الشعراء والطغيان... علاقة ملتبسة (2)

نشر في 06-02-2012 | 00:02
آخر تحديث 06-02-2012 | 00:02
No Image Caption
الجواهري مع تأبيد الأسد وضد الطغيان؟!

أعاد بعض الشعراء ومسؤولي الصفحات الثقافية نشر قصائد للشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري ضد الطغيان والأنظمة الشمولية، وهي تأتي كتعبير شعري في هذه المرحلة التي تتظاهر فيها الحشود ضد نظام بشار الأسد وغيره.

لم ينتبه عشاق قصائد الجواهري أن «متنبي العصر» حمال أوجه، فهو شاعر السلاطين والملوك والطغيان، بل شاعر العلاقات العامة، وسيرته حافلة بتناقضات في هويته الضائعة بين عراقية جديدة وحنين في أيام الشباب إلى فارسية قديمة، وبين هجاء الطاغية صدام في العراق ومدح غيره في مكان آخر، في سورية تحديداً.

كتب «شاعر العرب الأكبر»، كما يسميه البعض، قصيدة «رقاب الطغاة»، وقد نشرتها قبل أيام إحدى الصحف اللبنانية ونشرة «أخبار الأدب» المصري، يقول الجواهري فيها:

أتعلمُ أم أنت لا تعلمُ

بأن جراحَ الضحايا فمُ

فمٌ ليس كالمدّعي قولةً

وليس كآخرَ يسترحمُ

أتعلم أن رقاب الطغاة

أثقلها الغُنم والمأثم

وأن بطون العُتاة التي

من السُّحت تهضم ما تهضم

وأن البغيّ الذي يدّعي

من المجد ما لم تَحُزْ مريم

ستنهدُّ إن فار هذا الدم

وصوَّت هذا الفم الأعجم

أتعلم أن جراح الشهيد

تظل عن الثأر تستفهم

أتعلم أن جراح الشهيد

من الجوع تهضم ما تلهم

تمصّ دماً ثم تبغي دماً

وتبقى تلحّ وتستطعم

أخي جعفراً لا أقول الخيالَ

وذو الثأر يقظانُ لا يحلم

ولكن بما أُلهم الصابرون

وقد يقرأ الغيبَ مستلهمُ

أرى أفقاً بنجيع الدماء

تنوّر، واختفت الأنجم

يعلم الجميع أن الجواهري قال قصيدته رثاء لشقيقه جعفر الذي سقط عام 1948 أثناء مواجهات احتجاجاً على معاهدة بورتسموث بين الحكومة العراقية آنذاك والحكومة البريطانية، فدارت معارك عدة بين المتظاهرين وقوات الشرطة في شوارع بغداد.

يمكن توظيف هذه القصيدة في أي لحظة ضد أنظمة الطغيان، لكن الشاعر نفسه بدا في حياته منحازاً لهذا الطاغية ضد ذاك، ربما بحسب مصالحه، تماماً كما كان المتنبي يطلق المديح بهدف الوصول إلى غاية ما.

يقول الباحث جمال شحيد في بحثه عن «شعارات الموالاة والانتفاضة في سورية»: «منذ ثلاثة عقود نزلت إلى الشارع السوري شعارات إقصائية صدمت الوعي السياسي السوري، لكنها استمرت حتى أيامنا هذه. ومن سوء الحظ أن بعض المثقفين المتزلفين صاغوا قسماً من هذه الشعارات الإشكالية التي تدعو إلى الأبد وهنا تتماثل السلطة الدنيوية الفانية مع السلطة الإلهية السرمدية، ومنها أيضاً أبياتاً لمحمد مهدي الجواهري يمدح فيهما الرئيس حافظ الأسد، على غرار قصائد المديح العصماء التي انتشرت في الأدب الأموي والعباسي والعثماني:

سلاما أيها الأسد.... سلمت وتسلم البلد

وتسلم أمةّ فخرت... بأنك فخر من تلد»

ثمة من يدافع عن مديح الجواهري بطريقة تافهة قائلاً إن مديح الشعراء للسلاطين في صميم التراث العربي. الحال، أن قصيدته لكثرة ما سمعناها على التلفزيون السوري البعثي، قبل الأخبار وبعدها، قبل برامج المنوعات وبعد الدراما، وفي المهرجانات والشوارع... حسبنا أن الجواهري لم يقل غيرها في حياته، بل تصرف الإعلام السوري مع الجواهري باعتباره مادح الأسد فحسب، فأحرق الشاعر في سبيل قصيدة له.

الجواهري الذي كان راضياً عن «ثقافة البعث»، يقال إن الرئيس حافظ الأسد دعاه الى دمشق، فجاء إليها عام 1983 بعد تردد دام سنة كاملة أقنعه خلالها نقيب الصحافيين السوريين زار براغ بالزيارة. أستقبل الشاعر بحفاوة تليق به وخُصصت له دار وسيارة، بعدها كانت للأسد «القصيدة» الشهيرة، وعندما توفيت زوجة الشاعر «أمونة» عام 1992 حضر الرئيس السوري مجلس العزاء ومكث لساعة ونصف الساعة.

عُرف الأسد الأب باضطهاده الثقافة السورية عموماً من خلال ترويج «ثقافة» البعث دون غيرها، واقترابه من بعض رموزها. في لبنان، توطدت علاقته بآل الرحباني، وقال الراحل منصور الرحباني إثر مرض شقيقه عاصي: «إن نسيت فلا أنسى مشاعر الناس ومحبتهم وتقديرهم، لقد حاصروا المشفى الذي يعالج فيه عاصي، وقد غمرنا الرئيس حافظ الأسد بعنايته ومحبته وأرسل موفداً خاصاً ومبلغاً مالياً مجزياً لهذه الغاية وهي مبادرة لا يمكن أن ننساها أبداً».

في 26 سبتمبر، أصيب عاصي الرحباني بجلطة دماغية فأرسله الرئيس الأسد في طائرة خاصة إلى العاصمة الفرنسية باريس للعلاج، وتبرع بمبلغ 50 ألف ليرة سورية لإجراء جراحة له.

كذلك تقرب الأسد من الجواهري واهتم به، فيما كان صدام حسين ينفيه وينزع عنه جنسيته العراقية لأنه شارك في مهرجان شعري سعودي. على أن علاقة الجواهري بالطغيان في العراق فيها كثير من الالتباس والتناقضات، وما زالت حتى اليوم موضع نقاش في الصحف العراقية بين مثقفين عراقيين وأفراد من أسرة الجواهري نفسه.

كيف يمكن لنا تقديم صورة واضحة عن علاقة «شاعر العرب الأكبر» بقادة الطغيان، وهو غرق في المديح والهجاء؟! في دراسة حديثة نشرت في مجلة و{جهات نظر»، يربط الناقد جهاد فاضل بين الصراع القائم في العراق وبين حياة الجواهري وعمله الأدبي. يقول إن ساطع العصري، أحد رموز الحركة القومية الأوائل، طرد الجواهري من وظيفته كمعلم ابتدائي بسبب قصيدة ذم فيها العراق وتغزل بإيران (لا تزال حاضرة بقوة في الأروقة وبنيت عليها دراسات كثيرة). غير أن الملك فيصل عاد وعينه موظفاً في البلاط مراعاة لأصوله النجفية... نظم الجواهري قصيدة يمتدح فيها السوفيات في معركة «ستالينغراد»، فطلب منه رئيس الوزراء نوري السعيد أن يكتب قصيدة في مديح معركة «العلمين» والمارشال مونتغمري، ففعل: ويا مونتغمري لو سقى القول فاتحا سقتك القوافي صفوها السلس العذبا. فلم يعطه السعيد صحيفة فحسب، بل مزرعة أيضاً مع كامل معداتها، فتحول إلى واحد من طبقة ملاك الأراضي. ثم انقلب على السعيد وهجاه طويلاً، لكنه عاد فحاول إنصافه في مذكراته وترحّم على أيامه مقارنة بعهد عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وصدام حسين.

يشير سليم التكريتي (كان مقرباً من الجواهري) إلى أن الجواهري لم يؤيد ثورة رشيد عالي الكيلاني أو أي حركة قومية. ويقول الكاتب عبد الحسين شعبان إن الجواهري حاول الاعتذار عن تلك المرحلة مراراً عبر تأييده المدّ القومي العربي، لكن الناس لم ينسوا له بداياته، خصوصاً قصيدته في مدح إيران وذم العراق:

لي في العراق عصابة لولاهم ما كان محبوبا إليّ عراق

لا دجلة لولاهم، وهي التي عذبت تروق، ولا الفرات يراق

هذا إشارة إلى تفاهة الاعتماد على قصائد الشعراء المدِّيحة المستوردة من سوق النخاسة، فحتى صدام حسين في أيامه حين كان يدعو إلى مهرجان شعري كانت تتقاطر إليه مئات من فطاحل الشعراء والزجالين، والواقع نفسه ينطبق في «ليبيا القذافي» و{سورية الأسد»، وبين هؤلاء جميعاً يبدو صاحب «سلاماً أيها الأسد» الأكثر «بطراً» في مدح السلاطين وهجائهم «حسب الطلب».

back to top