الأغنية اللبنانيّة تقطر دماً وقتلاً المعاني لا محلّ لها في أقلام شعراء الأغنية

نشر في 29-10-2010 | 00:00
آخر تحديث 29-10-2010 | 00:00
من المشوّق جداً أن يطارد الباحث سُحُب الدم وأنهاره في قصائد الحبّ، ويرصد التطوّر والتبدّل الحاصلين على هذا الصعيد. وممّا لا شكّ فيه أنّ قصائد العرب أيّام خيلهم وليلهم كانت مثقلة بالدماء التي تجد لها المكان الرّحب فخراً ومديحاً ورثاء وهجاء... وغزلاً. والدّم في قوافي الأمس البعيد يبرّره الزّمن القاسي والخشن، والحياة التي تستلقي على رؤوس الرماح، وتحتها رملٌ لا يُطْلع وردة، ولا يجترح جناحَيْ فراشة...

لكلّ زمن تعاطٍ مختلف مع الدّم. ووصف الإنسان القديم بالدمويّ ليس تجنّيًا، لأنّ واقعه أبرع محامي دفاع عنه. والدّم صنع التاريخ، والتاريخ ليس أكثر من صناديق دماء محمولة على ظهور الخيل. وعليه، فإنّ الدّم حاضرٌ في كلّ شيء: في العادات والتقاليد والأمثال الشعبيّة ومعظم نشاطات الحياة اليوميّة. وعلى مرّ الأيّام ظلّت القوّة عربة ذهبيّة تنقل الفاتحين من بلاد إلى بلاد، غير أنّ الدّم، كمفردة، لم يعد سيّد الحضور، لا سيّما في الأدب. حتّى القصائد ذات النَّفَس الوطني والثوريّ، لم تُعَد «معلّبات» دماء، وأمست تتّسع للمعاني أكثر، المعاني التي تقول العميق والموحي والمؤثِّر والفاعل وقد تمرّ بالدّم ولا تمرّ، وهي إن مرّت به تمزجه بندى حضاريّ وبرحيق الزمن الجديد والإنسان الجديد، فلا تمجّده على سنّة الجاهليّة، ولا تعطيه حقّ الثأر، ولا تدعو إليه أنهارًا، ولا تباركه مشروبًا، ولا تطلبه صابغًا ثياب الناس، ولا تقرّ بسلطانه... إنّما الأدب الحضاريّ يرى أجمل وظيفة للدم أن يجري في عروق الإنسان فحسب.

فنّيّة الشّعر المغنّى

غريب ما يجري في الأغنية اللبنانيّة اليوم. لقد فهمنا أنّ فنّيّة الشّعر المغنّى لا محلّ لها في أقلام شعراء الأغنية. والكلام ليس عليها ـ رحمها الله ـ إنّما على المعاني. فبعدما غنّى وديع الصافي: «كرمال قلبي يا عيوني تصبَّرو/ عليّي وعازَتّ الدمع لا تتكبّرو/ وقدام يللي بحبّها رِشّو الطريق/ ولا تخلّو ثيابها يتغبّرو»، وبعدما غنّت فيروز: «... نرْجَع وليدات نعمل حَرْب/ نرْبَح وما ينقَصْ حدا منَّا»... بعد كلّ هذا الرّقيّ المتجلّي في لغة القصيدة اللبنانيّة على مستوى المعنى تطلّ الأغنية اللبنانيّة اليوم من نافذة البشاعة بكلام يعتمر تاج التخلّف الأسْوَد، وكأنّ الشحّ الإبداعي شعرًا لا يكفينا لنشعر بعمق الفجيعة، فأتى الانحدار المعنويّ ليعود زمن الخيمة يستوطن مسامعنا رغمًا عنّا بفضل وسائل الإعلام اللبنانيّة والعربيّة الطاعنة في الأميّة.

أعصاب باردة

كيف نتقبّل مطربة لبنانية تغنّي في القرن الحادي والعشرين: «وللي بيفكّر يجرحك/ برتاح منّو بقتلو»! كلمة «بقتلو» كُتبت ولُحّنت وغُنّيت بأعصاب باردة، فلا شاعرها شعر بأنّها وصلت إليه من عاصفة رمليّة جاهليّة، ولا ملحّنها انتبه الى الدم الثأريّ يقطر من الوتر وهو يلحّن، ولا السيدة التي حملتها على جناح صوتها شمّت رائحة الدّم الكريه تفوح منها، ولا وسائل الإعلام التي بثّتها ألف مرّة في النهار القصير عرفتْ أنّها تقول لنا، وبصريح العبارة: «إلى الصحراء، دُرْ»... وليت الأمر يقتصر على مطربة واحدة وأغنية يتيمة، فها هو المطرب محمّد اسكندر، بعد المطربة نوال الزغبي، يصرّ في أكثر من أغنية على إلباسنا عباءات الرَّمل، ويدعو الرّجال إلى عدم التخلّي عن المسدّس، وذلك لأسباب فائقة الوجاهة: «اللي بيرميكي بِوَرْدة/ بْـ راسو بخرتش فَرْدي»... تصوَّروا كيف يُرَد على الوردة برصاصة، هذا إذا اكتفى اسكندر برصاصة. و{مِن اليوم وبِرايح/ بيـ كلّ المطارح/ رح توقع مذابح/ لو فيكي تغَزَّلو». فهل كلمة غزل تستحقّ أن ينزل الدمّ لأجلها من «الحنفيّات»؟ ويكمل اسكندر: «الي بيتطلّع فيكي/ لَ يتِّملو عيالو». تصوّروا، أيضًا، صاحب عائلة يُحكَم على أولاده باليتم لأنّه نظر إلى امرأة تخصّ محمّد اسكندر عاطفيًّا! وفي أغنية أخرى، يملي اسكندر على المرأة دستور القبيلة، والمختصر المفيد أنّ النساء ممنوع عليهنّ العمل، وربّما لأنّ العمل مذكّر: «نحنا ما عنّا بنات/ تتوظّف بـ شهادتها»، وإذا عملت المرأة فهي معرّضة للاعتداء الذكوريّ: «بُكرَه المدير بِيعشق/ وبيتحرّك إحساسو/ طبيعي إنّي إنزل/ هدّ الشركة عاراسو». فاسكندر مستعدّ دائمًا لإطلاق النار والسبب الدائم هو المرأة، وعلى سنّة: «لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى/ حتّى يُراق على جوانبه الدَّمُ»...

تتمادى الأغنية اللبنانية الراهنة في الدمويّة، على رغم أنّ الأم اللبنانيّة تهزّ سرير صغيرها وهي تغنّي له: «يلا ينام/ لَ دْبَحْلو طَيْر الحمام/ روح يا حمام لا تصدِّق/ عم إضحك عا إبني تا ينام». أمّهات لبنان لا يذبحن طير الحمام ولو طمعًا بنوم طفل، فهنّ لا يهدرن الدم الحلال، فكيف تصل الأغنية اللبنانيّة إلى ما وصلت إليه من لذّة في «نَصْب» أراجيح الدم؟!

من الأذن إلى القدم

قديمًا، غنّت سميرة توفيق: «لا تضربني لا تُضْرُب/ كَسّرت الخيزرانِه/ صَرْلي سنة وست شهو / من ضربتَكْ وجعانيه»، وفي زمان هذه الأغنية لم يكن ضرب الرَّجل المرأة مستساغًا، وها نحن اليوم نجد الرّجل الذي كان «يتمرجل» بالخيزرانة على امرأته لم يتغيّر كثيراً، فهو بدّل الخيزرانة بالمسدّس، ونقل المرأة من «بيت الشعر» إلى خيمة حديثة بنوافذ وأبواب وعيون إلكترونيّة... والمشكلة مع الأغنية أنّ ناسنا لا يرفضون طبقًا، والسَّواد الأعظم منهم يطلب الأغاني التي تمرّ مباشرة من الأذن إلى القدم من دون أن يشمّ رائحتها العقل. المطلوب أغنية للرَّقص و{الدَّبكة» في سهرات المطاعم العامرة ومناسبات الفرح... وفي مثل هذه الأجواء المتخلّفة «خبطة قَدَمَكنْ عالأرض هدّارة» لا تختلف عن «نحن ما عنّا بنات»، لا بل الثانية هي الأفضل. طالما تغنّى الشعراء بأن العشق يريق دماءهم، وما أشهى المتنبّي قائلاً: «إنّ القتيل مضرّجًا بدموعه/ مثل القتيل مضرّجًا بدمائه»، فمعظم الشعراء العاشقين مقتولون، والقاصد قصر الحبّ حاملٌ دمه على كفّه... الدم بهذا المعنى لم يكن طاعنًا في السلبيّة، والقاتل كان مغدورًا: «كلا لا ذنب لمن قتلَتْ/ عيناه ولم تقتُل يدُه». لكنّ الدم الذي يقطر من الأغنية اللبنانيّة هو دمٌ مجرم، أين هو من دم عنترة: «ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ/ منّي وبيض الهند تقطر من دمي/ فوددتُ تقبيل السيوف لأنّها/ لمعت كبارق ثغرك المتبسِّم». الله ما أطيب دمك العاشق يا عنترة ـ إذا كان عنترة الشاعر حقيقة ـ وما أكثره حضارة ورقيًّا قياسًا مع الدم الذي يغلي في الأغنية اللبنانيّة ليردنا إلى توابيت الرّمل!!!

إنّنا في أمسّ الحاجة إلى أن يكتب الشعراء الأغنية. فالشاعر الحقيقي لا يمكن أن تخطئ بوصلته جُزُر الدهشة والمعاني النبيلة. الذين يكتبون الأغنية اللبنانيّة، لا سيّما في يومنا هذا، نَدُر فيهم الشاعر، وأكثرهم أمّيّ بالمعنى الحضاري، ومنقوص موهبة أوّلاً، وتاجر يتعامل مع ملحّن تاجر، والتجارة الرخيصة هي التي تربط الحلقات ببعضها البعض من كتابة النصّ الرديء وصولاً إلى بثّ الأغنيات في الإذاعات والتلفزيونات... وحقيقة الأمر أن الشعراء منبوذون من كلّ المهتمّين بتصنيع الأغنية وتسويقها إلا إذا رضي البعض منهم بشروط السوق، والشروط كلّها تقود إلى أنّ الأغنية المطلوبة يجب أن تكون ذات عمر قصير ليستمرّ عمل «مافيا» الأغنية مزدهرًا وهذه المافيا تشمل الكتّاب والملحّنين والمطربين وأصحاب الاستديوهات ووسائل الإعلام... إنّها «مافيا» عنكبوتيّة، قويّة، قادرة، ويشدّ أزرها ناسٌ يعبر الكلام من آذانهم إلى أقدامهم مباشرة.

back to top