المافيا... دولة المال والدم العائلة المقدّسة 6
كانت «العائلة» دوماً كلمة السرّ في تنظيمات المافيا التي ما زالت حريصة على عدم استخدام مصطلح العصابة أو الجماعة الذي تعتبر أن من شأنه تحقير المافيا. وعندما انتقلت عائلات المافيا الصقلية من الجزيرة لأسباب شتى في بداية القرن العشرين، نقلت معها مصطلحاتها وقاموسها اللغوي الذي حافظت على مفرداته جنباً إلى جنب مع تقاليد المافيا الإيطالية التي لم تحظَ بالبقاء طويلاً بسبب تمرّد نجوم الكوزانوسترا الأميركية على ما اعتبروه حجر عثرة في تقدّمهم نحو جمع المال بلا رادع أو عائق مهما كان مقدّساً.بدأت المافيا الصقلية نشاطها معتمدةً على تنظيمها الأسري الذي احتفظ بعلاقات وثيقة مع الكوزانوسترا في إيطاليا، الوطن الأم، واستمرت الأنشطة نفسها في الوطن البديل، أميركا، والتي انطلقت في البداية من نيو أورليانز وسرعان ما امتدت إلى جزيرة نيويورك، وقد قيل إن الكوزانوسترا وطّدت جذورها في نيويورك التي كانت نقطة التقاء المهاجرين الباحثين عن الثروة في أرض الأحلام. ولسنوات حافظ المهاجرون الجدد من أبناء المافيا الإيطالية على مبادئ رد حق المظلوم وكسر شوكة الظالم، بالإضافة إلى أنشطتهم التي قامت على السرقة والإتاوات ونبذت المخدرات والدعارة، وهذا كان يعد مخلاً بشرف المافيوزي في إيطاليا. وتدريجاً، توسّعت أنشطة عائلات المافيا في 26 ولاية حكمتها أسر مافيوزية عدة حافظت على الارتباط بالمركز في نيويورك، ومن ثم في إيطاليا عبر شبكة من الزعماء والآباء الروحيين. كذلك، وجد أبناء المافيا الأوفياء مدناً بكراً خضعت لسيطرتهم وأعطتهم مزيداً من المال والسلطة، مثل: لوس أنجلوس وسانت لويس وسان فرانسيسكو وكينساس وكليفلاند ودالاس وفلادلفيا وغيرها، فيما ظهرت في شيكاغو أشهر عائلات المافيا على الإطلاق، وهي عائلة آل كابوني، مع ملاحظة أن آل كابوني، وعلى رغم كل ما أُحيط به من قصص تقترب في تفاصيلها من الأساطير، وكونه مضرب الأمثال في الدهاء والحنكة، لم يكن شخصية مركزية في الكوزا نوسترا، التي كان حكماؤها يعيبون عليه ميوله الجامحة واستعراضيته المضحكة أمام الإعلام. وبينما حظي كابوني بالشهرة الإعلامية التي جعلت منه أشهر مافيوزي أميركي، إلا أنه لم يصل الى أهمية تشارلز لاكي لوتشيانو الذي اعتبره المتابعون زعيم المافيا الأميركية الحديثة والأب الروحي لما طرأ على المافيا التقليدية من ملامح جديدة طوت الصفحة القديمة.
كان لوتشيانو نموذجاً لجميع زعماء المافيا الصقليين الحقيقيين، إذ كان رجلاً شديد التحفّظ والكتمان، يهرب من الإعلام والصحافة والمصوّرين، مع رفضه القاطع إرفاق اسمه بصفة رئيس الكوزا نوسترا. وقد نبغ نبوغاً منقطع النظير في أعمال الاحتيال والجريمة، وبلغ دخله آنذاك نحو 13 مليون دولار سنوياً. كاد لوتشيانو أن يحصل على مدالية الشرف الذهبية التي يمنحها الكونغرس الأميركي للأبطال من المحاربين القدامى بعدما أثير حوله من دعاية أطلقتها العائلة بحكمة وانتظام أحياناً وتحت التهديد أحياناً أخرى حول دوره المزعوم في نجاح الحلفاء في احتلال إيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية. الآباء الثائرون الصالحون! لوتشيانو أحد أهم آباء المافيا الصالحين في الولايات المتحدة، إذ كان من نصيبه مهمة إنهاء عقد من الحروب بين عائلات المافيا التقليدية التي تناحرت في ما بينها على السلطة والنفوذ، لذا عمل على تصفية زعمائها في عملية أطلق عليها اسم «يوم الصلاة على غروب شمس مافيا صقليّة»، ثم كوَّن عائلات جديدة ذات طابع مختلف تماماً في الأهداف والمهام والهيكل التنظيمي، إلى جانب دخول جنسيات مختلفة وانضمام من تبقى من رجال المافيا القديمة لينخفض عدد العائلات إلى خمس هي:- جينو فيزي: ضمّت جينوفيزي ولوتشيانو وجيجنته.- جامبينو: ضمت جامبينو وكاستيلانو وجوتي- بونانو: ضمت بونانو وجالانته وماسينو.- كولومبو: ضمت كولومبو وبروفاسي وبرسيكو.- لوتشيز: ضمت لوتشيز وكورالو وأماسو.سيطرت تلك العائلات لاحقاً على نوادي الميسر والدعارة والمخدرات، وعملت في غسيل الأموال، ثم تمكّنت من التغلغل في الأسواق الشرعية ضمن منظومة فساد شارك نافذون كثر في دول عدة خارج الولايات المتّحدة. وقد نجح لوتشيانو في تنظيم مناطق النفوذ وتنظيمها، فعمّرت إمبراطوريته طويلاَ بسبب خدماته التي قدّمها إلى حكومة الأميركية آنذاك. وذكر تقرير لمكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي أنه كان لمنظمة لوتشيانو الآلاف من الشركاء عبر البلاد كلها ممن أقام معهم علاقات تجارية مثل الأيرلنديين في بوسطن، والمكسيكيين ـ الأميركيين في لوس أنجلوس وتكساس، واليهود في فلوريدا بزعامة مائير لانسكي والمنضوين في إطار جمعية «كوشر نوسترا» (الكوشر هو الطعام اليهودي الحلال)، والسوريين في فيلادلفيا، والبولنديين في كليفلاند وشيكاغو، والألمان في سان لويس. وعمل لوتشيانو الثائر على الترويج لمبدأ التخلّص من «الجلد» الصقلي القديم والعيش بمبادئ الأرض الجديدة « أميركا»، وبالفعل تخلّت الأسر المافيوزية عن تلك المبادئ طمعاً في الأرباح وسيطر مبدأ الجريمة من أجل المال على الجميع، الأمر الذي امتدّ إلى جميع أنحاء الولايات المتحدة، وتجلى واضحاً في مدينة نيويورك التي تقاسمت السيطرة عليها عائلات كبيرة عدة، هي: عائلة لاكي لوتشيانو الزعيم، وعائلة جو بنانو ذو العين الواحدة (الأعور)، وعائلة ألبرت أنستازيا، التي اشتهرت بتعداد أفرادها الضخم، بالإضافة إلى عائلات جون جوتي وجوزيف بروفاس وكولومبو وجامبينو وجينوفيزي. وقد سكنت تلك العائلات في جهات المدينة المختلفة كي لا تتقاطع المصالح، في ظل عداء وكراهية وغضب وثأر قديم، والذي كان سبباً في اشتعال حروب دامية من حين الى آخر، بالإضافة الى رغبة كل جماعة أو عائلة في مدينة بعينها في فرض سيطرتها واحتكار توفير الحماية للمحلات التجارية ورجال الأعمال للحصول على الإتاوات، فضلاً عن الأنشطة التي توسّعت في ما بعد وشملت كل ما هو ممنوع. مع ملاحظة أن كل عائلة تبعت أسلوباً معيناً ومختلفأً في مجالات العمل ساعيةً الى فرض السيطرة التامة عليها ومنع الآخرين من الاقتراب منها. وقد حاز بعض العائلات في تاريخ المافيا على شهرة تعدّت أحياناً النطاق المحلي والإقليمي، وتوزّع على الولايات المتفرقة وقد تباينت سطوته ونفوذه بين ولاية وأخرى. عائلات التضامن الاجتماعي تباينت عائلات المافيا من حيث عدد أفرادها، وكان لكلّ عائلة رئيس ونائب، وما يسمى بالقادة الميدانيين ومجموعة من المرتزقة المساعدين من الرعاع كانوا يتلقون التعليمات من رئيسهم، وتوزَّع الأموال عليهم بنسب متفاوتة حسب التسلسل القيادي. وقد حافظت العائلات في البداية على التنظيم نفسه في صقلية باعتبار العائلة أو الجماعة يجمعها الدم ويقودها شخص هو الأكفأ بين أفرادها ويكون باختيارهم جميعاً، وهو الأجدر بقيادتها وتنظيمها والتخطيط لأنشطتها، وفي مقابل ذلك يحتفظ لنفسه بنسبة من أرباح أية عملية تقوم بها العائلة أو أحد أفرادها من المجنّدين. للقائد أيضاً مساعد يختاره بنفسه ويكون غالباً من بين أبنائه، وهو الذي يتولى قيادة العائلة في حال غاب الزعيم بسبب السجن أو المرض. كذلك، ثمة مستشار وكباتن. إلى جانب التنظيم الهرمي، حافظ لوتشيانو ومن خلفوه على مبادئ أخرى من أهمها المزايا المتاحة لأعضاء المافيا الجدد الذين لم يعد انتماؤهم ضرورياً الى جذور إيطاليا، وعلى رأس قائمة المزايا لكل مافيوزي جديد: الحماية وتلبية الاحتياجات المادية بسخاء وتقديم المكافآت عقب كل عملية ودعم الأوفياء المخلصين وتزويجهم مع توفير المسكن والرعاية للعائلة في حالة غياب المافيوزو بسبب السجن أو الموت.ربما كانت المافيا أول من آمن وخطّط لمفهوم الضمان الأسري الجماعي أو التأمين الاجتماعي لأعضاء العائلة، إذ يخضع الجميع للعرف والحكم الذي يفرده الكابو. وكان كل كابو يحدّد المبلغ المطلوب شهرياً من كل مافيوزو كنوع من التأمينات الاجتماعية للعائلة بأكملها، وهو تأمين ضد كل الحوادث والأخطار التي يتعرض لها الجندي، وتغطي حالات:- العلاج في حالات الإصابة وكل ما يتعرض له الجندي من أمراض بسبب المهنة أو بعيداً عنها.- الكفالات المالية في المحاكم ونفقات المحامين وأجورهم عند السقوط في قبضة الشرطة.- مصاريف البيت بالكامل للزوجة والأولاد في حال المرض أو الإصابة أو السجن أو الموت.- تشييع جنازات القتلى في مراسم تليق بأبناء المافيا.كان الصقليون التقليديون حتى العام 1947 يرفضون تغطية مصاريف الجندي في حال سقوطه أثناء تجارة المخدرات، وهذا ما تجاوزه كلّ من لوتشيانو وشريكه جينو فيزي. كان فيزي شديد التمسّك بالقوانين القديمة التي أنتجها أسلافه، لكنه لاحقاً وبتأثير من لوتشيانو اقتنع أخيراً بأن مستقبل الكوزانوسترا الأميركية الموحّدة يتوقّف على الهيرويين. وفي مؤتمر هافانا السري عام 1948 الذي ضمّ رجال الكوزانوسترا من إيطاليا وأميركا، اتُّخذت الخطوات الأولى في طريق المخدرات، خصوصاً الهيرووين. وقد أعقب ذلك الاجتماع اتخاذ فيزي القرار بأن يتضمن التأمين الاجتماعي للمافيوزو حالات المقبوض عليهم في تجارة المخدرات، بعد تأكده من أن المورد الجديد يؤمن نفقات تلك الأضرار، وانتهت المشكلة بعد أن بدأ العمل بجد ونشاط وتدفقت الأموال على المافيا. ونتيجة لذلك نجحت الكوزانوسترا في التغلغل في أنشطة شتى، ما حمل الزعيم الديمقراطي روبرت كيندي على التصريح عام 1966 بأن بناء مطار كينيدي الدولي في نيويورك تم كلياً تحت إشراف المافيا سواء من ناحية الأيدي العاملة أو من ناحية الأمور المالية والإدارية.صفقة العرسان تعاونت تلك العائلات في ما بينها في منتصف القرن الماضي لتحقيق مزيد من الأرباح، إذ كان رجال الكوزانوسترا يفضّلون طريقة تهريب المخدرات باستخدام 50 شخصاً يوزَّع عليهم خمسين كيلوغراماً من الهيروين، الذي يتم وضعه في أماكن مختلفة سرية في حقائبهم على أن يكونوا على جهل بوجوده معهم كي لا يفصحوا عن أية معلومات في حال وقوعه في أيدي الشرطة. وفي أقصى الحالات قد تتوصّل الشرطة إلى نصف هؤلاء، وينجو النصف الآخر. إلى جانب ذلك، كانت المافيا تعتمد طرقاً أخرى، من بينها «صفقة العرسان»، إذ كان القانون الأميركي يقف عاجزاً أمام رفض الإيطالي الذي يأتي إلى البلاد الزواج من أميركية. وبفضل هذا القانون كانت الكوزانوسترا تجدّد جيشها باستمرار، بحيث إن بنات المافيوزو لا يتزوجن إلا من مافيوزيين. هكذا، كانت عائلة العريس القادم من أرض الأجداد تزوِّده بالزيت والزيتون ودقيق المعكرونة وأكياس الهيرويين هدية لعائلة العروس الأميركية المافيوزية الأصل. ولم يكن يخطر على بال رجال الجمارك أن هذا العريس القروي الإيطالي هو مهرِّب صغير يحمل ثروة لأقاربه من رجال الكوزانوسترا لتأمين استمرارها المادي.وشيئاً فشيئاً، تخلّت العائلات عن تلك الطرق التقليدية واتجهت في السبعينيات إلى السيطرة على طاقم الطائرة بأكمله لضمان سلامة البضاعة ونقلها من دون تكاليف أو خسائر، ويتردد أن 40% من الهيرويين القادم الى الولايات المتحدة في عام 1972 نُقل عبر الطائرات التجارية والرحلات العادية، حيث يتولى طاقم الطائرة وضعه في أماكن سرية، ثم يتركه لعمال النظافة الذين ينقلونه عبر حاويات القمامة إلى خارج المطار من دون أن يشتبه فيهم أحد.الخروج على العائلةتميّزت المافيا الأميركية بسيطرتها الواسعة وتمكّنها من بسط نفوذها ليشمل جميع العصابات المنافسة أياً كان عددها وعتادها، فعصابات الزنوج مثلاً التي كانت تتكاثر في منطقة هارلم في نيويورك تم تحجيمها والتصدي لها، وذلك عبر تعطيل المافيا الدائم لنشاطاتهم ما لم يلتزموا بدفع إتاوات ونسب معينة عن كل عملية يقومون بها. يُذكر أن قائد جماعة هارلم المشهور ريموند ماركيز كان يدفع نسبة 15 في المئة لعائلة جينو فيزي، وكانت هذه النسبة مجاملة له نظراً الى علاقة أبيه السابقة بالمافيا وعمله لصالحها إلى أن لقي حتفه.ولم يذكر أن عصابة قد تمرّدت على قوانين المافيا بشكل علني سوى ما أقدمت عليه عصابة من الزنوج عام 1930 باستحواذها على بعض مناطق نيويورك، ومن ثم رفضها دفع الجزية إلى رجال المافيا فانقلبت تلك المناطق إلى ميادين للمجازر العلنية، إذ اقتحمها رجال المافيا بقيادة الزعيم الدموي دستن شولتز بالرشاشات والمسدسات والأسلحة البيضاء، واستطاع أن يعيد للمنطقة انضباطها وينهي التمرد في وقت قصير، ليؤدي هذا العصيان إلى اختلال في موازين الثقة بين المافيا والزنوج. وقد سرت لاحقاً أقاويل أكدت أن عصابة الزنوج المشؤومة لم تقم بأعمال يمكن تصنفيها كتمرد، لكن بعض قادتها ادعى ذلك للتفاخر والتباهي بين جماعات السود الأخرى، فقال أحد زعماء المافيا: «إذاً وجب تلقينهم درساً في عدم التفكير بعصيان العائلة».أما أشهر حوادث الخروج عن قانون صمت العائلة، فهو ما فعله رجل المافيا الأميركي جوزيف فلاتشي عندما سلَّم نفسه للشرطة في عام 1963، بعد مطاردات واسعة من الشرطة التي رصدت 100 ألف دولار لمن يتمكن من قتله، ولكنه فجر المفاجأة باعترافاته. وتوالت بعد ذلك محاولات العائلة للقضاء عليه داخل السجن، ولكنها باءت كلها بالفشل ولم تنجح في منع النجم من الوقوف أمام شاشات التلفزيون كاشفاً كل الأوراق المرعبة للكوزانوسترا الأميركية أمام ملايين المشاهدين. ومع ذلك لم يقدم فالاتشي الكثير لأنه لم يكن يعرف سوى القليل عن خليته في نيويورك وهي واحدة من بين 12 خلية على امتداد الولايات المتحدة التي يرى المتابعون أنها صارت موطناً للجريمة السهلة المربحة.