أم كلثوم... السيرة والأغاني - السيرة الشخصية (الحلقة التاسعة) عهد السينما بدأ بوداد... نشيد الأمل... دنانير... عايدة... سلّامة... وفاطمة طلعت حرب كان مؤسساً لصناعة السينما والموسيقى في مصر وكان حلمه أن يجمع أم كلثوم وعبدالوهاب في فيلم غنائي كبير
وفي ذلك العقد، توسعت في القاهرة حركة توسع تأثر العرب المعاصرين بفنون وعلوم الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، بدرجات متفاوتة، فوضع بعضهم هذه العلوم في خدمة الموسيقى العربية مباشرة، بالتعاون مع كبار المبدعين العرب من أصحاب المواهب الموسيقية الفذة والمتأثرين بعمق بإبداعات الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية( ولكن دون إلمام مواز بعلوم تلك الموسيقى ونظرياتها) فيما انطلق بعضهم الأخر إلى بداية قيام العرب المعاصرين بمحاولة كتابة أعمال موسيقية على النمط الأوروبي الكلاسيكي (في أشكال السمفونية والكونشرتو، بمادة موسيقية عربية حبنا، وبمادة أوروبية خالصة أحيانا). وفي هذا العقد تشكلت و ترسخت في القاهرة الفرق المسرحية العاملة على ترجمة روائع المسرح الأوروبي القديم والحديث، وتقديمها للجمهور بلغة عربية رفيعة.
وسط هذا الزخم الثقافي والاقتصادي والاجتماعي المصطخب والمندفع بوتيرة عز نظيرها في عقود أخرى، مما اعتبر موسم خصب استثنائي، نضجت فيه كل ثمار التجارب التحديثية والتأصيلية المنطلقة منذ عهد محمد علي في بداية القرن التاسع عشر، انطلقت أم كلثوم تساهم بفنها المتبلور والناضج، في أكثر من مجال.فعندما بدأ طلعت حرب (أبو الاقتصاد المصري الحديث في النصف الأول من القرن العشرين) يفكر بتوسيع مشروعاته الاقتصادية النهضوية لتشمل سائر حقول الحياة العامة، بما في ذلك حقل الفنون، اقتحم مجال الصناعة السينما على أسس اقتصادية وفنية سليمة ومتينة فأسس ستوديو مصر، الذي تحول تدريجيا، إلى القلعة التي نما وترعرع فيها معظم العاملين الجادين في حقل السينما من المصريين. وبما أن انتزاع هذا الستوديو الوليد موقعا لنفسه، في زحمة السوق التجارية المزدهرة آنذاك للفيلم المصري، والتي كانت تعج بخليط هائل من الأجانب والعرب والمصريين، من المندفعين للإنتاج السينمائي بحافز تجاري محض، والمندفعين بحافز فني، كل ذلك كان بفرض على إدارة ستوديو مصر ابتكار أفكار إنتاجية تجمع بين القيمة الفنية ودواعي الرواج التجاري، فقد اتجهت هذه الإدارة، وبمبادرة شخصية من طلعت حرب في غالب الظن، إلى الإعلان عن ولادة ستوديو مصر بتدشين إنتاجه بفيلم لأم كلثوم، هو فيلم وداد، الذي ظهر في الموسم193 – 1936، بالتزامن مع ظهور ثاني أفلام محمد عبد الوهاب “دموع الحب” (ظهر فيلمه الأول “الوردة البيضاء” في العام 1933).المسرح والموسيقىويجدر بنا التوقف قليلا عند هذا المنعطف بشيء من التفصيل، لأنه نموذجي في إظهار مدى العلاقة الجدلية بين المشروع الفني الخاص بموهبة أم كلثوم الغنائية الاستثنائية، ومشاريع النهضة الفنية والاقتصادية والاجتماعية العامة في بلدها. وهي علاقة بدأت مبكرا، خلافا لما تستنتجه بعض الكتابات التي تحصر علاقة أم كلثوم المباشرة بالشأن العام في بلدها بجولاتها الفنية التي أعقبت هزيمة 1967، ساعية لجمع ما أمكن من التبرعات للمجهود الحربي.يقول جلال الشرقاوي في كتابه الموسوم “رسالة في تاريخ السينما العربية”:“أحس طلعت حرب (باشا) مدير بنك مصر بما يمكن أن تدره هذه الصناعة السينمائية الجديدة من كسب كبير، فقرر أن ينفذ مشروعا سينمائيا ضخما، وهو تأسيس ستوديو كامل وحديث.وسافر من أجل هذا إلى أوروبا لزيارة الستوديوهات الفرنسية والألمانية.وأوفدت إدارة الستوديو إلى الخارج أربع بعثات (المحرر: على طريقة بعثات عصر محمد علي في القرن التاسع عشر): أحمد بدرخان وموريس كسّاب لدراسة الإخراج السينمائي في باريس، ومحمد عبد العظيم وحسن مراد إلى ألمانيا لدراسة التصوير السينمائي في برلين.وفي ذلك الحين كان مصطفى والي يعمل في شركة LIGNOSE BREUSIN، في معمل أبحاث ماكينات الصوت، ويتمرن في ستوديو الشركة في برلين. وكان قد أتم دراسته الجامعية في ميكانيكية الأجهزة السينمائية وفي الصوت. وكان ولي الدين سامح يعمل هو الأخر مهندسا للمناظر السينمائية باستوديوهات برلين، بعد أن تخرج من كلية “كارلس روهه”. وكان نيازي مصطفى يدرس على نفقته الخاصة المونتاج في ألمانيا، مع مونتير ألماني مشهور. وعندما كان طلعت “باشا” حرب موجودا في ألمانيا، التقى بمصطفى والي وعرض عليه العودة معه إلى القاهرة ليتولى العمل لتجهيز ستوديو مصر، فقبل وعاد معه. ثم عاد ولي الدين سامح إلى مصر، وكلفه طلعت حرب بالاشتراك، مع مصطفى والي في هذه المهمة، وانضم إليهما يوسف سامح المهندس الكهربائي منتدبا من شركة المحلة (المحرر: إحدى شركات النسيج من مشاريع طلعت حرب أيضا) للإشراف على عمليات الكهرباء والميكانيكا. ثم أوفد طلعت باشا مصطفى والي وولي الدين سامح إلى ألمانيا لشراء الآلات والأجهزة اللازمة للأستوديو، فعادا بها في نهاية سنة 1934: آلات تصوير، مافيولات، أجهزة تسجيل، وكشافات إضاءة. وقام مصطفى والي بنفسه بتركيب هذه الآلات.ستوديو مصروفي نهاية 1935، عاد المبعوثون الأربعة من أوروبا، وتسلم كل منهم عمله فورا.وفي العاشر من أكتوبر، سنة 1935، افتتح ستوديو مصر رسميا، وأقيمت حفلة فاخرة دعي إليها خمسمئة مدعو من الشخصيات السياسية والمالية والفنية ورجال الأدب والصحافة، وذهل المدعوون لدى رؤيتهم لهذا الأستوديو الضخم المجهز بأحدث الأجهزة. وكان أول إنتاج لستوديو مصر، هو الفيلم الموسيقي الكبير وداد، 1935- 1936. كتب هذا الفيلم أحمد رامي، (..)، وقام أحمد بدرخان مبعوث ستوديو مصر بإخراج المناظر الخارجية للفيلم، مع المصور سامي بريل، وعندما أرسلت هذه المناظر لقسم المونتاج، قال فريتز كرامب رئيس القسم إنه لا يمكن تركيب هذه المناظر، وتمكن من إقناع أحمد سالم، مدير الأستوديو إذ ذاك، بأن يتولى بنفسه (فريتز كرامب) إخراج الفيلم، حتى يتمكن من تركيب مناظره، وقد ساعده في الإخراج جمال مدكور وعبد الفتاح حسن.وهكذا، ومع أن الفيلم الأول لأم كلثوم يحمل اسم مخرج أجنبي ألماني، فقد كان لثلاثة من التقنيين المصريين مساهمة في إخراج ذلك الفيلم، وهم أحمد بدرخان وجمال مدكور وعبد الفتاح حسن. واحتل اسم احمد بدرخان الصدارة في تجربة أم كلثوم السينمائية بعد ذلك، إذ سيكون مخرج أربعة من أفلامها الستة (نشيد الأمل ودنانير وعايدة وفاطمة) إضافة إلى مساهمته في فيلمها الأول كما رأينا، أما فيلم أم كلثوم الخامس (1944 – 1945)، وهو فيلمها الشهير “سلاّمة”، فقد قام بإنتاجه وإخراجه، المخرج المصري اليهودي توجو مزراحي، الذي ساهم أيضا في إخراج أفلام سينمائية غنائية ناجحة لليلى مراد.وسنرى في موقع آخر من كتاب جلال الشرقاوي عن تاريخ السينما العربية في مصر، عندما يعرض جدولا بأهم المهرجانات السينمائية التي شاركت فيها مصر منذ نشأة السينما فيها وحتى العام 1960، أن فيلم “وداد” لأم كلثوم، كان أول مساهمة لمصر في المهرجانات السينمائية الدولية، إذ ساهمت مصر به في مهرجان البندقية (فينيسيا) في إيطاليا، في العام 1936.وحتى لا يسارع القارئ إلى الاستنتاج بأن الحافز الاقتصادي كان وحده وراء مبادرة طلعت حرب إلى الاستعانة بنجمة الغناء أم كلثوم لإنتاج أول أفلام ستوديو مصر، يجدر بنا استذكار بادرة أخرى لطلعت حرب، تكشف عن الحافز الفني الثقافي الحضاري وراء علاقته بأم كلثوم.فبينما كانت تسجيلات أم كلثوم في العشرينيات موزعة بين شركتي جراما فون وأوديون ( مع أرجحية لشركة جراما فون) يبدو أنها وقعت عقدا احتكاريا مع شركة أوديون في مطلع الثلاثينيات، ذلك أن آخر عهدها بالتسجيل لشركة جراما فون كان مع أغنية “كل ما يزداد رضا قلبك علي” وهي من ألحان داود حسني، في العام 1930. ويبدو أن أم كلثوم أدركت فيما بعد أن عقدها مع شركة أوديون، يقيدها فنيا، فشكت ذلك يوما إلى طلعت حرب، ولما سألها لماذا لا تفسخ العقد وتتحرر من قيوده المادية والفنية، أسرت إليه بأن بندا جزائيا في العقد يفرض عليها دفع غرامة قدرها ألفا جنيه مصري، إذا قامت بفسخ العقد من جهتها. فما كان من طلعت حرب إلا أن استدعى فورا أحد موظفي “بنك مصر” وطلب إليه تحرير قرض لأم كلثوم بقيمة البند الجزائي، ألفي جنيه مصري.ولا تنسى في مجال العلاقة المميزة بين طلعت حرب وأم كلثوم، أنه صاحب المشروع الذي لم يتحقق في يوم من الأيام، برغم إصرار طلعت حرب عليه مرارا وتكرارا، لإنتاج فيلم غنائي كبير يتقاسم بطولته أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب. ومع أن أسبابا كثيرة وردت في تبرير عدم اكتمال هذا المشروع، فلعل السبب الأكثر إقناعا هو أن عبد الوهاب أصر (اعتزازا بقيمته كملحن) أن يقوم وحده بتلحين أغنيات الفيلم جميعها. بينما أصرت أم كلثوم على أن يتولى ملحنوها (محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي) تلحين أغنياتها في الفيلم. وربما كان إصرار أم كلثوم هذا نابعا من أن أخبار “المؤامرة” المزعومة التي حاكها عبد الوهاب ضد منيرة المهدية في مسرحية “كليوبترة” ما زالت حية في ذاكرة أم كلثوم، تذكيها عملية انحصار المنافسة أمامها، بعد اعتزال منافساتها المطربات، بمطرب وملحن من العيار الثقيل، هو محمد عبد الوهاب، فكيف تضع سمعتها الفنية بين يديه، يلحن لها كما يشاء؟. ويمكن اعتبار الخطوة التي قام بها فيما بعد جمال عبد الناصر بإقناع عبد الوهاب وأم كلثوم بالتعاون الذي كانت باكورته أغنية “إنت عمري” الشهيرة، بمثابة تنفيذ متأخر (ومختلف في التفاصيل) لمشروع طلعت حرب القديم، الذي لا يمكن إغفال وجود الحافز الفني الرفيع وراءه (شأنه في ذلك شأن إنت عمري وما تلاها من تعاون)، إضافة إلى كونه مشروعا إنتاجيا هاما لاستوديو مصر فيما لو تحقق، لأنه كان سيجمع قطبي الغناء العربي ليس في مصر وحدها، وليس في ذلك الزمن وحده، بل في الوطن العربي، على امتداد القرن العشرين.فإذا عدنا بعد ذلك إلى تجربة أم كلثوم السينمائية، لاستكمال تفاصيلها، فلا بد من القول بأن أم كلثوم قد قامت في حياتها بالتمثيل والغناء في ستة أفلام، إضافة إلى فيلم سابع كان الغناء فيه بصوتها والتمثيل لنبيلة عبيد (على طريقة الدوبلاج) وهو فيلم رابعة العدوية، الذي استخدمت فيه الأغنيات نفسها للبرنامج الإذاعي الذي يحمل الاسم نفسه، وذلك في مقابل سبعة أفلام لمحمد عبد الوهاب. وهذه قائمة بأفلام أم كلثوم، مع تفاصيل عن تاريخ الفيلم، واسم المنتج والمخرج والممثلين الذين قاسموا أم كلثوم بطولة كل فيلم: وداد 1935/1936، إنتاج ستوديو مصر، بطولة أحمد علام، إخراج فريتز كرامب.نشيد الأمل 1936 /1937 ، إنتاج أفلام الشرق، بطولة زكي طليمات وعباس فارس، إخراج أحمد بدرخان.دنانير 1939/1940، بطولة عباس فارس وسليمان نجيب، إنتاج أفلام الشرق، إخراج أحمد بدرخان .عايدة 1942/1943، بطولة المطرب إبراهيم حمودة وسليمان نجيب، إنتاج أفلام الشرق، إخراج أحمد بدرخان.سلاّمة 1944/1945، بطولة يحيى شاهين، إنتاج توجو مزراحي وإخراجه. فاطمة 1947/1948، بطولة أنور وجدي وسليمان نجيب، إنتاج ستوديو مصر، إخراج أحمد بدرخان.بدرخان وأفلامهاويلاحظ من هذه القائمة أنه بينما دخلت أم كلثوم ميدان السينما الغنائية بعد عبد الوهاب بثلاث سنوات، فقد اعتزلت السينما بعد عبد الوهاب بسنة واحدة (-1947 1948). وأن أول وأخر أفلامها كانا من إنتاج ستوديو مصر، ولا تدري إذا كانت شركة أفلام الشرق التي أنتجت أفلامها الثاني والثالث والرابع، على علاقة ما بستوديو مصر. كما نلاحظ أن أربعة من أفلامها الستة هي من إخراج أحمد بدرخان، في مقابل تفرد المخرج محمد كريم بإخراج جميع أفلام محمد عبد الوهاب.ولعل أهم ما نلاحظه في قائمة أفلام أم كلثوم الستة، أن ثلاثة من هذه الأفلام (أي نصفها) قد صيغت قصتها على أساس استحضار ثلاثة من مغنيات العصور التاريخية العربية (وداد ودنانير وسلاّمة).وللناقد الكبير والأديب كمال النجمي مقالان مهمان يمحص فيهما الوقائع التاريخية لحياة المطربات الثلاث اللواتي مثلت أم كلثوم أدوارهن في السينما فيعيد سلاّمة إلى العهد الأموي، ودنانير إلى العهد العباسي، ووداد إلى أيام المماليك والعثمانيين. ولكنه يشير إلى وجود أكثر من مطربة قديمة كانت تحمل اسم دنانير، وإلى أن قصة الفيلم تروي حياة دنانير الأكثر شهرة، ولكنها ليست الأبرز في قيمتها الفنية. كما أنه يأخذ على الأفلام الثلاثة عدم دقة المطابقة بين خصائص الفترة التاريخية المفترض تصويرها، وبين خصائص المشاهد السينمائية.وعلى أي حال، فان قيمة الأفلام الغنائية لأم كلثوم (شأنها شأن قيمة الأفلام الغنائية لعبد الوهاب) تبقى محصورة في مجالين اثنين خارج إطار الفنون السينمائية من سيناريو إلى إخراج إلى تمثيل إلى مونتاج:قيمة الإقبال الجماهيري، حيث سجلت أفلام أم كلثوم (ومن قبلها أفلام عبد الوهاب) دورا تاريخيا في إيجاد جمهور غفير لفن السينما الجديد آنذاك في مصر والبلاد العربية، وذلك عبر استخدام شهرة أم كلثوم وعبد الوهاب الغنائية (وهي في القمة) لتعويد الجماهير على ارتياد دور السينما، طيلة عقدي الثلاثينيات والأربعينيات.قيمة الأعمال الموسيقية الغنائية التي جاءت تغني تطور الموسيقى والغناء العربيين، ليس فقط تعويضا عن المسرح الغنائي المتراجع، بل إتاحة في المجال أمام ظهور ألوان جديدة من التأليف الموسيقي والغناء المناسبين لفن السينما، والمعبران عن المواقف السينمائية ذات المواضيع الفنية المتشعبة، مما لا تتيحه الأغنية الفردية المكتوبة والملحنة للتسجيل في أسطوانة.ألحان ودادوفي هذا المجال، نلاحظ أن أول أفلام أم كلثوم (وداد) قد انفرد بتلحينه زكريا أحمد ومحمد القصبجي، إضافة إلى لحنين لرياض السنباطي الذي كان في بداياته الفنية، غنى الأول في الفيلم المطرب عبده السروجي (وسجلته أم كلثوم بعد ذلك على اسطوانة) ولحن “حيوا الربيع” الذي لم يتم تداوله.أما نشيد الأمل (ثاني أفلامها) فقد انفرد بتلحينه محمد القصبجي ورياض السنباطي، في تجربة موسيقية ما زالت تعتبر حتى صدور هذا الكتاب من أنجح وأنضج تجارب التوزيع الأوركسترالي في الموسيقى العربية، لأنها وازنت بهدوء وحساسية وعمق بين فنون التوزيع الأوركسترالي الأوروبية، والطبيعة المقامية للموسيقى العربية. كما يبدو تأثر السنباطي واضحا بمحمد القصبجي في لحن مونولوج قضيت حياتي، وبمحمد عبد الوهاب في لحن نشيد الجامعة (يا شباب النيل).وشارك ملحنوها الثلاثة الكبار في تلحين أغنيات الفيلم الثالث “دنانير” والرابع “عايدة” والسادس “فاطمة”. أما الفيلم الخامس “سلاّمة”، فانفرد بتلحينه زكريا أحمد، عدا لحن واحد للسنباطي (قصيدة: قالوا أحب القسّ سلامة).ويجدر بنا هنا التوقف عند الأفلام الثالث والرابع والخامس، لأنها تعبر في ألحانها وأغانيها عن منعطف خطير في حياة أم كلثوم الفنية، كما في علاقاتها بملحنيها، وهي المحطة التي فصلت في رأيي بين عهدين ومرحلتين في حياة أم كلثوم:*مرحلة “التلمذة”، التي كان فيها ملحنوها الكبار، يحددون لها اتجاها الفني (حتى فيلم عايدة).ومرحلة “الأستذة”، عندما بدأت أم كلثوم تمارس (فيما يشبه التفرد والانفراد) دور صاحب القرار الأول والأخير في اختيار ما تغنيه من ألحان، إلى حد التدخل المباشر في اللحن، عندما يسمح لها الملحن، وممارسة حق الرفض والقبول، عندما لا يسمح لها بالتدخل.ويمكن أن نتابع في أفلام أم كلثوم، تفاصيل قصة تطور خطها الفني، وعمليات المخاض الذي مرت به أم كلثوم قبل أن تستقر على لونها الأساسي الذي دخلت به التاريخ، والذي جاء ثمرة تلك التجارب كلها، وغربلة لكل الاتجاهات التجريبية، حتى وصلت إلى الصيغة الفنية “الكلثومية” بتعاونها مع ملحنها المفضل رياض السنباطي، على مدى ثلاثة عقود كاملة من أوائل الأربعينيات حتى أوائل السبعينيات.أما أبرز الأفلام التي تحكي قصة هذه التقلبات وهذا المخاض الطويل، قبل الاستقرار على الصيغة الكلثومية – السنباطية فهي نشيد الأمل وعايدة ثم سلاّمة.ففي فيلم نشيد الأمل قدم كل من محمد القصبجي ورياض السنباطي إحدى أهم الصيغ العملية الخلاقة لكيفية الإفادة الكاملة من مؤثرات التأليف الموسيقي الأوروبي الكلاسيكي، بكل آفاقه الواسعة التي يتيحها استخدام الأوركسترا، من غير مساس بالمزاج العربي للموسيقى كما للغناء، ومن غير أي تضحية بالطبيعة المقامية، التي تعتبر روح الموسيقى والغناء العربيين. ويمكن القول في هذا الصدد، أن رياض السنباطي في هذا الفيلم (على أهمية وخطورة إسهامه فيه) لم يكن بعد قد أعلن عن شخصيته الفنية المستقلة، إلا في لحن افرح يا قلبي، وكان ما قدمه، على عظمته وجلاله، ما زال يدور في فلك التأثر بالقصبجي وعبد الوهاب، كما أسلفنا.ولكن يبدو أن نجاح القصبجي والسنباطي في ألحان هذا الفيلم في تمثل مؤثرات الموسيقى الأوروبية قد دفع بهما، وربما بتأثير أساسي من محمد القصبجي فيما نعتقد، إلى التوغل عميقا في بحر مؤثرات الموسيقى الأوروبية، إلى درجة فقدا معها السيطرة على تلك الصيغة المتوازنة، التي طالما نجح فيها محمد عبد الوهاب، ونجحا فيها في فيلم نشيد الأمل بدرجة عالية، في أعمال ما زالت برأيي من أرقى ما أنتج في الموسيقى العربية في القرن العشرين، كما أنها ما زالت من أنجح وأرقى الصياغات المطروحة لمستقبل إفادة الموسيقيين العرب من الآفاق التأليفية والأوركسترالية الواسعة التي تقدمها الموسيقى الأوروبية الرفيعة.إن من يراقب المسيرة الفنية لأم كلثوم بعين التحليل الموضوعي البارد، من العام 1923 حتى العام 1973، يمكنه أن يستنتج أن القاسم المشترك واضح وبارز بين تربية أم كلثوم الفنية الأساسية (التواشيح الدينية وقصائد أبو العلا محمد الكلاسيكية) واللون الكلثومي – السنباطي الذي رست فيه سفينة أم كلثوم، باختيارها الحر وقرارها الواعي، حتى آخر حياتها، بحيث يبدو أن أم كلثوم وجدت في قصائد رياض السنباطي وفي مونولوجاته المسرحية المطولة (غلبت أصالح، وهلت ليالي القمر، وجددت حبك ودليلي احتار ويا ظالمني وما شابهها) صيغة التطوير الحديث المطلوب للون التقليدي الذي تربى عليه ذوقها على يد والدها الشيخ إبراهيم وأستاذها الأول أبو العلا محمد.ولا شك أيضا بأن مزاج زكريا أحمد التلحيني، في مجموعة أدوار وطقاطيق الثلاثينيات التي أبدعها لصوتها، أو مجموعة المونولوجات المسرحية في الأربعينيات (مثل الأمل وأنا في انتظارك وما شابهها، حتى تحفته الأخيرة “هو صحيح”)، كانت تأتي في موقع كلثوميات السنباطي في قربها من قلب وأذن وذوق أم كلثوم الشخصي، ولكن ربما جاء تركيزها المقصود على رياض السنباطي لاعتقادها بأنه يفتح أمام صوتها آفاقا أكثر اتساعا وتطورا، من غير إبتعاد عن الكلاسيكية العربية التقليدية. أما ثورة محمد القصبجي التجديدية، على ما لها من قيمة كبرى في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة ليست لغيرها، وعلى ما أفادت أم كلثوم في بلورة شخصيتها الفنية وأدائها الصوتي، فأنها في الغالب، كان الأبعد عن الذوق الشخصي الحميم لأم كلثوم (باستثناء نماذج من نوع ليه تلاوعيني وإنت فاكراني وما شابهها)، بين ملحنيها الثلاثة الرئيسيين، وإن كانت قد أدتها باقتدار وتمكن، من باب حرص التلميذ الموهوب المجتهد، على تأدية أعمال أستاذه العبقري، بالاتقان المطلوب.ومع أن القصبجي كان قد وصل في بعض أعماله الكبيرة إلى صيغة توفيقية بين نزعته التجديدية العارمة، وبين ذوق أم كلثوم الأشد ميلا إلى المحافظة الفنية، خاصة في آخر ما لحن لها قبل فيلم “عايدة” (طقطوقة ما دام تحب بتنكر ليه التي غنتها في فبراير / شباط 1941، في وصلة استغرقت 49 دقيقة – مع أنها لا تتجاوز الدقائق الست في تسجيل الأسطوانة المعروفة – والمونولوج الخالد رق الحبيب الذي غنته على المسرح للمرة الأولى في حفلة 18 سبتمبر/أيلول 1941)، فأن جرعة التغرب غير المتوازنة في الحان القصبجي، وحتى السنباطي، في فيلم “عايدة” قد أدت إلى فشل جماهيري ذريع للفيلم ولأغنياته وألحانه، الأمر الذي يسمح لنا بالاستنتاج أن هذا الفشل كان “القشة التي قصمت ظهر البعير” في العلاقة الفنية بين أم كلثوم وأستاذها الثاني (بعد أبي العلا محمد) وملحنها الأبرز من 1926 حتى 1944، وقائد فرقتها الموسيقية وعازف العود الوحيد فيها، محمد القصبجي.تجربة «عايدة»لقد وجدت أم كلثوم في الفشل الذريع للألحان الأوبرالية في فيلم عايدة مناسبة لتعلن تمردها على النزعة التجديدية القصبجية، التي وإن صنعت لأم كلثوم أمجادا كبرى في عقدي العشرينيات والثلاثينيات، فهي لم تكن قريبة من ذوقها الخاص الحميم، بدليل أن هذه القطيعة النهائية مع القصبجي، قد أعقبها تركيز كامل ونهائي ومطلق على اللون السنباطي الجديد، الذي كان قد أعلن عن نفسه (قبل القطيعة مع القصبجي) بقصيدة سلوا كؤوس الطلا (النموذج المبكر الذي انطلق منه السنباطي نحو سلوا قلبي ونهج البردة ورباعيات الخيام وسواها)، ومونولوج هلت ليالي القمر، الذي انطلق السنباطي من نموذجه لصياغة روائعه التالية مثل غلبت اصالح وسهران لوحدي وجددت حبك وسواها.ويبدو أن من بين الأسباب الاضافية في تلك القطعية التاريخية مع القصبجي، “تجروء” هذا الأخير، في السنوات المحيطة بتجربة فيلم عايدة، على اختيار صوتين نسائيين ممتازين للتعبير عن ثورته التجديدية الجامحة، هما صوت أسمهان وصوت ليلى مراد. ومن المنطقي أن نستنتج أن أم كلثوم ما كان بوسعها أن ترتاح لغناء لحن القصبجي لأسمهان “يا طيور”، أو لحنه لليلى مراد “أنا قلبي دليلي”، أو تقبل حتى بغناء هذين اللحنين البعيدين كل البعد عن مزاجها الحميم، مع أنهما من أروع وأخلد ما لحن القصبجي.وهكذا، وكما كان فيلم “عايدة” في الموسم 1943/1942 المنعطف الذي تمت فيه قطيعتها الدرامية مع القصبجي ومدرسته التلحينية، التي كانت أنجت وأعظم تلامذتها في الغناء، فقد جاء فيلم “سلاّمة” بعد “عايدة” بسنتين (1945/1944) ردة فعل كلثومية صريحة وواضحة، ليس فقط على الفشل الجماهيري لفيلم عايدة، بل على الخط الموسيقي الذي مثله ذلك الفيلم، فردت على التطرف بتطرف مقابل، فأسندت تلحين أغنيات الفيلم كلها إلى زكريا أحمد (فيما عدا لحن قصيدة قالوا أحب القسّ، الذي وضعه السنباطي بروح تقليدية كاملة التناقض مع تلحينه للمقطع الأوبرالي في فيلم عايدة). ولم تكتف أم كلثوم بذلك الانعطاف الصارخ في مغزاه ودلالته، بل من الواضح أنها اتفقت مع الشيخ زكريا أحمد على أن يعود بها في ألحان الفيلم المنتج في العام 1944 إلى أجواء التواشيح الدينية وقصائد أبو العلا محمد، فكان من بين أغنيات الفيلم قصيدة “قولي لطيفك ينثني، والإبتهال الديني برضاك يا خالقي، وموشح يا بعيد الدار، كما أنها قامت ببادرة فريدة وغريبة في هذا الفيلم (لا سابق لها ولا لاحق) فتلت ما تيسر من سورة إبراهيم من القرآن الكريم بصوتها (وقد سجلت التلاوة بعد ذلك على اسطوانة لصوت القاهرة مع ابتهال برضاك يا خالقي).أما فيلمها السادس والأخير بعد سلامة، فقد عادت فيه أم كلثوم إلى مزاج لحني متوازن بين القديم والحديث فغنت لزكريا الورد جميل وجمال الدنيا ونصرة قوية، وللسنباطي حقابله بكرة وقصيدة أصون كرامتي وظلموني الناس. وكان هذا الفيلم فرصة أخيرة للقصبجي، فعهدت إليه بتلحين ثلاث أغنيات جاءت (بعد مرحلة القطيعة) من أضعف ما لحنه القصبجي لأم كلثوم، لم يتميز منها سوى لحن “يا صباح الخير يللي معانا”. ورحل القصبجي بعد ذلك بتسعة عشر عاما (1966)، دون أن تغني له لحنا واحدا، مكتفية بالتعاون معه عازفا للعود فقط، ونقلت موقع قيادة الفرقة الموسيقية منه إلى عازف القانون العبقري محمد عبده صالح، بعد أن أدت صدمة القطيعة مع التقدم في العمر، إلى إصابة القصبجي بوهن في ذاكرته الموسيقية، جعلت انتقال موقع القيادة إلى محمد عبده صالح نتيجة منطقية.وهكذا لم تكن أفلام أم كلثوم الغنائية، مجرد إضافة شكلية لرصيدها الفني، بل كانت (إضافة إلى ظهور بعض من أعظم أغنياتها في بعض هذه الأفلام) سجلا تاريخيا للتحولات الفنية التي مرت بها أم كلثوم، وسجلا تاريخيا لتقلبات علاقاتها بملحنيها الثلاثة الأساسيين.وما يمكن قوله عن الأثر الاجتماعي والفني العظيم لانتشار السينما في البلاد العربية انطلاقا من مصر، في عقد الثلاثينيات بالذات، والأثر الذي أحدثه في توسع جماهيرية العروض السينمائية انخراط أم كلثوم في العمل السينمائي في تلك المرحلة المبكرة والمؤثرة، اعتمادا على صوتها لا على مواهبها التمثيلية المتواضعة، ما يمكن قوله في السينما، يمكن قوله وتكراره في أثر انطلاق الفن الإذاعي العربي من القاهرة في منتصف الثلاثينيات وأثر المشاركة المبكرة لأم كلثوم (كما لعبد الوهاب) في دعم البث الإذاعي بصوتها منذ اليوم الأول لإفتتاح إذاعة القاهرة، في توسيع جماهيرية البث الإذاعي الوليد، وتحريض الناس على شراء أجهزة الراديو في شتى أقاليم مصر، كما في شتى البلدان العربية، في عواصمها ومدنها وأريافها.وحقيقة الأمر أن عهدا بدائيا للفن الإذاعي كان قد ولد في مصر قبل سنوات من إفتتاح إذاعتها الرسمية يوم الخميس، 31 مايو/أيار سنة 1934. هذا العهد بدأ بظهور مجموعة من الإذاعات الخاصة (كانت تسمى في مصر “الإذاعات الأهلية”)، كان يملكها مجموعة من التجار، وكانت تبث الإعلانات التجارية، مصحوبة بإرسال إذاعي ذي مستوى هابط ومسف، أ صبح مادة للتندر والسخرية. ويبدو أن اهتمام السلطات المصرية والسلطات البريطانية الحاكمة في مصر يومها، قد أثاره انتشار وتزايد البث الإذاعي الخاص، فاتخذت خطوة هامة في مطلع العام 1934، قضت بوقف بث كل الإذاعات الخاصة، واحتكار موجات الأثير المحلية لمحطة رسمية واحدة (إذاعة القاهرة) تشاركت في أدارتها السلطات البريطانية (المستعمرة) والمصرية المحلية، وفقا لعملية تقاسم السلطة السياسية.إلياس سحاب