فى الذكرى الـ 30 لرحيله صلاح عبد الصبور يعرّي كسل الشعراء
احتفلت الأوساط الثقافية في القاهرة بذكرى مرور 30 عاماً على رحيل الشاعر صلاح عبد الصبور (13 أغسطس 1981)، أحد مؤسّسي تيار شعر التفعيلة في القصيدة العربية، وصاحب الدواوين المتوهّجة بالألم والحزن والثورة، ورائد مسرح شعري مغاير لترسيخ درامية المسرحية الشعرية، فضلاً عن دراساته وترجماته المتعددة، وما زالت أعماله حاضرة كجزء أصيل من المنجز الإبداعي خلال النصف الثاني من القرن الماضي.لم يكن في حياة صلاح عبدالصبور ما يثير الاهتمام سوى إبداعه الشعري، حسب قول الناقد الراحل د. شكري عياد، إذ وُلد في مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية يوم 3 مايو (آيار) عام 1931، وحصل على ليسانس الآداب قسم اللغة العربية في جامعة القاهرة 1951. وعمل عبد الصبور في التدريس في وزارة التربية والتعليم، ثم في الصحافة، حتى عُين مديراً عاماً لهيئة الفنون، ومستشاراً ثقافياً في الهند، ورئيساً لـ{الهيئة العامة للكتاب» حتى رحيله على نحو مباغت، إذ لم يحتمل قلبه تبعات مشاجرة كلامية حادة مع الرسام الراحل بهجت عثمان في منزل صديقه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وشهود الواقعة الناقد
د. جابر عصفور، والشاعر الراحل أمل دنقل وزوجته الكاتبة عبلة الرويني، وزوجة عبد الصبور الإعلامية الراحلة سميحة غالب.الناس في بلاديفي بداية الخمسينيات، لم يكن طريق الشاعر ممهداً لسعيه إلى تأسيس مشروع شعري مواز لبدايات التحديث التي بدأت في العراق لدى بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي، وكادت المعارضة الشرسة من العقاد وعزيز أباظة وآخرين، أن تجهز على محاولات التمرّد على جمود القاموس الشعري آنذاك، ودخل في معارك طاحنة لإثبات شرعية قصيدة التفعيلة في فضاء الشعر العربي.حمل عبد الصبور ورفيق دربه أحمد عبد المعطي حجازي عبء مواجهة سطوة التقاليد الصارمة، وقداسة اللغة الشعرية المحمّلة بركام الاستنامة لبلاغة الأسلاف، ومن هنا جاء ديوانه الأول «الناس في بلادي» ليحطّم جدار الشعر العمودي، ويعرّي كسل بعض الشعراء وتكلّس ذائقتهم، ومحاكاتهم قصائد الشعر العربي القديم:الناس في بلادي جارحون كالصقورغناؤهم كرجفة الشتاء في ذؤابة المطروضحكهم ينز كاللهب في الحطبطرح عبد الصبور في كتابه «حياتي مع الشعر» بدايات التكوّن الشعري عبر ذات تتأمل وتبحث عن ماهية الفن، وفيه قال: «هل الفن غاية بشرية؟ نعم ولكن غايته هي الإنسان لا المجتمع، هل للفن غاية أخلاقية؟ نعم، ولكن غايته هي الأخلاق لا الفضائل، هل للفن غاية دينية؟ نعم ولكن غايته هي الإيمان لا الأديان، إن معظم الفنانين حتى الملتزمين منهم بالمعنى الحديث للكلمة، كان لرؤياهم هذا القدر من الشمول والاتساع وكان للهجتهم هذا التوجّه إلى الإنسان وهذا الحزن الغامر الدفين على ماضيه الطويل المخيّب للآمال».كشف الشاعر أفكاره وفق مشروع شامل لتحديد مسارات الشعر العربي الحديث واتجاهه، من خلال قراءة واعية للتراث في شتى مجالات الفكر والمعرفة، والوقوف على المنجز الشعري المعاصر، والمزاوجة بين الاستفادة من الثقافة الأوروبية واستخلاص الدعائم الحافظة لهويّته العربية، كشاعر ومثقف ينتمي إلى أمة ووطن يحمل خصائصه وتاريخه ومدّه الحضاري.قصيدة «الحزن» يا صاحبي، إني حزينطلع الصبح، فما ابتسمت ولمينر وجهي الصباحوخرجت من جوف المدينة أطلبالرزق المتاحيتجاوب الشاعر مع أصداء الحزن في قصيدته «الحزن»، وعن تلك التجربة ذكر: «كنت أريد أن أقدم صورة حية لحياة تافهة، تنطلق في الصباح وراء فتات العيش وتقضي أصيلها في ممارسة السخف والابتعاد عن جوهر الحياة، كل ذلك مقدمة لأحزان الليل التي لا يستطيع الإنسان في وحدته أن يهرب منها، فهو إذا أفنى نهاره محاولاً تبديد ذاته وسط الضجة لا يستطيع أن ينجو من مواجهة نفسه في الظلام...».نفى عبد الصبور سمة الحزن عن شعره، بقوله: «لست شاعراً حزيناً، ولكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني، ولأني أملك بين جوانحي، كما قال شيللي شهوة لإصلاح العالم».وفي دراسته «أيديولوجيا الشاعر وأيديولوجية القصيدة»، قال الناقد إبراهيم فتحي: «كان صلاح عبد الصبور مواطناً مصرياً عربياً ينتمي إلى صفوة الصفوة من مثقّفي المراتب الوسطى في المجتمع أثناء فترة تحوّلات سياسية عاصفة، حافلة بالتناقض، كما كانت حياته كما يقول صديقه الناقد رجاء النقاش سلسلة من درجات الصعود والنجاح داخل النظام الاجتماعي السياسي والدائرة الشعرية معًا».مأساة الحلاجعن المرحلة الأخيرة من شعر صلاح عبد الصبور، لفت د. ماهر شفيق فريد، الى أنها اتسمت بالدرامية والحوارية معاً، وأتت معاناته الشخصية تاريخية مثل الحلاج وبشر الحافي، أو في حوارات مع شخصيات مثل بودلير أو وليام بتلر ييتس، وفي أحيان كثيرة كان يحاور نفسه، بينما يرصد الزمن وتغيرات اليوم أو الفصول، ولم تكن في حياته أحداث لافتة، فهو مثل الكثيرين ينتمي إلى جذور ريفية، وينتقل إلى المدينة ليعيش حياة داخلية خصبة عرفت التمزّق الروحي.وما زال عبد الصبور يجدّد حضوره بما تركه للمكتبة العربية من عطاءات في مجال الشعر والمسرح والدراسات، والتي بدأها بديوان «الناس في بلادي» 1957، و{أقول لكم» 1961، و{أحلام الفارس القديم» 1964، و{تأملات في زمن جريح» 1968، و{عمر من الحب» 1971، و» شجر الليل» 1972، و{الإبحار في الذاكرة» 1979.كذلك ساهم عبد الصبور في إثراء المسرح الشعري من خلال أعماله «مأساة الحلاج» و»مسافر ليل» و«ليلى والمجنون» و«بعد أن يموت الملك»، إلى جانب ترجمة مسرحيات كثيرة مثل «حفل كوكتيل» لاليوت، و{سيد البنائين» لهنريك أبسن. وقد حصل على جوائز عدة منها جائزة الدولة التشجيعية عن مسرحيته «مأساة الحلاج» 1965، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى 1965، وجائزة الدولة التقديرية للآداب ووسام الاستحقاق من الدرجة الأولى 1981.واتفق النقاد على أسبقية صلاح عبدالصبور في استخدام الرمزية الصوفية قبل الشاعر أدونيس، وإدراكه أن الشاعرية هي الحصان الذي يجر ماوراءه من عربات، كما أعطى إمكانات أكبر في المسرح الشعري وفي القصيدة التي حقق فيها نقلة ضخمة من الغنائية على الدرامية، فأصبحت قصيدتا «الحوار» و{القناع» مدخلين مهمين للمسرح الشعري.على جانب آخر اقتربت لغة الشعر لدى عبد الصبور إلى حدّ كبير من لغة الحياة اليومية من دون أن يتنازل عن القيم الجمالية التي تحدد شعرية الشعر، وتجاوز الجماليات الكلاسيكية للقصيدة العربية، لينشئ مفهوماً جديداً للغة الشعرية لا يكون فيه القاموس الشعري محصوراً بألفاظ أنيقة أو عاطفية أو رومانسية، ولهذه الأسباب مجتمعة ينفرد عبدالصبور في حياتنا الشعرية والثقافية المعاصرة بمكانة كبيرة في عقل القارئ العربي ووجدانه، على رغم مرور 30 عاماً على رحيله.