات ذات الأصول الإيرانية، والتي تعود إلى مرحلة الديانات القديمة والأساطير.ما الاختلاف في تناول شخصية الحسين بين الحكاية الشعبية الإيرانية والحكاية العربية؟ثمة حكايات كثيرة تخصّ الحسين نجدها في البيئة العربية كما الإيرانية، بشكل يصعب معه الفصل التام أو تحديد الاختلافات، فالبيئة الثقافية واحدة في النهاية، إلا أن العقلية الإيرانية تعاملت مع الحسين في إطار «المظلومية» البحتة، فهو الضحية التي تستحق البكاء عليها بشكل دائم، بل إن البكاء يُعد أحد طقوس العزاء الحسيني الذي يٌقام في إيران سنوياً.ما مدى التقارب بين الأدب الشعبي الإيراني وبين الأدب العربي؟الأدب الشعبي عموماً، فكر إنساني أصيل متشابه في كل ثقافات المجتمعات الإنسانية، وقد نجد «موتيفات» كثيرة حاضرة في الآداب الشعبية على اختلافها، ما يدلّ على أن بنية التفكير الإنساني واحدة، حتى وإن لم تتوافر مراحل اتصال ثقافي. وهذا ينطبق على الأدب الشعبي العربي والإيراني، إذ يكشف البحث الدقيق أن حكايات وأمثالاً وألفاظاً شعبية كثيرة متماثلة في الأدب العربي والفارسي مع اختلاف اللغة فحسب، فالحكايات الشعبية الإيرانية نجد لها مثيلاً في بيئات عربية مثل منطقة الخليج العربي ومصر. وقد يعود ذلك إلى التواصل التاريخي والسياسي والاقتصادي الذي كان يتم بين إيران وغيرها من البلاد العربية، وامتد الى قرون عدة وما زال.بم تفسّر أن للشاهنامة مؤلفاً معروفاً بينما حكايات ألف ليلة مجهولة المؤلف؟ «الشاهنامة» ليست تأليفاً من الألف الى الياء، بل هي إعادة صياغة شعرية قام بها أبو القاسم الفردوسي لما جمعه من ملاحم وأساطير شعبية إيرانية أصيلة عن الأبطال الإيرانيين القدماء الذين ورد ذكرهم في كتابات كثيرة سبقت الشاهنامة، أهمّها كتاب «الأوفستا» المقدّس لدى الزرادشتية، الديانة الفارسية القديمة. وقد حاول بعض الشعراء والكتاب جمع تلك الملاحم على مراحل تاريخية مختلفة، لكن كانت «شاهنامة الفردوسي» أكثرها نجاحاً وشهرة وقد كُتبت في عهد الحكم التركي لإيران كنوع من تمجيد الشخصية الإيرانية والحفاظ على هويتها وثقافتها. كذلك لدى الإيرانيين قناعة تامة بأن أحداث الشاهنامة على رغم غرابتها هي حقيقية وأقرب إلى كونها ملحمة مثل الإلياذة أو الأوديسا، بينما «ألف ليلة وليلة» مجموعة من الحكايات الخرافية والمجهولة المؤلف، إذ لا زمن حدوث أو تكوين محدّداً لها، حتى وإن بدت متماسكة من حيث الراوية شهرزاد، والأهم أن الطبيعة العربية لم تحاول الاحتفاظ بالهوية بشكل قوي في أدبها الشعبي، بل استفادت من كل الثقافات الموازية لها، خصوصاً الفارسية، وهي تنسج ألف ليلة. والجدير بالملاحظة أن اسمَي شهرزاد وشهريار أصلهما فارسي.هل ثمة طبعات مختلفة للشاهنامة مثل الليالي؟ثمة طبعات كثيرة للشاهنامة ولكنها ليست في اختلاف الليالي، فاختلاف الطبعات ناتج من اختلاف المخطوطات التي طبعت منها الشاهنامة، لكنها ظلّت محتفظة بخطوطها الأصيلة وبتفاصيل عدة.كيف تنظر إلى الجدل الدائر حول مصادرة التراث وتنقيحه؟يعود ذلك إلى عدم اهتمام المجتمعات العربية على اختلافها بالحفاظ على قوميتها وثقافتها الخاصة ومحاولات مسخ التراث الخاص بكل بيئة وتجريده من تميزه أو اختلافه، وأحياناً تحت دعاوى إسلامية أو أخلاقية، لكنها كلّها محاولات للتجرّد من الأصول القومية والثقافية أمام مفهوم أشمل قد يكون غير مقدِّر لطبيعة الاختلاف التي طُبع عليها البشر، فالتجربة الإيرانية أو التركية خير مثال على مجتمعات حافظت على هويتها ودفعت ثمناً باهظاً على مدار التاريخ في مقابل عدم مسخها، ومن أهم سبل الحفاظ على الهوية: الحفاظ على التراث وإعادة إنتاجه بمختلف الأشكال الإبداعية، لكن ذلك المشروع القومي يُقابل بالمنع والإدانة في الثقافة العربية.أيّهما أكثر تأثيراً في الوجدان الشعبي: الحكي الشفاهي أم المقروء؟الثقافة الشفاهية تسبق الكتابية بقرون، ثم تأتي القراءة في مرحلة متقدّمة وتكون ذات تأثير محدود في من لديه اطلاع ثقافي. الحكي الشفاهي هو الأساس والأكثر تأثيراً، خصوصاً في مجال التراث الشعبي عموماً، حتى وإن دُوّنت الحكايات والملاحم والأساطير، فهذا لا يمنع تطوّر تلك الحكايات نفسها على اختلافها بعيداً عن النص المُدوّن، بل قد تتطوّر بشكل يبعد تماماً عن تلك المدوّنات، ما يستعدي إعادة تدوينها.هل ترى أن ثمة حواجز لدينا أمام الانفتاح على ثقافة الآخر؟الانفتاح على ثقافة الآخر متحقِّق على المستوى الاجتماعي والثقافي وذلك كما حالة التواصل بين الثقافتين العربية والفارسية أو الآداب الشعبية عموماً، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في الترويج السياسي الممارس على العقلية العربية والإيرانية منذ عقود تبدأ بالثورة الإيرانية، ما أدى إلى تشكيل جيل لا قدرة لديه على التواصل أو حتى الاطلاع على ثقافة الآخر. كذلك قرّرت العقلية العربية منذ فترة تصل إلى 60 عاماً تقريباً أن تنعزل اجتماعياً وسياسياً وثقافياً وتنفي فكرة الآخر أياً كان، فأصبحت آحادية الرؤية وتستفيد من منتجات الحضارة الغربية مثلاً من دون التواصل مع المجتمعات التي أنتجت تلك الحضارة، فمفهوم الآخر يحتاج إلى إعادة صياغة في الفكر العربي على مستوياته الثقافية والاجتماعية كافة.