فوضى العملة

نشر في 20-10-2010 | 00:01
آخر تحديث 20-10-2010 | 00:01
الجدال الدائر حول سياسة سعر الصرف التي تتبناها بكين لم يعد بمنزلة نزاع تجاري ثنائي بين الولايات المتحدة والصين، بل بات يشكل صداماً عالمياً في ساحة الاقتصاد الكلي بين البلدان المتقدمة والبلدان الناشئة،
وهو ما ينذر بـ"حروب عملات"
أو "حروب تجارية" ضارية قد تلقي بتداعياتها على الاقتصاد العالمي.
 Jean Ferry  كان وزير المالية البرازيلي غويدو مانتيغا بارعاً في الخروج بتصور سليم لروح العصر النقدية الحالية حين تحدث عن «حرب عملة» تلوح في الأفق. فقد تصاعد ما بدا وكأنه نزاع ثنائي بين الولايات المتحدة والصين حول سعر صرف الرينمينبي (عملة الصين) حتى تحول إلى جدال عام حول تدفقات رأس المال والعملات.

واليوم يبدو الأمر وكأن كل دولة تريد خفض قيمة عملتها. فقد استأنفت اليابان التدخل في النقد الأجنبي، ويستعد الآن مجلس الاحتياطي الفيدرالي (المركزي الأميركي) وبنك إنكلترا لشراء كميات ضخمة من السندات الحكومية- وهو الإجراء الذي يطلق عليه «التيسير الكمي»، والذي يعمل على خفض أسعار الفائدة الطويلة الأجل وإضعاف قيمة العملة بشكل غير مباشر.

أما الصين فإنها تقاوم بكل شراسة الضغوط الأميركية والأوروبية الرامية إلى حملها على التعجيل بالوتيرة البطيئة التي تتبناها لرفع قيمة الرينمينبي في مقابل الدولار. وتخطط بلدان الأسواق النامية الآن لتبني مجموعة من الأساليب الرامية إلى الحد من تدفق رؤوس الأموال إليها بهدف تعقيم تأثيرها في سعر الصرف.

ولكن منطقة اليورو فقط تبدو وكأنها تخالف هذا الاتجاه، حيث سمح البنك المركزي الأوروبي بزيادة سعر الفائدة على القروض القصيرة الأجل. ولكن حتى البنك المركزي الأوروبي لا يستطيع أن يتجاهل المخاطر المتمثلة في ارتفاع قيمة العملة، وذلك لأن اليورو القوي قد يؤدي إلى تعقيدات خطيرة فيما يتصل بالتعديلات اللازمة في بلدان مثل إسبانيا والبرتغال واليونان وإيرلندا.

إن الوضع الذي يعيشه العالم اليوم، حيث يريد كل بلد سعر صرف أضعف، ليس بلا سابقة، فقد حدث نفس الأمر في ثلاثينيات القرن العشرين، حين هجرت بلدان العالم، الواحد تلو الآخر، معيار الذهب، في محاولة لتصدير البطالة إلى بلدان أخرى. ولكن ليس من الممكن أن يكون لدى الجميع عملة ضعيفة في نفس الوقت، لذا ففي عام 1944 أوكلت المسؤولية عن منع سياسات الاستفادة على حساب البلدان الأخرى بخفض قيمة العملة إلى صندوق النقد الدولي، الذي تقضي بنود الاتفاقية المؤسسة له بتفويضه «بممارسة المراقبة الصارمة على سياسيات أسعار الصرف» التي تتبناها البلدان الأعضاء.

وبتفويضه بهذه المهمة، فقد يبدو الأمر وكأن صندوق النقد الدولي لابد أن يساعد في انتزاع التنازلات من الصين، وأن بقية بلدان العالم لابد أن تعلن الهدنة. ولكن هذا الافتراض يتجاهل التباين الأساسي بين البلدان المتقدمة والبلدان الناشئة. صحيح أن البلدان على الجانبين عانت الأزمة، ولكن ليس على نفس النحو. وطبقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي فإن الناتج الحقيقي في البلدان المتقدمة هذا العام سيظل أدنى من مستويات عام 2007، في حين من المرجح أن يكون الناتج المحلي أعلى بنسبة 16% في الأسواق الناشئة والبلدان النامية. وإذا تكهنّا بالمستقبل فسنجد أن البلدان المتقدمة ستستمر في مكافحة تداعيات أزمة عام 2008، خصوصاً في ظل ضرورة تقليص الديون المستحقة على الأسر والشِدة التي يمر بها التمويل العام.

ويعتقد صندوق النقد الدولي أيضاً أن البلدان المتقدمة لابد أن تخفض من إنفاقها وأن تزيد من الضرائب بمقدار تسع نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط خلال العقد الحالي، وذلك حتى تتمكن من خفض نسبة الدين العام إلى 60% من الناتج المحلي بحلول عام 2030. أما البلدان الناشئة فهي لا تحتاج إلى اتخاذ أي تدابير استثنائية للإبقاء على نسبة دينها عند مستوى 40% من الناتج المحلي الإجمالي.

والواقع أن هذا التباين الضخم يتطلب تعديلات كبيرة للأسعار النسبية، والسعر النسبي للسلع المنتجة في البلدان المتقدمة (بسعر صرفها الحقيقي) لابد أن ينخفض نسبة إلى الأسعار في البلدان الناشئة من أجل التعويض عن العجز المتوقع في الطلب الداخلي.

والواقع أن هذا لابد أن يحدث أياً كانت أسعار الصرف بين العملات. والفارق الوحيد هنا هو أن البلدان المتقدمة ستضطر إلى الخوض في فترة طويلة من معدلات التضخم المنخفضة (أو حتى الانكماش) إذا ظلت أسعار الصرف ثابتة، وهذا من شأنه أن يجعل تحمل أعباء الديون في البلدان المتقدمة أمراً أشد صعوبة، وستضطر البلدان الناشئة إلى الدخول إلى فترة من التضخم مع استمرار رؤوس الأموال في التدفق إليها، وبالتالي زيادة الاحتياطيات، وزيادة المعروض من المال، وفي النهاية دفع مستويات الأسعار إلى الارتفاع. وقد يكون من المرغوب بالنسبة لكل من الجانبين أن يُسمَح للتعديلات بأن تأخذ مجراها عبر التغيرات الطارئة على أسعار الصرف الاسمية، وهو ما من شأنه أن يساعد في احتواء الانكماش في الشمال والتضخم في الجنوب.

ولكن مقارنة بما حدث في يوليو 2007، في مستهل الأزمة، فإن أسعار الصرف بين البلدان المتقدمة والبلدان الناشئة تكاد تبدو وكأنها لم تتغير. صحيح أن قيمة بعض العملات ارتفعت وأن قيمة بعضها الآخر انخفضت، ولكن في المتوسط لم يحدث شيء تقريباً. فالتعديل المطلوب معوق إلى حد كبير.

وبالنسبة لكل بنك مركزي فإن السؤال ليس ماذا قد يحدث للبلدان الناشئة ككل، ولكن ماذا قد يحدث لعملاتها في مقابل العملات المنافسة؟ لذا فإن البرازيل لا ترغب في زيادة قيمة عملتها في مقابل عملات بلدان أميركا اللاتينية الأخرى، وتايلاند لا ترغب في زيادة قيمة عملتها في مقابل عملات البلدان الآسيوية الأخرى، ولا أحد يرغب في زيادة قيمة عملته في مقابل عملة الصين، التي تخشى أن يؤدي رفع قيمة الرينمينبي إلى هجرة الصناعات التي تتطلب عمالة مكثفة إلى فيتنام أو بنغلاديش. وهذا يعني أن التغيير الذي قد يكون في مصلحة الجميع معوق بسبب الافتقار إلى التنسيق.

والتيسير الكمي في البلدان المتقدمة يعمل أيضاً على إثارة قضية التنسيق. إن التيسير الكمي يشكل أداة مشروعة في السياسة النقدية، ولكن ما كان لبنك الاحتياطي الفيدرالي أو بنك إنكلترا ليقدما على تبني هذه الأداة بهذا القدر من الحماس لولا توقع انخفاض سعر الصرف. والواقع أن عزوف البنك المركزي الأوروبي عن تبني نفس التيسير الكمي من المرجح أن يضيف إلى تأثيرات النمو المتوقعة نتيجة لخيارات السياسة النقدية الأميركية أو البريطانية، على حساب منطقة اليورو.

وعلى هذا فإن الجدال الدائر حول سياسة سعر الصرف التي تتبناها الصين لم يعد بمنزلة نزاع تجاري ثنائي بين الولايات المتحدة والصين، بل بات يشكل صداماً عالمياً في ساحة الاقتصاد الكلي بين البلدان المتقدمة والبلدان الناشئة. فضلاً عن ذلك فإن الافتقار إلى التنسيق في كل من البلدان المتقدمة والناشئة يشير إلى أن حل حروب العملة ليس في إعلان الهدنة، بل في إدراك طبيعة القضية والتغلب على المشاكل التي تحول دون التوصل إلى حلول مشتركة متفق عليها.

ولا أعني بهذا أن سعر صرف الرينمينبي يشكل قضية ثانوية، بل إن هذه القضية، على العكس من ذلك، تستمد أهميتها من حقيقة مفادها أن الصين تمسك بالمفتاح إلى التعديل العالمي المطلوب. ولقد أشار كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في اجتماعه السنوي الأخير إلى أن هذه الحقيقة تزداد وضوحاً بالتدريج، في ضوء الانتقادات المتزايدة من جانب البلدان الناشئة لعدم مرونة الصين.

هذه إذن لحظة صندوق النقد الدولي، إذ يتعين على الصندوق أن يقترح إطار عمل مفاهيمي لمناقشات تدور حول مشاكل سعر الصرف من خلال توفير تقييم موضوعي للتعديلات المطلوبة، وبتيسير التسوية في إطار متعدد الأطراف. لا شك أن صندوق النقد الدولي من غير الممكن أن يحل محل اختيارات الحكومات، ولكنه قادر على المساعدة في البحث عن حل.

* مدير «بروغل»، مركز بحثي أوروبي.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top