امكنة واحلام انطباعات شخصية 1

نشر في 24-11-2010
آخر تحديث 24-11-2010 | 00:01
 زاهر الغافري هنالك مدن تنهض كما ينهض الموتى. مدن لها عبق اللاهوت. وهناك مدن دائرية أو تأخذ هيئة الحلزون، ومدن أخرى تصفعك بجمالها كما يصفعك طشيش ماء بارد. وهناك مدن ذات لون خاص، لون الآجر الأحمر مثلاً. من بين المدن التي أفضلها، هي تلك التي تفرض عليك أن تكون أنت وعيها الآخر، ومرآتها الشعرية. بعض المدن تمنحك انطباعاً بأنك لا تستطيع أن تكتب فيها وعنها قصيدة واحدة. بعض المدن تفتح لك أفقاً سردياً وحكايات لا تنتهي.

القاهرة مثلاً -يخيل إليّ- إنها مدينة سردية بامتياز، بينما الإسكندرية عكس ذلك، انفتاح شعري على العالم، هل البحر يلعب دوراً؟ هل هو تاريخها والمزيج الثقافي في الماضي؟ ألهذا بناها الإسكندر ثم شُيِّدت مكتبتها العظيمة وتالياً مجّدها كفافيس؟ ربما.

أذكر حينما زرتها في أواخر السبعينيات والتقيت بأصدقائي هناك، كنا عفوياً نردد، في ليالي الصخب والبهجة تلك، مقاطع من قصائد سعدي يوسف، وتحديداً «حانة على البحر الأبيض المتوسط»، رغم أن القصيدة قد لا تكون كتبت عن الإسكندرية، لكننا توهمنا ذلك كما توهم سعدي يوسف زاويته «والمدار الذي يطلع النجم فيه».

بغداد كتاب شعري مفتوح، والبصرة كذلك، قبل خرابها. في هذين المكانين مَرَّ الشعراء وكتبوا. بغداد صنعتني، أخذتني من يدي مثل طفل حالم وغرست في صدري شوكة من غصنها، من غصن تلك الشجرة وارفة الظلال، مرة واحدة والى الأبد. هذه مدينة ملعونة بالشعر، في بغداد، في بداياتي الأولى كتبت قصائد كثيرة ثم مزقتها.

على الأرجح أنّها لم تكن راضية عني. فيما بعد كتبت بعض النصوص التي توحي بإشارات عنها. في كل ركن في بغداد، رمية حجر شعرية، هكذا ببالغ البساطة. في ظني أن إقامة حوار شعري مع الأمكنة والمدن، غالباً ما يتخذ صيغاً غامضة وملتبسة وهذا أمر يعود كما يبدو لي إلى موضوعة: الزمن. فجيكور قرية عادية، وبُويْب ساقية شحيحة المياه، لكن التصعيد الشعري المفارق عند بدر شاكر السياب أعاد اليها ليس صفاء المكان فحسب، بل حنين طفولة معذبة. إنها لقية الشاعر ومنفاه أيضاً. ولقد أخبرني الشاعر نصيف الناصري أن جيكور هذه قد اندثرت كلياً وكذلك بُويب، وهكذا تتحول بعض قصائد السياب إلى ما يشبه الوقفة الطللية.

في المغرب أميل إلى اعتبار، مراكش -وهي المدينة الحمراء- حاضنةً للأفق الشعري، رغم أنني لم أعِش فيها، بل عشت في الرباط وطنجة. كما أن مراكش لا تفتقر أيضاً إلى البعد السردي والحكائي، فهي مدينة تؤالف بين المتناقضات إلى حدود الدهشة. كانت هكذا وستظل هكذا. لكن ما كتب عن مراكش لم يَرْقَ إلى نبل المدينة، بما في ذلك قصيدة أدونيس «مراكش، فاس والفضاء ينسج التأويل». كتب أدونيس مطولات شعرية عن مدن وأمكنة أخرى، نيويورك، بيروت، صنعاء... إلخ.

back to top