خذ وخل: وداعاً ابا صقر

نشر في 27-12-2010
آخر تحديث 27-12-2010 | 00:01
 سليمان الفهد • أتوجس من «المسجات» التي تردني فجراً أو في العشية، لأنها عادة ما تكون مضمرة بخبر مفجع، أو هكذا أظن! و»المسج» مهما كانت دبلوماسيته، فظ وفج يلوك عبارات باتت فاقدة المعنى والروح والدلالة! الشاهد أني فجعت- مثل غيري- برحيل الصديق «وائل جاسم الصقر» المفاجئ المفجع. يومها كنت في القاهرة، وعلى وشك السفر إلى بيروت، فوجدتني في موقف مشابه لمن قال: «صح مني العزم، ولكن الدهر أبى»، هكذا كانت حالي حين كان حرياً بي الحضور إلى المقبرة لممارسة حقي ولا أقول واجبي في تشييعه.

ولعل عزائي في هذا السياق يكمن في أن المعزين بالمقبرة كثيرون، ولا غرو في ذلك، لأن كل من عرف الراحل عن كثب، لا يملك سوى أن يحبه، لأن شخصيته تنطوي على «كاريزما» تحرض على الاحتفاء بمعرفته وصداقته! كما حدث لي في ديوانية العم عبدالرحمن البدر في «البدع» مطلع سبعينيات القرن الماضي، أذكر أني ذهبت إلى هناك بمعية أخي «عبدالرحمن صالح الشايع» شفاه الله وأثابه، ولعل أحد مفاتيح شخصيته هو سمته الباسم الذي يشي بحبه للدعابة والنكتة والممازحة مع ثلة من أصدقائه الحميمين، الذين درسوا في الجامعات الأميركية، واعتادوا اللقاء لدى عراب الثلة الصديق «عبدالعزيز البدر» مدير عام شركة المطاحن سابقا، في منزلهم في منطقة «البدع» كما أسلفت، وحالما عرفت بالخبر المفجع، تداعى إلى ذاكرتي حضوره البهي المضمخ بمناقبه الإنسانية المترعة بالاتصال والتواصل مع الآخرين المريدين له رحمه الله.

• ولأني كنت الوحيد من الثلة الذي لم يدرس في أميركا بل القاهرة، صرت «ترجماناً» ودليلا سياحيا «للربع»، حيث أتيح لجلهم معرفة قاهرة المعز التي أخبرها جيداً، الأمر الذي مكنني من التصعلك معهم وبهم في الفنون والعادات والناس والتقاليد التي تنأى عن السياحة على الطريقة الخليجية العتيدة! وعادة ما يكون جل خريجي الجامعات الأميركية من الذين لا تروق لهم القاهرة بقضها وقضيضها! لكن «وائل» نسيج وحده, فلذا أحب مصر السبعينيات «بعبلها» كما يقول إخوتنا المصاروة!

ومن هنا راق له الإبداع الموسيقي للعازف الفذ ومؤلف الموسيقى المدهش، الأستاذ «عبده داغر» وفرقته الموسيقية، وأحب أشعار «أحمد فؤاد نجم» بألحان وأداء عمنا ومولانا «الشيخ إمام عيسى»، فضلا عن مشايخ الإنشاد الديني الذين اعتدت دعوتهم في شقة قصر النيل بوسط القاهرة، في المناسبات الدينية وغيرها. وكان هذا الأمر محل مماحكة من قبل الثلة التي ألفت موسيقى «الجاز والبلوز والكونتري». كأن يزعموا بأن ذاكرته الموسيقية الغربية اقتحمتها موسيقى «فرقة حسب الله» و»محمود شكوكو» وأمثالهما!

ولعل احتفاءه بالبيئة وحمايتها من التلوث بأشكاله كافة، تبرعم في القاهرة، حيث كنت أسمع منه ملاحظات شتى بشأن حماية بيئة قاهرة المعز الطافحة بكل أنواع التلوث! كأن تحال إلى الاستيداع والتقاعد كل السيارات العتيقة التي تستخدم «الديزل» وعمرها الزمني بلغ عتيا!

ومن هنا فإن اهتمامه بالبيئة حري بذويه وأصدقائه الحميمين الاحتشاد للتفكير في صيغة تجسد هذا الاحتفاء ليكون فعلا يدب على الأرض، عبر وقف يكرس لتشجيع المباحث العلمية المعنية بالبيئة القطرية والإقليمية والدولية، لا سيما أن «البيئات» ترتبط عضويا بحبل «صرة» يجعلها تتداعى لأي بلية، تحدث في أي مكان، باستجابات تؤكد تواشجها وتلاحمها، كما رأينا الآثار السلبية الضارة لحرق آبار نفط الكويت إبان الغزو العراقي.

وقد اعتدنا على أن تكون الصدقة الجارية محصورة ببناء المساجد فقط لا غير على الرغم من أن الديرة لا ينقصها المساجد! ومن فضول القول: الإشارة إلى أن احتفاءه بالبيئة يرمز إلى إنسانيته، وإلى إحساسه المرهف بمسؤوليته الأخلاقية تجاهها، والطريف أن الاقتراح الذي سمعته منه في السبعينيات بشأن منع المركبات البالية من شوارع القاهرة، لم ينفذ إلا منذ ثلاث سنوات! ربما من جراء البيروقراطية المصراوية المعتقة ذات العمر البالغ سبعة آلاف سنة! رحم الله «بوصقر» وألهم أهله وكل محبيه الصبر والسلوان.

back to top