خذ وخل: الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين

نشر في 15-12-2010
آخر تحديث 15-12-2010 | 00:01
 سليمان الفهد * ليست مصادفة أن تكون الشقة التي أسكنها في وسط البلد بالقاهرة، كانت تخص «خوجاية» مصرية يهودية، لأن فضاء وسط البلد كان يعج بسكانه «الخواجات» الأوربيين من اليهود والنصارى، الذين احتضنتهم قاهرة النصف الأول من القرن الماضي «الكوزموبوليتانية» المتسمة بروح التسامح الجاذبة للآخرين القادمين من كل حدب وصوب، والقادرة على تمصيرهم حتى النخاع! من هنا تجد أن «الرجل ذو البدلة البيضاء» سيرة وقائع نزوح قسري لأسرة يهودية من مصر عام 1963، وكانت المؤلفة «لوسيت لنيادو» طفلة في السادسة من عمرها، حين غادرت أسرتها قاهرة المعز عنوة، بينما كان والدها الوسيم الأنيق مولى البدلة البيضاء الشركسكين، يبلغ الثالثة والستين من عمره، المترع بالعيش الرغيد، ومباهج القاهرة التي تحظى بها الطبقة المتوسطة الميسورة، آنذاك. ويجدر الإشارة إلى أن الكتاب صدر أولاً بالإنكليزية عام 2007 ومن ثم صدرت ترجمته العربية مطلع 2010 عن «دار الطناني للنشر» بالقاهرة.

* وفي مقدمة المؤلفة «لوسيت لنيادو» للطبعة العربية، تذكر كيف كان والدها يصرخ على ظهر المركب التي أقلعت بهم من الإسكندرية، بالعامية المصرية «رجعونا مصر... رجعونا مصر» وتضيف «كم طاردتني الصرخة تلك لسنوات عديدة، لاحقتني إلى فرنسا، وبعدها إلى أميركا، حيث استقر المقام بأسرتي، ولا شك أن صدى هذه الصرخة دفعني بصورة أو بأخرى لكتابة هذه السيرة الذاتية.

وتشير المؤلفة إلى المناخ الاجتماعي المترع بالتسامح وقبول الآخر «هو ما أسر بي، وجعلني أعقد العزم على استحضار صورة لها على صفحات هذا الكتاب»، والقاهرة المتسمة بالتسامح، الحاضنة لثقافات متعددة، هي معشوقة أبيها «ليون»: الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين. كما وصفته وكان عنوانا لسيرة أسرتها، المنطوية على «وقائع خروج أسرة يهودية من مصر» وهو العنوان الآخر للكتاب.

إن الفصول الأولى من السيرة مكرسة للحديث عن حياة والديها وأسرتها في شارع «الملكة نازلي» المعروف حاليا «بشارع رمسيس»، حيث كانت العلاقة بين اليهود المصريين متناغمة مع أهلها من المسلمين والمسيحسين، كما يتبدى ذلك جلياً في ثنايا سيرة الأسرة في قاهرة النصف الأول من القرن العشرين.

* وإذا كانت مقولة «كل فتاة بأبيها معجبة» صحيحة فإنها تنسحب على المؤلفة بامتياز، وكانت «لوسيت» أو «لولو» كما ينعتها والدها وأسرتها وفق الطريقة التقليدية السائدة لدى المصريين كافة. كانت «لولو» الطفلة مولهة بحب والدها، بارة به، تحدب عليه في مرضه قبل النزوح وبعده، تتفهم حالة «النوستالوجيا» العارمة التي يحسها تجاه القاهرة بعامة، وإلى شارع الملكة نازلي بخاصة»!

كان والدها «ليون» يضاهي شخصية «سي السيد» المحفوظية الشهيرة، والذي كان يؤمن بالشعار الوجودي السائد في حياة الطبقة المتوسطة المصرية «بعد العشا... يحلى الهزار والفرفشة» والعشا «بالكسر» تعود إلى صلاة العشاء! فحالما يحل الظلام، ويخرج المصلون من المساجد، إثر أدائهم لصلاة العشاء، يهرع «ليون» ببذلته البيضاء الشركسكين ليمارس صعلكته الليلية بين المطاعم والمنتديات والمرابع الليلية المشهورة -آنذاك- ويرتادها الغاوون من الطبقتين الأرستقراطية والمتوسطة.

الشاهد أن اليهود المصريين كان منهم الوزراء والباشوات وكبار أصحاب المحال التجارية والطبقة المتوسطة، والفقيرة التي تقطن- عادة- في حارة اليهود. والحق أن هذه السيرة مصوغة بمداد «النوستالوجيا» المتبدي حنينا جارفا لمصر المشرعة قلبها وبابها لكل راغب في العيش بها، حيث الكل سواء!

وقد بات معروفا أن جل اليهود العرب الذين نزحوا عن أوطانهم العربية عنوة أو رغبة يعضون بنان الندم لأنهم فقدوا قيم المساواة والتسامح التي كانوا ينعمون بها في الأقطار العربية... حيث تحدثنا السيرة كيف أن الثقافة الأميركية «البراغماتية» لم تقبل «ليون» العجوز العاجز، وتطلب إحالته إلى مأوى العجزة.

الزبدة من كل هذه الهذرة هي أن هذه السيرة الساحرة البليغة تستاهل القراءة والتأمل.

back to top