25 يناير... مليون خالد سعيد يلهبون الميدان... والأحزاب و الإخوان خارج الخدمة
يحكي الروائي والصحافي المصري سعد القرش قصة ثورة 25 يناير التي عاش وقائعها حالماً ثم متظاهراً ثم صحافياً في جريدة «الأهرام المسائي»، بعين خاصة لا تستبعد المعلومة المستقاة من الشارع الثائر، ولا تتورّع عن ربط وقائع منشورة هنا وهناك بعين مثقّف مستنير لتصل إلى معنى الثورة الحقيقي. في الحلقة الأولى يمر القرش بين قراءات صحافية وتصريحات ليلة الثورة، بخفة من يمر بين شاحنات جنود قرب ميدان التحرير فجر (الثلاثاء) 25 يناير، قبل ساعات من وقوع أحداث اليوم الأول للحدث الأضخم في تاريخ مصر الحديث، يوماً يوماً وتفصيلة تفصيلة إلى أن يصل إلى خطاب التنحّي الذي ألقاه عمر سليمان مساء 11 فبراير 2011، ليتوّج 18 يوماً من الاستشهاد في سبيل الوطن والتضحيات من أجل الحرية والصرخات التي أطاحت بدولة الرئيس السابق حسني مبارك وأدت الى انهيار نظامه العنيد.إلى شهداء ثورة 25 يناير 2011.
ثورة الشعب أكبر من قول كعب الأحبار لعمر بن الخطاب:إن الله عندما خلق الدنيا جعل لكل شيء شيئاً، فقال الشقاء أنا لاحق بالبادية، وقالت الصحة وأنا معك. وقالت الشجاعة أنا لاحقة بالشام، فقالت الفتنة وأنا معك. وقال الخصب وأنا لاحق بمصر، فقال الذل وأنا معك.وأكبر من وصف ابن بطوطة لأحوال مصر قبل نحو 700 عام:يستبد العسكر، والشعب يئن تحت وطأة الحكم، ولا يهتم الأقوياء بذلك، والعجلة تدور.وإلى عبد الوهاب المسيري، جمال حمدان، محمود أمين العالم، عبد العظيم أنيس، محمد عفيفي مطر، أحمد مستجير، أحمد نبيل الهلالي، محيي الدين اللباد، فاروق عبد القادر، محمد عودة، محمد السيد سعيد، وغيرهم ممن انتظروا طويلاً هذه الولادة الجديدة لمصر.إلى الرئيس المخلوع حسني مبارك الذي بدأ مقاتلاً وانتهى قاتلاً.. لولا عنادك، وانتهاجك سياسة الملل، لفقدت الثورة كثيراً من روعتها.حين يتعلّق الأمر بالموقف من الخروج على الحزب الحاكم ورئيسه مبارك، يكون اختلاف حزب «التجمع» اليساري وجماعة «الإخوان المسلمين» رحمة، لكنّ هذه المرة اتّفق «الخصمان» على رأي راحد. رأى رفعت السعيد، رئيس «التجمع» ضرورة الحصول على تصريح من وزارة الداخلية للتظاهر والاحتجاج في الشارع، وهو يعي أن الوزارة لا تمنح تصريحات للاحتجاج، ويرضى بالدنية في وطنيته، ويسمح لنفسه بقبول تعيينه عضواً بمجلس الشورى، هدية كريمة من رئيس كريم.المنطقي أن يدخل البرلمان تحمله أصوات الناخبين، لا مكسور العين بمنحة، والمنطقي أيضاً أن ينزل الشارع، ويقود المتظاهرين، ويكون مستعداً لدفع الثمن من حريته. وقد وعت «كفاية» - الحركة الوطنية للتغيير - هذا الدرس، وهي تحتمي بالشارع، وتراهن عليه.11 ينايريوم 11 يناير أعلن «الإخوان» أنهم لن يشاركوا في تظاهرة 25 يناير، احتراماً «للمناسبة الوطنية التي ينبغي علينا أن نحتفل بها معاً»، وبعد نجاح الثورة أعلنوا أنهم آباؤها أو أحد آبائها. للمرة الأولى يتّفق «الإخوان» وأحزاب «التجمع» و{الناصري» و{الوفد» على عدم التظاهر، بحجة أن 25 يناير عيد الشرطة، وبرّر بعض الأحزاب عدم المشاركة بأنها لم تحدّد مكان التظاهرة ولا موعدها. بدا لي المتخاذلون إخوة في الرضاع لأشقاء يدَّعون الثورة، رضع هؤلاء منطق حزب البعث السوري، فحين تضرب الطائرات الإسرائيلية مواقع عسكرية سورية، أو تحلّق فوق القصر الرئاسي، يخرج متحدث رسمي، بدرجة وزير خارجية مثلاً، معلناً أن بلاده تلتزم ضبط النفس، ولن تخوض حرباً لا تحدّد توقيتها، متجاهلاً نزيف القصف وإهانة كبرياء بلد كُشفت عورته.على الضفة الأخرى، حيث يقف المتحدثون باسم الله، نشط واعظ سلفي اسمه محمد حسان، متخذاً من قناة «العربية»، يوم 30 يناير، منبراً للنهي عن المشاركة في التظاهرات، ووافقه الرأي أبو إسحق الحويني، ولا أدري إذا كان هذا اسمه الفعلي أم الحركي، قائلاً في حديث تلفزيوني إن «التظاهرات أحد الأمراض السلبية»، وشدّد في نبرة وعيد، وهو يستعير وجه نبي يخطب في كفار حق عليهم عذاب جهنّم، مضيفاً أن التظاهرات «تهريج»، وأن للمسيرات أثراً سلبياً. كذلك هاجم خالد الجندي، صاحب ومدير فضائية اسمها «أزهري»، ثورة 25 يناير، واتهم الثوار بالعبث بمصر، وسألهم وهو هائج، يذود عن مبارك بكفَّيه وذراعيه: «ماذا تريدون من هذا الوطن؟»، ثم قدّم بيديه حركة استعراضية، قلّد فيها ممثلي الدراما التلفزيونية وهم يعظون كفار قريش، وقال لمن ظنّهم صغاراً، بصوت يجمع الحكمة والسخرية معاً: «أنتم تعبثون بهذا البلد». ليعود بعد خلع مبارك ويتحدّث عن عظمة الثورة!أما الوعاظ الرسميون الذي نالوا الحظوة السلطانية وصدر قرار جمهوري بتعيينهم، فلم يقصّروا في أداء واجبهم تجاه ولي النعم. فقال المفتي علي جمعة في قناة «دريم» الفضائية إن التظاهرات «فتنة لا يرضى عنها الرب». وتطوّع أحمد الطيب، شيخ الأزهر، عضو الحزب «الوطني» الحاكم، بفتوى تحرّم التظاهر ضد مبارك، قائلاً إن طاعة ولي الأمر واجبة، والحجة «الشرعية» جاهزة، وهي الخوف على مصلحة البلاد العليا، ولكنه كان كريماً، في الشهر التالي، مع الثوار في ليبيا، إذ منحهم فتوى توجب الخروج على القذافي «الغاصب المعتدي الذي فقد شرعيته». وقد تجلّت الوحدة الوطنية في اتفاق شيخ الأزهر والكنيسة على النهي عن المشاركة في التظاهرات، فلم تستجب السماء للتوسّلات.مساء الإثنين 24 يناير، كان لرئيس لجنة العلاقات الخارجية والشؤون العربية في مجلس الشورى مصطفى الفقي رأي آخر.والفقي أكاديمي عمل موظفاً في رئاسة الجمهورية ثماني سنوات، ثم خرج منها أو أُخرج، وفي ذلك تتضارب الروايات، وليس هذا موضوعنا. تأرجح بين تأييد نظام كان أحد تروسه الفاعلة وما يقول إنه «استقلال فكري» يصعب الإمساك بتوجّهه، إلى فكر عبد الناصر مرة، وجنوح السادات مرات، وتعرّض لانتقادات حادة، بتهمة قيام النظام بتزوير الانتخابات عام 2005 لصالحه، وشهدت بذلك المستشارة نهى الزيني، وهذه قضية لا شأن لنا بها الآن، فما يعنينا هو أن الفقي ترأس مساء 24 يناير 2011 وفداً برلمانياً التقى أعضاء من مجلس العلاقات الخارجية الأميركية، ورداً على سؤال الأميركيين عن تكرار سيناريو الثورة التونسية قال الفقي «إن مصر وتونس مختلفتان. ونرحب بما يحدث في تونس، ولا يمكن أن نقول إن بن علي مثل مبارك» (جريدة «الشروق» المصرية 26 يناير 2011).يوم الثلاثاء 25 يناير، لم يقرأ الثوار صحيفة «الأهرام»، رأوها فاقدة الأهلية الوطنية والمهنية، إذ خصّصت الجزء الأبرز من صفحتها الأولى لوزير الداخلية حبيب العادلي. هذا الرجل الذئب الذي حمل مفتاح الثورة وسلّمه لنشطاء الـ «فيسبوك»، فصنعوا منه للشعب ملايين النسخ ودخلوا القصر الجمهوري وخلعوا الرئيس. كان المفتاح يحمل صورة خالد سعيد، شاب اسكندراني نحيل مبتسم لثورة لن يدركها، لكن جسده فجَّر ثغرة مهمة في جدار فولاذي، وقد اتّهم بابتلاع لفافة من البانجو، قالت الشرطة إنها أدت إلى وفاته، ولم يسأل الملفّقون: ما الداعي للتمثيل برأس الشاب؟ صورته التشريحية مشوّهة، طاولتها يد باطشة، فتكت بالذقن والفكين، وفرطت الأسنان، وما هكذا يفعل البانجو بالناس! استفتوا أي حشاش، وما أكثرهم بين سفاحي وزارة الداخلية. كتبت صحيفة «الجمهورية» أيضاً أنه شهيد البانجو». هنا أعلن نشطاء الـ «فيسبوك» صيحتهم العابرة للمسافات: «كلنا خالد سعيد». خصّصوا له صفحات، زوّدوها بصوره مبتسماً، ثم مُمَثلاً به، وعاندوا بوسائل العصر سلطة متخلّفة تنتمي إلى الماضي، وفي موقع «يوتيوب» الإلكتروني شريط فيديو كان خالد سعيد تمكّن من تصويره في الإسكندرية لأفراد من الشرطة يعيدون تدوير المخدرات. وقد جرت العادة أن يستأثر بعض الضباط بجزء من المخدرات المضبوطة، خصوصاً الحشيش، للاستخدام الشخصي، وإذا اتسعت الذمم تجد المضبوطات طريقها إلى الشارع عن طريق تجار مخدرات أو مروّجين صغار موثوق بهم. أراد الحمقى أن ينتقموا لفضيحتهم، فارتكبوا جريمة أدت إلى الإطاحة بنظام حَكَم البلاد بالحديد والنار 30 عاماً. حدث ذلك في يونيو 2010، حين قبض اثنان من مجرمي الشرطة على خالد سعيد وعذباه حتى الموت، ونكاية في أهله وفي الغاضبين أخلت النيابة سبيل المتّهمين بالقتل. قال أحد الشهود إن الفتى استعطف الشرطي وهو يضرب رأسه: سأموت. ولم يتردّد القاتل في الاعتراف بأنه جاء ليقتله. أصبح خالد سعيد أيقونة، بملامح تحتفظ ببقايا طفولة، وابتسامة تقترب من الهشاشة والتفاؤل، ثم بصورته مُمَثلاً به، مُشوَّهاً على مقاس تشوّه نفسي يعانيه وحوش الشرطة.فشل الأهرامفشلت «الأهرام» مهنياً منذ اليوم الأول، وهتف الثوار بعد تحرير ميدان التحرير من قبضة الشرطة بسقوط مسؤوليها. خصّصت الصحيفة مساحة كبرى لمقابلة مع حبيب العادلي، «وزير التعذيب»، أجراها رئيس التحرير ومحرّر استمرأ الحديث للفضائيات بلسان جهاز أمن الدولة سيئ السمعة، حتى أن الصحافيين وصفوه بمندوب البوليس في الأهرام. نشرت الصحيفة صورة كبيرة للوزير مبتسماً، وتجاهلت حق القارئ في معرفة حدث ضخم أعلن منظّموه إصرارهم على تنفيذه في موعد حدّدوه. هل كان مبارك يتنبأ، في الخطاب/الشهادة بمناسبة عيد الشرطة، بالحدث الذي سيسدل ستار النهاية حين قال «لقد أثبتت مصر أنها أقوى من المِحن، وأثبت المصريون أنهم شعب متماسك وعنيد»؟سهرت في «الأهرام المسائي»، مسؤولاً عن الطبعة، حتى فجر الثلاثاء 25 يناير. قدّرت أن الثورة لن تبدأ في الصباح، الخبرة التونسية تقول إن من الحكمة أن تبدأ الثورة بعد الظهر، فالشرطة تستيقظ مبكراً وبعد ساعات تكون منهكة، فيستطيع الثوار أن يبدأوا بكامل حيويتهم ويواصلوا احتجاجهم مساءً حتى فجر اليوم التالي. كان عدد «الأهرام المسائي» يضمّ ملفاً من سبع صفحات، نقلاً عن مجلة «الشرطة»، تحت عنوان «عيد الشرطة عيد كل المصريين» عن أبطال وشهداء ثورة يناير 1952 في الإسماعيلية. وفي الملف حوار سنوي تجريه المجلة مع مبارك يكتبه غالباً محترف مجهول ويُنسب إلى الرئيس، وفيه قال: «أعيادنا الوطنية ليست مجرد أيام في التاريخ... فقيمتها الحقيقية في أنها علامات وطنية في تاريخ مصر، تضيء الطريق لأجيالنا الجديدة، وتطرح أمام شبابنا نماذج لقيم الفداء وروح التضحية والبذل التي واكبت مسيرة مصر وشعبها»، ولم ينسَ أن يؤكد احترام «إرادة الشعب التونسي وخياراته»، بعد خلع زين العابدين، أول الرؤساء العرب الهاربين. تصفَّحتُ المجلة وفوجئت بمقالات لصلاح عيسى وجمال الغيطاني وفريدة الشوباشي وغيرهم، ولم أبالِ بآخرين يسترزقون، فمنهم عجائز الصحافة، ومديرو التحرير في الصحف. وسألت نفسي: هل يكتبون مجاناً؟غادرتُ «الأهرام» قرب الفجر. وقبل صعودي جسر أكتوبر، دعوت ثلاثة أشخاص يرتدون ملابس مدنية للركوب في سيارتي. أكبرهم سناً يبلغ الأربعين تقريباً، كان أكثر أناقة ويقف وحده، وفي يده حقيبة صغيرة، والآخران يتحدّثان معاً. جلس بجانبي صاحب الحقيبة الصغيرة، وعرفت من حوار اللذين في الخلف أنهما شرطيان، وقلت وأنا أتحرّك إنني لا أحب البوليس، وسيارتي لا تتّسع لرجال الشرطة، وضحكنا. قالا إنهما مجندان في شرطة المرور، وهبط أولهما فوق الجسر، واستمر الثاني معي، حتى نزل بالقرب من مكان عمله في شارع الهرم. ظلّ الجالس بجواري صامتاً، ثم تحدّث بحرص وقال إنه ضابط مُستدعى من «أمن الدولة» في حي مدينة نصر لمساعدة زملائه عند جامعة القاهرة. أوصيته بأن يكون رحيماً بالطلبة، وآلمتني عيناي من ذكرى قنابل مسيّلة للدموع خبرتها عام 1991 للمرة الأولى في جامعة القاهرة، بعد إنهاء دراستي وخدمتي العسكرية، في تظاهرات مندّدة بالقصف الأميركي للعراق. كنا قد وصلنا إلى الجامعة، وكان عليَّ أن أنحرفَ إلى اليمين أقل من 100 متر، ثم أميل إلى اليسار عائداً إلى ميدان الجيزة، فشارع الهرم، فاقترح الضابط أن أسير عكس الاتجاه وألا أخاف من ضباط الشرطة، فهو منهم وهم منه، قلت له: القانون قانون، هذا لا يكلّفنا سوى دقائق. لا أدري كم من الأبرياء استشهدوا برصاص مسدّس هذا الضابط، ولعلّه هو نفسه قُتل برصاص زميل له.كانت مصفّحات الشرطة تنتشر فوق الجسور وفي الميادين وتقاطعات الشوارع، وحول جامعة القاهرة، حالة استنفار، إنها الحرب إذاً، وهذه البطون من المصفّحات جاهزة لابتلاع آلاف ممن ينبغي ألا يسأل عنهم ذووهم. حين صحوت قصدت محطة الإسعاف، حيث نقابتي الصحافيين والمحامين ونادي القضاة (مثلث الرعب)، كان الجنود يغلقون شارع رمسيس أمام قاصدي ميدان التحرير، ويقطعون شارع 26 يوليو عن شارع رمسيس، ويتصدون للمسالمين بعصيّ وحواجز لا تمنع عبور الهتافات بسقوط مبارك وابنه جمال ووزير الداخلية ومجلس الشعب المزوّر وناهبي أموال الشعب. كان مثلث الرعب، حتى المساء، مصدر إزعاج للشرطة، على رغم مغادرة جموع المتظاهرين متوجّهين إلى ميدان التحرير.كان ميدان التحرير، منذ الصباح، هدف آلاف المتظاهرين. فهو ملتقى طرق وآمال ومصالح حكومية ومؤسسات للحكم، قلب تستمد منه الشوارع المؤدية إليه قوّتها، ولا يأمن الثوار على أنفسهم إلا في دفئه. صنعت كل مدينة ميدان تحرير خاص بها، خصوصاً السويس والإسماعيلية والإسكندرية والمحلة الكبرى والعريش والمنصورة.وعلى رغم الحشد الضعيف، فقد استبق بعض المتظاهرين الغيب وكتب بالعربية والإنكليزية «إرحل»، وهي كلمة كُتبت في ما بعد بسبع لغات منها العبرية، لعلّ مبارك «يفهم ويمشي»، ونشط ظرفاء الـ «فيس بوك» فكتب أحدهم: «إذا فاز المصريون على النظام، فسيقابلون تونس في المباراة النهائية».وفي المساء، قال وزير «صفر المونديال» علي الدين هلال، مُعلّم جمال مبارك ومُثقِّفه ومسوِّقه إن عدد المتظاهرين في طول البلاد وعرضها 30 ألفاً، وهذا برأيه رقم هزيل في دولة مواطنوها 80 مليوناً.هل سمعت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون تصريح رائد جمال مبارك؟ ربما تكون قد استرشدت به إذ قالت إن الحكومة المصرية مستقرّة، ولا يعني الإدارة الأميركية إلا استقرار الأنظمة التابعة، أياً كان الثمن، ويؤمن آباء السياسة الأميركية بأن الأنظمة الضعيفة، الأنظمة اللاأنظمة، مُزعجة ولكنها لا تشكّل تهديداً للمصالح الأميركية. وهم يتبنون نظرية «الأزمات ذات التوتر المنخفض»، في دولة مثل مصر/مبارك، حيث لا يختفي التوتّر لدرجة تدفع النظم الى التفكير في البحث عن الاستقلال السياسي، ولا يزيد على حدّ يصعب التنبؤ بنتائجه، ولم يكن لأي جهاز استخباراتي أن يتنبأ بصحوة الشعب المصري، في توقيت واحد، ويجتمع على هدف واحد هو إطاحة النظام، رافضاً أي أفكار أو مساومات هدفها إطالة عمره أو إصلاحه.مساء اليوم نفسه، لم تتردّد وزارة الداخلية في تحميل «الإخوان المسلمين» مسؤولية تهييج المتجمهرين وأطلقت على الجماعة الإسم الحركي التقليدي «المحظورة»، وحذّرت من أن يخرج «الإخوان» على ما وصفته بالشرعية.عجزت الشرطة عن السيطرة على متظاهرين ذوي خبرة في التجمّع السريع، ثم الانتشار في شوارع جانبية، تمهيداً للالتقاء في أماكن أخرى، تجمّع وتفرّق ثم التقاء، بصورة تربك الجنود غير القادرين على التفكير أو الاجتهاد. هي خبرة رأيتها للمرة الأولى في تظاهرة نوعية يوم 31 ديسمبر 2008، تنديداً بالعدوان الإسرائيلي على غزة، وشرحتها في مقال بعنوان «أربع نصائح قبل أن تركب سيارة الترحيلات».سقوط الفاشليننشرت «الأهرام المسائي» يوم 26 يناير تحت عنوان «تظاهرات في حماية الشرطة» أن «الإخوان» حاولوا ركوب تظاهرات الشباب السلمية، وتصادموا مع الشرطة التي تعاملت بتحضّر. ونشرت مقالاً عنوانه «وسقط الفاشلون في يوم الغضب المزعوم»، كتبه مجهول خجل أن يصرّح باسمه، وترك صفته ومهنته وهي مدير تحرير موقع الحزب «الوطني»، وتساءل: «أين جموع الشعب الغاضبة والساخطة التي تحدّث عنها دعاة الفوضى والتخريب والتدمير؟»، وكتب المدير المجهول كلاماً إنشائياً مدرسياً مثل: «تمخَّض الجبل فولد فأراً»، وكررها ثلاثاً للتأكيد، وذكّرنا بأن التنظيم الإخواني غير قانوني، وما زال الخطر الحقيقي على استقرار البلاد. وقدّمت الصحيفة بلاغاً أمنياً، غير مهني، لم يصل إلى وزير الداخلية الذي منحته الثورة لقب «السفاح»، ثم خلعته وقدّمته للمحاكمة. كان حظ الوزير المخلوع لا يقل سوءاً عن حظ الصحيفة التي قدّمت وشاية متأخّرة وبلاغاً ضلَّ طريقه إلى وزارة الداخلية وتلخّص في صورتين في صفحتها الأولى، وحرصت على وضع دوائر حمراء حول وجوه ستة من قادة «تنظيم الإخوان غير الشرعي» بين المتظاهرين.أما فشل صحيفة «الأهرام» فكان سقطة مهنية وسياسية، إذ جاء عنوان الصفحة الأولى:«احتجاجات واضطرابات واسعة في لبنانتكليف ميقاتي بتشكيل الحكومة... والحريري يتمسّك بالسلم الأهلي»وفي الأسفل موضوع عنوانه: «الآلاف يشاركون في تظاهرات سلمية بالقاهرة والمحافظات»، وبجواره خبر عنوانه «شوكولا وورود في عيد الشرطة»، خبر غريب لا تدعمه صورة واحدة توثّق خرافة «تبادل المواطنين الشوكولا والورود مع رجال الشرطة بالمحافظات»، ولم تقل «الأهرام» إن المتظاهرين هتفوا بسقوط نظام مبارك، وإن النظام فرّق المتظاهرين المسالمين بالقوة في منتصف الليل، وهذا ما لا يتّفق مع تضليل مُتعمَّد اسمه تبادل الورود بين الضحية والجلاد.ولم يكتف أسامة سرايا، رئيس تحرير «الأهرام»، بذلك، إنما قال في برنامج تلفزيوني «إن التظاهرات محاولة دنيئة من جماعة الإخوان المحظورة لزعزعة استقرار مصر، لكن جورج إسحق قال للبرنامج نفسه إن الشرطة الوطنية التي قاومت الاحتلال البريطاني في قناة السويس 1952 لا علاقة لها بالشرطة التي تحارب الآن «شعباً بأكمله لحماية النظام».كذلك سجَّلت عناوين الصفحة الأولى لصحيفة «الجمهورية» في اليوم التالي، 26 يناير، فضيحة مهنية وأخلاقية وإنسانية:«50 متظاهراً بالمنصورة و100 بدمياط و200 بالإسكندرية... وبورسعيد والمنوفية والفيوم هادئةالمتظاهرون عطلوا المرور وأثاروا الشغب في ميدان التحريرعناصر محظورة وسط 10 آلاف من المتجمهرين... ألقوا الحجارة وأتلفوا المنشآت»انتهت العناوين التي يجب أن يُحاسب، بتهمة الجهل، من كتبها أو راجعها أو أقرَّها، فكيف أحصى المحرّر 50 متظاهراً هنا، أو 100 متظاهر هناك؟ وهل ظلّ هذا العدد كتلة ثابتة لا يزيد بانضمام متحمِّس أو مجامل أو عابر تظاهرة؟ ولا ينقص بهروب خائف أو جائع أو مُصاب؟ وكيف يمكن فرز عشرات من المتظاهرين وسط ميادين تزدحم بآلاف المواطنين، في معظم ساعات النهار؟في المساء، كتبت في صفحتي على الـ «فيسبوك»:«في دولة هي الأقدم، ونظام إداري عمره 4600 سنة، يصبح النظام السياسي إسفنجياً، يمتص التظاهرات والاحتجاجات، بدليل أحداث 1977 و1986. لدي اقتراح أن يجمع العقلاء 10 ملايين توقيع مثلاً، يتعهدون فيها للرئيس بخروج آمن، خروج من السلطة لا من البلد، خروج لا تتبعه ملاحقة قضائية ولا نكت.. في فترة حياته على الأقل. حل سهل لعله يخرجنا من هذا المأزق».حتى مساء ذلك اليوم، لم يتأكّد لي نجاح الثورة. ظننت الشرارة ستخبو، وكانت مدينة السويس قد استعدّت لرفع الشعلة، طوال يومَي الأربعاء والخميس، ولم تفرّط بـ{الأمانة» التي لا يحملها إلا أولو العزم من الثوار، إلى أن تسلّمها أبطال ميدان التحرير في جمعة الغضب.لم تتحدّث الصحف التي أدمنت الكذب عن الشرطة التي لا تتحلى بفضيلة الصبر، فلم تحتمل أعصاب البوليس غضب المتظاهرين المسالمين إلا ساعات، وفي الدقائق الأولى من فجر الأربعاء 26 يناير، بدأت مطاردة المعتصمين بالسيارات المصفّحة في ميدان التحرير، بعد تفريقهم باستخدام قنابل مسيّلة للدموع، وخراطيم مياه في ليل القاهرة شديد البرودة، لكن تلك المياه لم تكن قادرة على إطفاء جذوة ثورة خمدت 48 ساعة استعداداً لشعلة نسفت أوهام قوة النظام في جمعة الغضب.في ذلك اليوم، 25 يناير، استنكر 30 سينمائياً نتائج مسابقة نظّمتها وزارة الثقافة لدعم الأفلام، وأصدروا بياناً عن مهزلة وإجراءات باطلة ارتكبتها لجنة رفضت 76 سيناريو، وفي هذا إهانة للسينما، وطالبوا بإعادة التحكيم عن طريق لجنة علنيّة موثوق بكفاءة أعضائها.