المافيا... دولة المال والدم دون كورليوني...أين الحقيقة وأين الخيال؟!
يحتشد تاريخ المافيا منذ بدأت في الخروج من إيطاليا عموماً وجزيرة صقلية خصوصاً في بداية القرن العشرين إلى الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، فأسماء عدة تركت خلفها سيراً وقصصاً وحكايات يختلط فيها ما شهده الواقع من أحداث مع المخيلة الشعبية أو الأدبية لصورة شخص ما. من بين هؤلا الزعيم دون فيتو أندوليني كورليوني، الذي استلهم الكاتب الإيطالي ماريو بوذو تفاصيل حياته في روايته الشهيرة «الأب الروحي»، التي حققت نجاحاً منقطع النظير عند صدورها في عام 1968 وتُرجمت الى لغات عدة، كذلك كُتبت للسينما ما خلّد حكاية عائلة كورليوني التي تخطت شهرة الأساطير الإغريقية.لا يعرف أحد على وجه الدقة الحد الفاصل بين الواقع والأسطورة في سيرة دون كورليوني الأدبية أو السينمائية، على رغم ما يتردد عن أن قصته المتعارف عليها إنما هي انعكاس لحياة أحد أكبر زعماء المافيا على الإطلاق، وأكثرهم دموية في تاريخ المنظّمة العائلة، إذ قيل إنه الرجل الذي خطّط في عام 1938 لاغتيال جميع زعماء المافيا من دون أن تطرف له عين أو ترتجف له يد، ليتم ذلك بنجاح في يوم واحد، ويتربع بعدها على عرش الكوزانوسترا في نيويورك. ويعتقد البعض بأنه عاش ما بين 1900 و1960، ومع ذلك المعلومات المتاحة عن شخصيته الحقيقية محدودة للغاية، ويقال إن ماريو بوذو قد استوحى ثلاثيته الشهيرة من أحداث وشخصيات حقيقية في حياة كورليوني - وحيوات عدد من دونات المافيا - اختلط فيها الواقع بالخيال الدرامي الفردي والجماعي.
تؤكّد القصص المتداولة أن الأقدار أدت دوراً كبيراً في تأهيل كورليوني ليصبح زعيماً للمافيا، إذ بدأت الحكاية في جنازة شقيقه الأكبر- الذي راح ضحية أحد زعماء المافيا- حيث كان يسير الصغير «فيتو كورليوني» بصحبة أمه التي تبكي ابنها الشاب المقتول، والتي لم تتردد في الذهاب إلى قاتله لتستعطفه، وهي تشير الى فيتو الصغير: «لقد قتلت أبيه وأخيه الكبير، وهذا طفل صغير لا يستطيع الكلام، فلا تقتله»، فرفض الزعيم طلبها قائلاً: «ولكنه سيكبر، وسيعود للانتقام»، فهجمت الأم على الزعيم بينما تصرخ في صغيرها: «أهرب، أهرب». بالتالي قُتلت الأم فيما شق الصغير فيتو طريق إلى أميركا في سفينة مليئة بالمهاجرين. مرّت الأيام، واستقرت أحوال فيتو الذي كبر وتزوج وأنجب أطفاله في وطن جديد لكنه لم يتخلص من علاقته بماض قديم. بمرور الأيام، توطّدت علاقة صداقة بين فيتو وشخصين آخرين، شاركهما السرقة، واقتسم معهما الأرباح. ولكنهم واجهوا عقبة الدون «فانوتشي» الذي يجمع الإتاوات من أمثالهم، وعندما أرسل في طلبهم ذهب إليه «فيتو» مصمماً على قتله. سعد الجميع بمخلّصهم، الذي أطلقوا عليه لقب الدون «فيتو كورليوني»، فكسب احترامهم وثقتهم بقدرته على إنهاء أو حل مشاكلهم ومعاملاتهم. بالتالي، اختاره البعض ممن هم من أصول إيطالية أباً روحياً لأبنائهم، وبذلك يكنّون له الولاء المطلق ويطيعونه كأب حقيقي.وفي ظلّ اشتعال المنافسة الدموية بين عائلات المافيا، شعر دون «كورليوني» بالأسى حيال ما يفعله الزعماء الصغار باعتباره أكبرهم، فقرر التخطيط لاغتيال كل زعماء المافيا في مذبحة الثلاثينيات التي أتمّها بنجاح تام في يوم واحد.فيلم على حافة الكماللم يكن عمر المخرج فرانسيس فورد كوبولا الإيطالي الأصل، قد تجاوز الخامسة والثلاثين عندما تعاون مع «بوذو» لكتابة السيناريو، الذي جاء مطابقاً لأحداث الرواية الأصلية، ليتم البدء في إنتاج أول أجزاء الثلاثية عام 1971، بالعنوان الروائي نفسه «الأب الروحي» أو «العراب» The Godfather، الذي يعكس دور كورليوني الأهم ، أبو الكثيرين الروحي سواء من داخل العائلة أو خارجها. ويعد هذا الجزء أحد أفضل الأفلام على مرّ العصور، إذ احتل المركز الثاني في عام 2007 على قائمة أهم الأفلام في تاريخ السينما الأميركية، وأخيراً اختاره معهد الفيلم الأميركي في المركز الرقم واحد في قائمة أفضل أفلام الجريمة والعصابات. جسد فيه مارلون براندو باقتدار شخصية زعيم المافيا الإيطالية في أميركا فيتو كورليوني، فيما أدى آل باتشينو دور ابن مايكل كورليوني الأصغر. وقد حصد براندو عن دوره على أوسكار أفضل ممثل، ولكنه لم يذهب لاستلام جائزته، وإنما أرسل بدلاً عنه فتاة من الهنود الحمر في إشارة لوم واضحة الى الإدارة الأميركية عن حال سكان القارة الأصليين. يرتكز الفيلم على أهمية العائلة لدى الصقلي المهاجر، ويقول كوبولا في أحد تعليقاته الصحافية بعد أن حصد الفيلم 11 جائزة عالمية أهمها أوسكار أحسن فيلم: «شعرت أثناء إعداد الفيلم وتنفيذه، بأنني جزء من هذه الأسرة، وبأنها، على رغم ما ارتكبته من أخطاء، شديدة الدفء والترابط». يدور العمل بأكمله حول محور عائلة كورليوني، المكونة من الأب وأبنائه: سوني وفريدو ومايكل وكوني الشابة ذات الثمانية عشر ربيعاً، والتي تبدأ أحداث الفيلم بزواجها من الفتى الإيطالي كارلو ريزي، صديق شقيقها سوني.دروس كورليونييرى البعض في قصة كورليوني، سواء كانت واقعية أو درامية، درساً في الحياة نفسها، ويشبّه الفيلم بأنه كالنبيذ المعتق الذي يزداد قيمة كلما مرّ عليه زمنٌ أطول، مع ذلك يخلو الفيلم من مبالغات أفلام الجريمة المعاصرة الممتلئة بالدم والشتائم البذيئة، ويذخر في الوقت نفسه بمجموعة من الدروس العميقة التي يجب على المرء استيعابها، ومنها:- لا تجعل شخصاً من خارج العائلة يطلع على ما تفكر فيه، وهو خلاصة الموقف الذي جمع كورليوني بالمافيوزو سولوزو الراغب في ثراء المخدرات السريع، وهذا ما يرفضه الأب في حضور الابن فريدو الذي يندفع في الكلام، ما يدفع سولوزو الى محاولة قتل الأب، والاستئثار بابنه في صفقة مخدرات.- عليك أن تفكر قليلاً قبل أن تتكلم، واستمع إلى والديك، فقد جاءا مبكراً إلى الدنيا ويعرفان الكثير مما يجب تنفيذه. ولا تنسَ الاحتفاظ بالكانولي (كناية عن البندقية أو سلاحك)، بمعنى الحفاظ على نفسك في وسط عالمك ولو بتعلّم طريقة صنع الكانولي، أو بالدفاع عن نفسك بالبندقية. وعليك أن تكون مستعداً، وأن تحرص على استخدام العملة المطلوبة للماكينة المتاحة، كي لا تتأخر فتجد نفسك بين عاصفة من الطلقات.- الميسر خطيئة، أما المخدرات فهي عمل قذر يفقدك الجميع وكل شيء. وعليك أن تتذكر فحسب أن تقول لا، بمعنى التفكير والقدرة على اتخاذ القرار.- احتفظ بأصدقائك على مقربة منك، وبملهميك على درجة أقرب، ولا تتخذ موقفاً ضد العائلة، لأن أفرادها قد يغفرون لك وينسون أخطاءك، أما الخيانة فربما لا ينسونها أبداً.- جد الوقت لإقامة حفلة لطيفة للأصدقاء، وتذكر أن الأمر ليس شخصياً، ولكنها الأعمال أو «البيزنس». فعندما أُطلقت النار على الأب فكّر سوني في قتل كل من له علاقة، وهذا ما كان سيورد الأسرة المهالك في مواجهة خمس عائلات مافيا، وقد نجح الأب لاحقاً في سحب فتيل الأزمة بحكمة عندما دعا الى اجتماع مع العائلات لحسم الأمر وتجاوزه.- أخيراً، فإن التبرّك بالصالحين لا يضمن لك إنهاء رحلة صيدك، لذا عندما تذهب الى الصيد في المرة المقبلة أدِّ صلاتك وارتدِ سترتك الواقية كيلا تنتهي بالنوم مع الأسماك (تشبيه صقلي معناه: الموت). مما لا شك فيه أنك لو كنت شاهدت «الأب الروحي»، فلا بد لك أن تتذكر الجملة الأشهر: «قدم لهم عرضاً لا يستطيعون رفضه»، وهي تعني الاختيار الإجباري الذي يفرضه الأقوى على أحدهم. لكن الحياة الواقعية تكون غالباً أكثر تعقيداً مما يقدَّم على الشاشة، وإن كان الآباء أمثال كورليوني نادراً ما يلجأون الى العنف، فهم يعرفون احتياجات السوق ومتطلباته. لذا تقدِّم قصة كورليوني مجموعة أخرى من دروس الإدارة التي تلخّصها القواعد التالية: 1. ثمة الكثير من المال في الأسواق المحددة والموجودة بالفعل، أكثر مما قد تكسبه من سوق جديد تصنعه بنفسك.2. يمكنك غالباً استبدال العنف بمنح مزيد من بضاعتك بسعر مقبول عما يطلبه المنافسون.3. عليك فهم قيمة المنتج الاستهلاكي الذي يعاد طلبه ثانية.4. عليك أن تفهم قوة المنتج الأصلي الجيد وقيمته، لذا أترك للآخرين فرصة الحديث عنه والترويج له بالنيابة عنك.5. عليك استيعاب أهمية مكافأة الموزعين الكبار.6. فتش دوماً عن طرق للتنوع: أفسح لنفسك مكاناً أوسع في الأسواق، وابحث للآخرين عن المنتجات الجديدة المطلوبة.7. اجعل الطريق إلى بضاعتك سهل الوصول.8. لا تتكاسل عن مكافأة نفسك عند حصولك على أرباح جيدة.9. عليك أن تتميز بالمرونة، ولا تلتصق الى الأبد بمنتج أو خدمة غير مجدية أو مربحة.10. إعلم تمام العلم أن استمتاعك بالأرباح يمنحك طاقة لكسب المزيد.يرى البعض أنه إذا كنت تبحث عن السبيل لبناء أعمالك وتطويرها، فما عليك إلا استيعاب دروس كورليوني، فأنت لا تحتاج الى أن تكون زعيم عصابة لتخطط لمستقبلك المالي، وأول الدروس هي أن تتعلم من كل شخص أياً كان موقعه. ما تبقى من كورليونيلم يكن النص الأدبي والثلاثية السينمائية ودروس الإدارة هي كل ما تبقى من سيرة كورليوني، وإنما امتد الأمر ليشمل تقديم مصممي ألعاب الكمبيوتر لعبة استمدت فكرتها الرئيسة من الفيلم، لتحقق نجاحاً مشابهاً. وتتضمن اللعبة كثيراً من التحديات، ومهمات صعبة، فضلاً عن المهمات المرحة كاستجواب أحد الرهائن للحصول على معلومات. تسمح اللعبة لممارسيها باستكشاف مدينة نيويورك وخريطتها في فترة الأربعينيات، على أنغام موسيقى الفيلم الأخاذة. أما أهم عيوبها، على رغم استخدامها التقنيات الحديثة، فتنحصر في تكرارية أنماط الشخصيات ومطابقتها للفيلم، حتى من ناحية الفترة الزمنية. تمنح اللعبة مستخدمها إمكان تشكيل عصابته الخاصة من خلال الأدوات والاختيارات المتاحة، وتبدأ برؤيتك مقتل الوالد برصاص أفراد العصابات المنافسة، ويعقب ذلك أول مشاهد الفيلم وهو مشهد حفلة الزفاف حيث تتحدث الأم إلى الدون وتطلب منه إشراكك في العمل، ولا يستطيع الأب رفض طلبها فيرسل معك مساعده لوكا ليعتني بك ويؤهلك لبدء العمل مع العائلة. فتبدأ بعدها في تنفيذ مهام غير رسمية للأسرة بتحصيل الأموال من التجار مقابل حمايتهم، ويكون الأمر عادة صعباً أمام مقاومة أصحاب المحلات ورفضهم. وهنا يأتي دورك لإرهابهم بتحطيم محلاتهم أو وجوههم إلى أن تستطيع فرض سيطرتك. كذلك، ثمة مهمات إضافية مأخودة حرفياً من الفيلم، كأن يكون عليك اصطحاب الدون كورليوني إلى المستشفى بعد إطلاق النار عليه والقيام برعايته وحراسته، أو الذهاب إلى هوليوود للقيام بمهمة قتل حصان المخرج الشهير لينفذ أوامر أبيك، وستتولى أيضاً زرع المسدس الذي سيحتاج إليه «مايكل كورليوني» لقتل «سولوزو»، وغيرها من المشاهد الرئيسة في الفيلم. المسدس الذي تلعب به بسيط ولكنه ذو فاعلية كبيرة، ومن الإمكانات التي تتضمنها اللعبة وجود موقف يمكنك من خلاله صنع جدار تغطية واق من نيران الأسلحة، التي يبلغ عددها في داخل اللعبة أكثر من 38 نوعاً تتنوع بين مسدس تومي tommy gun ومسدس كاتم الصوت a snub-nosed، وثمة أيضاً قنابل المولوتوف وأصابع الديناميت وغيرها. ويمكنك تعديل سلاحك وتغييره عن طريق الذهاب إلى تجار السلاح، على أن تحمل كل هذه الأسلحة في وقت واحد وأن تختار ما هو مناسب لك في المهمة التي ستقوم بها. كذلك، يمكنك استخدام يديك في الضرب والطعن وإلقاء ضحاياك من أعلى بعد خنقهم أو كسر رقبتهم. وكلما كانت وحشيتك في تنفيذ مهام القتل عالية، كلما ارتفعت مكافأتك بالحصول على نقاط الاحترام، وستجد أنه كلما قمت بالمزيد، ذاع صيتك في عالم الجريمة وزادت صعوبة اللعبة. من جهة أخرى، أعلنت إيطاليا في يونيو (حزيران) الماضي عن تحويل مخبأ زعيم المافيا المشهور إلى منتجع سياحي، حيث يمكنك قضاء أيام عدة في أماكن ربما شهدت تصفية حسابات أو تخطيط عمليات، كذلك أُنشئ مصنع يحمل اسم «إي شينتو باسي» وهو عنوان فيلم عُرض عام 2002 عن قصة اغتيال الصحافي بيبينو إمباستاتو على يد المافيا. وقد أقيم هذا المشروع وغيره في جوار «كورليوني» بدعم «ليبيرا» وهي منظمة مناهضة للمافيا أسسها الكاهن الكاثوليكي «شيوتي»، وقد تخصصت في إعادة تأهيل الممتلكات المصادرة، ولكن ذلك لا يخلو من الأخطار ومن محاولات إرهاب وعمليات سرقة أو حرق للممتلكات. وعلى رغم التحديات، فإن الأشخاص الذين ساهموا في هذه التحولات - التي باتت ممكنة بعد تعديل القوانين الإيطالية- يقولون إنها تستحق العناء. وطالما سُمح للشرطة بمصادرة ممتلكات أعضاء المافيا أو رجال أعمال يشتبه بارتباطهم بالجريمة المنظمة، لكن منذ العام 1996 أصبح بالإمكان إعادة استعمالها لأغراض اجتماعية، وقد أنشأت «ليبيرا» مدرسة لتعليم ركوب الخيل على أرض كانت تخص «بروسكا»، وسمي المركز باسم ضحيته الشاب «جوسيبي دي ماتيو»، وافتتحت أيضاً متاجر لبيع العدس أو الشاي أو المعكرونة من أراضٍ خالية من المافيا. هكذا، وعلى رغم كل ما أحيط بالدون كورليوني وعائلته من قصص وحكايات لها نصيب من الواقع أو الخيال، فإن الدون يظل مديناً بشهرته الفريدة للسينما وهوليوود التي لم تنجُ من علاقات مع المافيا، وهذا ما سنعرف المزيد عنه.