عودة إلى المجلات العربيَّة الشهريَّة... ظاهرة ثقافية أم نوستالجيا مثقفين؟!
يشهد العالم العربي عودةً إلى المجلات الثقافية العربية، فقبل أيام صدر العدد الأول من مجلة «الآخر» لصاحبها الشاعر أدونيس وهي مجلة «مناخ ونوافذ وآفاق مفتوحة» كما قدّمها الشاعر، وقبلها بأيام صدر العدد الجديد من مجلة «الطريق» بإشراف الكاتب محمد دكروب بعد توقّف استمرّ سنوات، أعاد حسن خضر إصدار مجلة «الكرمل» بمسمى «الكرمل الجديدة»، وأصدر بعض المثقّفين اللبنانيين مجلة بعنوان «كلمن»، وفي قطر صدرت مجلة «الدوحة» بحلة جديدة بعدما تولى إدارة تحريرها عزت القمحاوي.تحتاج المجلات الثقافية الى كثير من التأمل في زمن الإنترنت، هل ما زالت ذات جدوى أم أنها أصبحت «نوستالجيا» وتبحث عن متحفها في خضم طوفان المعلوماتية ولجوء الشباب الى ثقافة الإنترنت وشعورهم بالاغتراب تجاه الثقافة الورقية؟... لا بأس في العودة الى المجلات الثقافية، لكن هذه الظاهرة تبدو أشبه بالتحدّي والمقاومة للتحوّلات التي تطرأ على عالم الثقافة، أو شعور من بعض المثقفين والكتاب بفقدان «الهالة» التي انطبعت بهم.
صدرت مجلة «الآخر» لأدونيس في 351 صفحة من الحجم الكبير، وتتضمّن ملفات في الثقافة العربية الإسلامية وفي الآخرية والتشكيل المعاصر والديوان والحوار. والملاحظ أن ثمة نزاقة وأناقة و{برج عاجية» في المجلة الأدونيسية، لكن أين هي من الواقع المستجد في العالم العربي، وهل يمكنها مواكبة التحوّلات التي طرأت على النسيج الثقافي، أما أن هدفها الأول والأخير الصدور؟ ثمة من قال من الشعراء إنه يقرأ الـ{فايسبوك» حيث الأخبار الدسمة ويطالع الصحف حيث الأخبار البائتة التي فاتها الوقت. بالطبع، حضور الإنترنت بإيجابياته وسلبياته شكّل جداراً في وجه المجلات الثقافية الشهرية أو الأسبوعية كافة، والمجلة الأدونيسية لم تحدث أي جدل أو نقاش، فبدت كأنها مجرد روتين عابر أو أنها مجلة قديمة ضخمة تستأنف صدورها، ولم تشكّل منعطفاً جديداً في الثقافة العربية، وهذا الأمر من البديهيات في هذه المرحلة بالذات. إذ تشهد المنطقة العربية شكلاً من إعادة التكوين إذا جاز التعبير.في المجلة الأدونيسية جهد يبحث عن حضوره، فيما تبدو مجلة «كلمن» كأنها نسخة مطوّرة عن مجلة «أبواب» المحتجبة، لكن «كلمن» التي تقودها نخبة من أصحاب الرأي من بينهم أحمد بيضون وحازم صاغية وحسام عيتاني وربيع مروة وغيرهم، لم تنح لأن تصبح منبراً بشكل من الأشكال... يمكن وصفها بمجلة العائلة والأصحاب، فهي لم تخرج بثقافتها خارج دائرة أسرة تحريرها، ولم تتحوّل مؤسسة ثقافية، وهي إن كانت فاخرة بجوهر المادة وطريقة الإخراج، لكن ذلك كلّه لا يغوي القارئ أو «الديناصور الأخير» كما سماه رياض الريس.ولا ننسى أن الإنترنت السريع أو «الوحش» التهم معنى «البطء» الذي تمتاز به كتابات حسن داوود وأحمد بيضون وسائر الكتاب. وهنا يعود السؤال حول ثقافة تبحث عن قارئ، أو قارئ يبحث عن متع أخرى في الحياة بعيداً عن كلمات التهمتها صور الـ{يوتيوب» وعناوين الـ{تويتر» وتعليقات الـ{فايسبوك»، لأن صورة واحدة من كاميرا الهاتف النقال قد تعبّر مئات المرات أكثر من مقال مكثّف ومعقّد ويربك الناظر إليه.ثورات لا شكّ في أن الثورات العربية كان لها أثرها في تشجيع البعض على إعادة إصدار المجلات الثقافية الشهرية، هذه الثورات التي انطلقت من دون نظرية ثورية ومن دون فذلكات الكتب، كانت في جانب منها نتاج عالم قائم على التحوّلات الثقافية، بل نتاج أدوات جديدة من الثقافة. إنها ظاهرة الإنترنت والمواقع الاجتماعية ككلّ، وليست نتاج مقالات كارل ماركس أو جان بول سارتر أو سمير أمين. وفي خضم الثورات، عادت مجلة «الكرمل» التي أسّسها الشاعر الفلسطيني الراحل محمود دوريش الى الصدور باسم «الكرمل الجديد» بعد توقّف استمر ثلاث سنوات منذ رحيل مؤسّسها، حاملةً في عددها الجديد إحدى قصائده «شاهد على زمن الطغاة» التي لم تُنشر في أيّ من دواوينه والتي تحاكي الثورات في عدد من الدول العربية.في هذا المجال، قال رئيس تحرير المجلة حسن خضر لـ{رويترز»: «تعود المجلة للصدور وتحمل اسم «الكرمل الجديد» على المبادئ والأفكار نفسها التي انطلقت عليها «الكرمل» قبل ما يقارب من 30 عاماً». وتابع: «اخترنا أن نخصص هذا العدد للحديث عن الثورات العربية في مقالات وتحليلات وشهادات حية إضافة الى واحدة من قصائد شاعر فلسطين التي نشرت قبل 25 عاماً في مجلة اليوم السابع الباريسية. من يقرأ القصيدة ومفرداتها وعلى رغم أنها نشرت قبل 25 عاماً يرى أنها معاصرة تماماً كما أن بعض الحكام العرب الذين ألمح إليهم في تلك النصوص لا يزالون على قيد الحياة يحاولون البقاء في ربيع الشعوب التي تسعى إلى الإطاحة بهم في أماكن مختلفة من العالم العربي».واحتلت قصيدة درويش 40 صفحة من صفحات المجلة البالغ عددها 247 من القطع المتوسط، والتي اختار القيّمون عليها وضع لوحة للفنان المصري أحمد بسيوني التي تكتب المجلة أنه «شارك في الثورة المصرية واستشهد في ميدان التحرير» لتكون غلافاً لها. ويبدأ درويش قصيدته في إشارة مخالفة إلى ما يجري عادةً من اختيار الشعب لرئيسه ليقول «سأختار شعبي.. سأختار أفراد شعبي... سأختاركم واحداً واحداً من سلالة أمي ومن مذهبي. سأختاركم كي تكونوا جديرين بي. سأمنحكم حق أن تخدموني وأن ترفعوا صوري فوق جدرانكم وأن تشكروني لأني رضيت بكم أمة لي». وحبذا لو نشر حسن خضر صور محمود درويش يتلقى الأوسمة من الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، والسؤال هل كان درويش بعيداً عن الزعماء العرب، أما أنه كان يبحث عن بقائه في زعامة الشعر؟!ليس هدفنا هنا محاكمة محمود درويش، لكن ما ينبغي قوله إن المثقفين العرب لم يكونوا بعيدين عن الاستبداد العربي، كان معظم أهل الثقافة ينظرون الى الثقافة الحزبية، بمعنى أنهم كانوا مثقفين حزبيين يغلبون الايديولوجيا على الدولة، ومن هذا المنطلق تحتاج الثقافة العربية إلى إسقاط نظامها في مختلف المجالات لإنشاء ثقافة قائمة على الديمقراطية، وفي هذا السياق لا نعرف إن كان الكاتب محمد دكروب قد لجأ الى نقد زمن المثقف الحزبي في العدد الجديد من مجلة «الطريق».تراجعت المجلات الثقافية العربية منذ سبعينيّات القرن الماضي، واختفت مجلات ثقافية مميّزة، خصوصاً في الربع الأخير من القرن، نذكر منها في مصر «الفكر المعاصر»، «المجلة»، «القصة»، «الكاتب»، «الشعر»، «تراث الإنسانية»، «السينما»، «المسرح»، ومن قبلها اختفت مجلتَا «الكاتب المصري» و{مجلة الرسالة»، في حين توقّفت عشرات المجلات في العراق واليمن، واحتجبت في السنوات الأخيرة مجلات أساسية منها «الناقد»، «أبواب»، «الكرمل»، «مواقف»، «سطور»، في حين بقيت قلّة منها قيد الصدور، لتعود في الألفية الثانية وتظهر وفق تخطيط ورؤية جديدين يعكسان تجديداً في الشكل والمضمون. كذلك استمرت مجلة «الطليعة» بالصدور لزمن وأيضاً «أدب ونقد» لأكثر من عقدين ونصف العقد. في لبنان احتجبت خلال النصف الثاني من القرن العشرين مجلتان بارزتان هما «شعر» التي احتضنت التيارات الجديدة في الشعر العربي، ثم «العلوم» التي كانت ترصد آخر المنجزات والتجارب العلمية والعالمية الحديثة. في الخمسينيّات صدرت في لبنان مجدداً مجلات «الطريق»، «الآداب»، «الأديب»، «دراسات عربية»، وقبل عشر سنوات توقّفت مجلة «الطريق» فيما استمرت مجلة «الآداب الّلبنانية». في الكويت استمرت «مجلة العربي» من دون انقطاع لقرن ونصف القرن.وارتبطت المجلات الثقافية العربية عموماً مثل «المقتطف» و{الهلال» و{الكاتب المصري» و{أبوللو» و{الرسالة» و{الجامعة» إلى «العربي» الكويتية و{الآداب الّلبنانية» و{الهاتف» العراقية باتجاهات أيديولوجية ومشاريع ثقافية وفكرية، وربطت القارئ بتيارات فكرية وأدبية عالمية وعربية.