أم كلثوم... السيرة والأغاني - السيرة الشخصية (الحلقة السادسة) أبو العلا محمد تلميذ الحامولي وأحمد رامي العائد من باريس أكملا مشوار الدعم والحماية رامي: منذ التقيتها لم أفارقها... ولم أدر أنها ستكون حكاية عمري كله

نشر في 18-08-2010 | 00:00
آخر تحديث 18-08-2010 | 00:00
No Image Caption
... ولو نحن ألقينا نظرة شاملة على علاقة أم كلثوم بالشيخ مصطفى عبد الرازق، التي امتدت إلى ما يقارب ربع القرن، بين العام 1923 (الذي استقرت فيه أم كلثوم في القاهرة) والعام 1947 (الذي رحل فيه الشيخ مصطفى عن هذه الدنيا)، فان بالإمكان قسمة هذه العلاقة بين مرحلتين:

● المرحلة الأولى، التي امتدت لخمس أو ست سنوات، كانت العلاقة فيها بين طالبة الحماية والرعاية (أم كلثوم) وموئل الرعاية والحماية المطلوبة (الشيخ مصطفى عبد الرازق). وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه العلاقة لم تكن تستند فقط إلى المزايا الشخصية للشيخ مصطفى، التي كانت تؤهله بجدارة لمثل هذا الدور، ولكنها استندت أيضا إلى تراث أسرة عبد الرازق في مركزهم الريفي (قرية أبو جرج)، كما في العاصمة . فقد ورد في موسوعة «هؤلاء الرجال من مصر» لمؤلفها لمعي المطيعي، نص كتبه الدكتور حسن محمود عن ابن قريته الشيخ مصطفى عبد الرازق وأسرته، يقول:

«أبو جرج قرية من أكبر قرى بني مزار بمحافظة المنيا، وهي قرية وادعة مسالمة، يعيش أهلها أسرة واحدة، لا فرق بين غنيها وفقيرها. وهي قرية لم تعرف البغضاء. وقد تفتحت عيني فيها وأنا أرقب ذلك القصر المهيب الذي يقف شامخا على مشارف القرية من ناحية الشرق، حيث تقيم أسرة حسن باشا عبد الرازق الثرية الكريمة، التي جمعت بين العلم والفضل، وكانت شهور الصيف من أسعد أيامنا، نحن أطفال هذه القرية، حيث تدب في القصر الكبير الحياة، ويعود إلى القرية أبناء حسن عبد الرازق (بينهم الشيخين مصطفى وعلي) وإذا بهم في تواضع العلماء وسخاء أهل الريف، يخالطون الكبير والصغير، ويعرفون أهل القرية شيوخا وشبابا وأطفالا، يلاطفون ويسألون، وقصرهم مأوى للغريب والمحتاج(..) وكنا نرى الشيخ الجليل – أي مصطفى عبد الرازق – في رقته وحيائه يتمشى كل يوم في الطريق الزراعي الطويل المنبسط أمام القرية منفردا حينا، أو بصحبة صديقه طه حسين وزوجته الفرنسية سوزان حينا آخر. وكان طه حسين وزوجته ينزلان كل صيف ضيفين على آل عبد الرازق. أما قصر آل عبد الرازق في القاهرة خلف قصر عابدين (وهو بالمناسبة موقع أول منزل عاشت فيه أم كلثوم في القاهرة، قبل انتقالها إلى فيلتها الشهيرة بشارع أبو الفدا بالزمالك)، فكان يلتقي فيه عصر كل جمعة أبناء “أبو جرج” في القاهرة، فالدعوة مفتوحة للجميع. وكان الطلاب يذكرون اسم أسرة عبد الرازق في خانة أولياء أمورهم”.

وكأن هذا “الحصن” الريفي المنشأ، في قلب القاهرة المتمدينة المتحضرة، كان ملاذا طبيعيا لأم كلثوم، في سنواتها القاهرية الأولى.

● أما المرحلة الثانية للعلاقة بين أم كلثوم والشيخ مصطفى عبد الرازق، فهي التي تطورت بعد استقرار أم كلثوم على عرش الغناء النسائي (في مقابل عبد الوهاب على عرش الغناء الرجالي)، وانحسار عصر كل من سبقها من مطربات، وحتى آخر أيام مصطفى عبد الرازق، شيخا للأزهر الشريف. وتلك علاقة تطورت من الحماية والرعاية، التي لم تعد أم كلثوم بحاجة إليها، إلى علاقة مريد ثقافي وحضاري (أم كلثوم) برائد في هذا المجال، مثالي بالنسبة لأم كلثوم، لأنه يجمع (مثل صديقه وقرينه طه حسين، ومثل سلفهما التاريخي الشيخ رفاعة الطهطاوي)، بين جذوره الريفية الراسخة من جهة، وبين إطلالته على أسباب الحضارة والتقدم الاوروبيين من أحد أبرز ينابيعها في جامعات باريس، ومتاحفها ومسارحها ومنتدياتها الثقافية.

ومن المؤكد أن هذه العلاقة قد حفرت بصماتها عميقا في تكوين ملامح الشخصية الجديدة لأم كلثوم في القاهرة، على الصعيدين الإنساني

والفني، وكانت بوصلتها التي تعتمد عليها في رحلة صعودها الشاق إلى قمة الإبداع الفني، وقمة الارتقاء الاجتماعي، بعد ذلك.

الشيخ أبو العلا محمد

تلميذ عبدو الحامولي

رأينا كيف أن حماية ورعاية الشيخ مصطفى عبد الرازق كانت شرطا ضروريا لصمود أم كلثوم في وجه الحملات الشرسة التي كانت ستقضي على مشروعها الفني في القاهرة، وهو جنين. غير أن هذا الشرط الضروري لم يكن شرطا كافيا. فالموهبة الصوتية الاستثنائية كانت في حاجة إلى من يبني لها جسر الانتقال من عالم الإنشاد الديني، الذي كانت حتى ذلك الوقت لا تجيد سواه، إلى عالم الغناء المحترف المتقن.

ولم يكن يكفي لبناء هذا الجسر، وقوف ملحن موهوب إلى جانب صوت أم كلثوم، يقدم له الرعاية الفنية، مكملا الرعاية الاجتماعية والثقافية والإنسانية التي كان يؤمنها الشيخ مصطفى عبد الرازق، بل كان المطلوب في ذلك الملحن الموهوب مهمة ثانية (إضافة إلى إتقان صنعة التلحين) هي إقناع الشيخ إبراهيم، الذي كان ما يزال حتى ذلك الوقت المبكر صاحب القرار الأساسي في حياة أم كلثوم، الشخصية والفنية، إقناعه بلون من الغناء الذي لا ينزع عمن يمارسه الوقار والاحترام الذي تسبغه عليه ممارسة الإنشاد الديني. ولأن المغني المقصود هنا، هو تلك الفتاة القادمة من البيئة الريفية المبالغة في أجوائها المحافظة، فقد أصبحت تلك الحاجة مضاعفة.

وبما أن غناء القصائد هو أكثر ألوان الغناء الدنيوي قربا من أجواء الهيبة والاحترام المحيطة بالإنشاد الديني ، فقد بدا أنه اللون الوحيد المناسب لتأمين انتقال هادئ، ومحترم، لأم كلثوم من ممارسة الإنشاد الديني إلى ممارسة الغناء الدنيوي المحترف والمتقن.

وكأن القدر كان يتابع تهيئة الظروف المناسبة لاحتضان موهبة أم كلثوم، وتأمين الموقع المناسب في القاهرة، لاستقرارها وانطلاقها. ذلك أن الشيخ أبو العلا محمد لم يكن فقط على علاقة ومعرفة سابقة بالشيخ إبراهيم البلتاجي وابنته أم كلثوم، وموضع إعجابهما وثقتهما، ولكنه كان، إضافة إلى ذلك، فارس فن تلحين القصائد الغنائية، الذي ورثه عن سيد الغناء في القرن التاسع عشر عبده الحامولي، يردد قصائده (مثل أراك عصيّ الدمع وسواها) ثم ينسج على منوالها (مثل وحقك أنت المنى والطلب، وسواها) .

لذلك كان بديهيا أن ينبري الشيخ أبو العلا محمد، بعد أن استجاب الشيخ إبراهيم البلتاجي لنصيحته (ونصيحة الشيخ زكريا أحمد) بالانتقال بابنته الموهوبة إلى القاهرة، ينبري إلى احتضانها ورعايتها.

وفي كنف الشيخ أبو العلا محمد، لم تكتف أم كلثوم بإتقان فن القصيدة الغنائية، وشربه من ينابيعه الأصلية، ولكنها كانت فرصتها الذهبية، في تلك السن المبكرة، لارتشاف ينابيع تراث القرن التاسع عشر، وإتقان عيون ذلك التراث، من أدوار وموشحات، على يد أحد أئمة حفظة ذلك التراث.

وإذا كنا سنتابع في الفصل التالي من الكتاب (السيرة الفنية لأم كلثوم) ملامح الدور الذي لعبه أبو العلا محمد في تهذيب وتشذيب الموهبة الخام لأم كلثوم، فأننا سنحاول هنا استكمال صورة الدور الإنساني الذي لعبه الشيخ أبو العلا في ترسيخ أقدام أم كلثوم في القاهرة، وصمودها الفني في مواجهة أجواء حملات التشهير التي كان من الممكن أن توقعها في فخ التعثر الفني، إلى درجة اليأس الكامل، والعودة إلى الإنشاد الديني في الأرياف.

لقد ظلت أم كلثوم حتى آخر عمرها، تؤكد على أن أبو العلا محمد هو أستاذها الأول، وهو الذي علمها أصول الغناء العربي المتقن. وإن كان من المفيد هنا التذكير بأن أم كلثوم لم تدخل مدرسة أبو العلا محمد وهي على جهل تام بتلك الأصول، ذلك أن بين الإنشاد الديني الذي أتقنته أم كلثوم في الأرياف، ومارسته لسنوات طويلة قبل انتقالها إلى القاهرة، وبين الغناء العربي الكلاسيكي المتقن، صلة رحم فنية، هي التي صنعت الملامح الفنية الأساسية للتلميذة أم كلثوم في فن الغناء، ولأستاذها الأول الشيخ أبو العلا محمد، في فني الغناء والتلحين.

ونقتطف هنا كلاما مباشرا لأم كلثوم عن أستاذها الأول، ورد في مقابلات عديدة أجراها معها رجاء النقاش وضمنها كتابه عنها، تقول أم كلثوم:

«كان الشيخ أبو العلا من أعظم الموسيقيين العرب، وكان غزير العلم رقيق الشعور، وقد أثم ما بدأه الأولون، وحافظ على التقاليد الموسيقية العتيدة التي وضعها الأساتذة القدماء. وكان آخر تلك السلسلة المرحوم عبده الحامولي، الذي توفي سنة 1901، فاحتل الشيخ أبو العلا مكانه إلى أن توفي سنة 1927».

وتصف لنا أم كلثوم الأيام الأخيرة للشيخ أبو العلا، فتقول:

«كان في أيامه الأخيرة مريضا بالشلل، فتعذر عليه أن يلحن أو يغني. وعند ما كنت أذهب لزيارته، كنت أنظر إليه وأنا مكتوفة الأيدي، لا أستطيع شيئا أمام عذاب الرجل الذي أحب الغناء والموسيقى والطرب، وأوجد ألحانا ساحرة»،

ولنستكمل هذا الرأي المباشر من التلميذة بأستاذها، برأي الأستاذ في تلميذته، نقله شيخ النقاد العرب في القرن العشرين كمال النجمي، في كتابة الذي يحمل عنوان «تراث الغناء العربي» مسلطا الضوء على أهمية دور الشيخ أبو العلا محمد في تلك المرحلة التأسيسية المبكرة من حياة أم كلثوم:

«هذه السنوات القلائل، كانت المدرسة الفنية الحقيقية التي تلقت فيها أم كلثوم فن غناء القصائد من شيخها الفنان، وكان هو نفسه شاعرا يملك موهبة نظم الشعر وموهبة تلحينه في وقت واحد، وله قصيدة يمدح فيها أم كلثوم، ويبدي فيها إعجابه بصوتها في تلك المرحلة المبكرة من عمرها. ويذكر عارفو الشيخ أبو العلا أنه كان شديد الخوف على أم كلثوم، متوقعا لها حياة قصيرة لأنها على حد تعبيره «تغني بدمها»، أي تحرق دمها في الغناء، ولهذا لن تعمر طويلا. ولكن مخاوف الشيخ لم تتحقق لحسن الحظ، وإن كان القدر قد فجع فن الغناء فيه هو نفسه».

ولعل أبلغ تجسيد لعمق الأثر الإنساني والغني للشيخ أبي العلا محمد في نشأة أم كلثوم وانطلاقتها الفنية الأولى، كان مشهد جنازة الشيخ أبي العلا محمد، التي سارت فيها أم كلثوم وراء النعش، وهو خرق لكل التقاليد المعمول بها، والتي تقصر السير وراء الجنازات على الرجال. ويمكن الاستنتاج أن والد أم كلثوم وشقيقها، لم يتقبلا ذلك، إلا بعد ضغط وإلحاح غير عادي من أم كلثوم.

أحمد رامي العائد مـن باريس

كأنما القدر أراد أن يكمل كلمته في إحاطة حياة المطربة الصغيرة الموهوبة التي انتقلت من الريف إلى القاهرة سعيا وراء آفاق أوسع، بكل الظروف المناسبة لانتشال تلك الموهبة الاستثنائية، ووضعها في المكانة التي تستحقها، على قمة الغناء العربي النسائي في القرن العشرين. أو كأنما هي كيمياء ذلك العصر الحيوي الزاخر بالمواهب غير العادية في شتى ميادين الفن والثقافة، تتفاعل عناصرها بشكل تلقائي طبيعي، لتكوّن تلك الثنائيات أو الثلاثيات أو المجموعات المبدعة في حقل من حقول الفن والثقافة، يكمل كل عنصر منها الآخر، وإن كان لكل مجموعة في النهاية رمزها الذي تلتف حوله، وتنجز إبداعاتها من خلاله، وتنطلق في آفاق الشهرة والمجد على أجنحته.

ففي الوقت الذي كانت فيه أم كلثوم تتخذ الخطوة الحاسمة الكبرى في حياتها الفنية بقرار الانتقال إلى القاهرة والاستقرار فيها، كان شاب موهوب اسمه أحمد رامي ينتقل من القاهرة إلى باريس في بعثة دراسية، استغرقت حوالي ثلاث سنوات بين 1922 و1924. وسنعتمد في رواية تفاصيل علاقة أم كلثوم بأحمد رامي، في مرحلتها التأسيسية الأولى، على ست حلقات من مذكرات أحمد رامي الشخصية، المنشورة في مجلة «المصباح» الثقافية الأسبوعية اللبنانية.

في الأساس كانت بعثة أحمد رامي إلى باريس في مجال التخصص بفن المكتبات. ولكنه التحق في تلك الأثناء بدراسة أخرى في جامعة السوريون، للغة الفارسية «لا حبا في اللغة الفارسية بحد ذاتها، وإنما هواية لا حدود لها لعمر الخيام، صاحب الرباعيات الشهيرة».

يتابع أحمد رامي بنفسه رواية مقدمات التعارف التاريخي بينه وبين أم كلثوم، فيقول:

«كنت لا أزال في بعثتي الدراسية بباريس عندما تلقيت رسالة من أحد الأصدقاء يقول لي فيها أنه ظهرت مطربة جديدة لها صوت عظيم، تغني في القاهرة، ومن بين ما تغنيه قصيدة من أشعاري. وأعترف أنني تعجبت كثيرا – يتابع رامي- لهذا النبأ الذي قرأته في رسالة صديقي وتساءلت: كيف وصلت قصيدتي إلى هذه المطربة الناشئة.

وأنهيت بعثتي في باريس، وعدت إلى القاهرة وفي اليوم الأول لوصولي التقيت بصديقي صاحب الرسالة، وسألته عن هذه المطربة، فقال لي صديقي: ستستمع إليها هذه الليلة بالذات، فهي تغني كل ليلة خميس بحديقة الأزبكية. وفي الموعد المحدد ذهبت مع صديقي ِإلى حديقة الأزبكية، وجلست في الهواء الطلق، في الصف الأول مع هذا الصديق (المحرر: منذ ذلك اليوم بقي مقعد رامي في حفلات أم كلثوم محجوزا في الصف الأول، حتى آخر حفلة في حياتها).

وظهرت أم كلثوم على المسرح” فتاة صغيرة، ترتدي العقال فوق رأسها، ومن خلفها جلس أفراد فرقتها من الموسيقيين. ونظرت مدققا لهذه الفتاة، الذكاء الشديد يشع من عينيها، وحركاتها كلها ثقة. همس صديقي في أذني قائلا: لماذا لا تتقدم من أم كلثوم وتطلب منها أن تغني قصيدتك ؟ وبعد تردد، تقدمت من أم كلثوم، ودار بيننا الحوار التالي:

● مساء الخير

مساء النور

أنا غريب عن مصر منذ سنوات، ومشتاق لسماع قصيدتي.

أهلا سي رامي

وعدت إلى مقعدي من جديد، وغنت أم كلثوم قصيدتي التي مطلعها:

الصب تفضحه عيونه

وتنمّ عن وجد شجونه

إنّا تكتمنا الهوى

والداء أقتله دفينه

(..) وعرفت فيما بعد كيف وصلت قصيدتي إلى أم كلثوم، كانت تتلمذ على يد الملحن الكبير في ذلك العصر أبو العلا محمد، إنه هو الذي قدم لها قصيدتي ولحنها لها ودربها على إداء اللحن.

ومضت أيام الصيف بطيئة ثقيلة، وعادت أم كلثوم من مصيفها، لتقيم مع أسرتها في فندق اسمه «جوردن» وسط القاهرة، وبعده انتقلت لتقيم في أول شقة لها في شارع «قوله» بعابدين (المحرر: كان هذا البيت قريبا من قصر الشيخ مصطفى عبد الرازق) وتكرر لقائي بأم كلثوم. قدمت لها كل أشعاري التي كنت قد كتبتها، لتختار من بينها ما تشعر بأنها مقتنعة به لتغنيه. وخلال هذه الفترة، كنت أتنقل وراء أم كلثوم لاستمع إليها في أي مكان تغني فيه، دون أن أدري أن القدر قد رسم حكاية طويلة معها… أنها حكاية عمري كله”.

ويتابع رامي في مذكراته الموجزة سرد آثار علاقته المبكرة بأم كلثوم في تكوين شخصيتها فيقول على لسانها: “ كان لرامي أثر كبير في اهتمامي بالأدب وقراءة الشعر. ويوم أن عرفت رامي غيّر حياتي تماما. كنت قبل أن أعرفه فتاة فلاحة متزمتة، لا أتعامل مع الحياة إلا بجدية (المحرر: ربما قصدت أم كلثوم هنا عبارة “بصرامة”) وربما كان ذلك بسبب وجود والدي وشقيقي خالد إلى جواري باستمرار. ولكنني بعد أن تعرفت برامي، استطاع أن يغير مفهومي للحياة، ومفهومي لأسلوب التعامل مع الناس، علمني كيف أحب الحياة، وأبتسم للنكتة، وكيف أضحك، وكيف أتعامل مع الحياة بلا عقد وإذا كان دور أحمد رامي المحوري في حياة أم كلثوم، سيرافقنا دائما حتى آخر سطور هذا الكتاب عن أم كلثوم، فإننا سنتوقف في هذا الفصل من الكتاب، عند تفاصيل الدور المزدوج الذي لعبه رامي في حياة أم كلثوم بالذات في مرحلة “تثبيت الموقع” التي نحن بصددها.

لقد كان لهذا الدور وجهان متكاملان، ولكن لا شك بأن الوجه الأول الذي كان مطلوبا بسرعة، هو تحول رامي بقرار تاريخي منه دفعه إليه إيمانه المبكر بحجم الدور الخطير الذي يمكن لصاحبة هذا الصوت الاستثنائي أن تلعبه، فيما لو توفرت لها في القاهرة الرعاية الكاملة المطلوبة لاستكمال عناصر الغناء الراقي، وأول هذه العناصر الشعر الغنائي الذي كان يعيش في تلك الفترة بالذات، مرحلة هبوط تتجاوز في بشاعتها وركاكتها وسقوطها أسوأ نماذج الغناء العربي الاستهلاكي التجاري السائد في الربع الأخير من القرن العشرين.

يعتقد البعض (كما يبدو من بعض الكتابات في هذا الشأن) أن أم كلثوم هي التي دفعت رامي إلى التحول من كتابة الشعر بالعربية الفصحى، إلى كتابته بالعامية المصرية. ولكن فارق المستوى الثقافي بين أم كلثوم ورامي، هي تلك المرحلة المبكرة، يرجح لدينا ما تشير إليه كتابات أخرى في الموضوع، تؤكد أن رامي كان هو صاحب هذا القرار الحاسم في حياته كشاعر، وفي علاقته التاريخية بأم كلثوم، التي لم تنفصم حتى آخر يوم في حياتها، وآخر يوم في حياته، حتى بعد رحيلها. ذلك أن حياة رامي فيما بعد رحيل أم كلثوم، تحولت إلى صدى لتلك العلاقة التاريخية التي استمرت نصف قرن ونيف (1924 –1975). ولعل ما يرجح فرضية نسبة هذا القرار إلى رامي نفسه (وليس لأم كلثوم)، أن أم كلثوم كادت تقع، ولو جزئيا أو نسبيا، في فخ الشعر الغنائي الساقط أو الركيك الذي كان يسود ساحة الغناء في ذلك الوقت. فقد سجلت في العام 1926 أغنية من ألحان الدكتور أحمد صبري النجريدي (أحد ملحنيها الأولين، هو وأبو العلا محمد) يقول مطلعها

الخلاعة والدلاعة مذهبي

رد الفعل الأول لرامي على هذه الأغنية، قيامه بالتصرف بمطلعها وتحويله إلى:

الخفافة واللطافة مذهبي

أما رد الفعل الثاني، وهو الأهم، فكان على ما يبدو ذلك القرار التاريخي لرامي، يوضع شاعريته في تصرف فن أم كلثوم، منذ ذلك الوقت المبكر في مرحلة تثبيت موقع أم كلثوم في القاهرة. وذلك وفقا للحاجة الواقعية والعملية لذلك الفن، الذي كان يتطلب نسبة مرتفعة من الأغنيات المكتوبة بالعامية المصرية. فاندفع رامي يكتب ما يستحق أن يسمى شعرا بالعامية، وهو لون آخر يختلف في كثير من مواصفاته عن “الزجل”، لأن مواصفاته كاملة التطابق مع مواصفات الشعر المكتوب بالعربية الفصحى، لا يخالف تلك المواصفات إلا باستخدام العامية بدلا من الفصحى، للتعبير عن الأغراض نفسها، والالتزام بالمستوى الرفيع نفسه. وسنكتشف معا، ونحن نتوغل في صفحات هذا الكتاب، أن قرار رامي هذا قد اتخذت حجما تاريخيا حقيقيا في تدعيم شخصية أم كلثوم وصورتها الفنية، في مرحلة تثبيت الموقع، وتوسيع آفاقها الفنية في مرحلة الانطلاق الكبير، بدليل أنه إذا كان رامي قد كتب خمسين بالمائة من مجمل النتاج الغنائي لأم كلثوم على امتداد حياتها، فان ثمانين بالمائة (وربما تسعين بالمائة) مما كتبه رامي لأم كلثوم، قد صاغه بالعامية المصرية، واعتبر فتحا تاريخيا في الشعر الغنائي المصري والعربي، تأثر به كل من كتب الشعر الغنائي بعد رامي (ربما باستثناءات واضحة ومعروفة في مصر ولبنان).

هذا عن الوجه الأول لدور رامي في حياة أم كلثوم، في مرحلة تثبيت الموقع (كما في مرحلة الانطلاق بعد ذلك)، أما الوجه الثاني لذلك

الدور، فهو الآخر ابتدأ في مرحلة “تثبيت الموقع” ولكنه استمر في مرحلة الانطلاق فيما بعد، وهو يتلخص في دور رامي المباشر برعاية وتنمية وتطوير المستوى الثقافي لأم كلثوم.

مرة أخرى نترك رامي يتحدث بلسانه مباشرة عن ذلك الدور:

“وخلال لقاءاتي المتعدد بأم كلثوم، اكتشفت جوانب عديدة من شخصيتها القوية الساحرة. لم يكن من المعقول أن الفتاة القادمة من الريف تمتلك كل هذه الإمكانيات، وهذه الطاقة الفنية التي لا حدود لها.. كانت معجزة. وكان وجودي في دار الكتب بحكم عملي فيها، فرصة خطط لها القدر من أجل أن أقدم لأم كلثوم دواوين الشعر التي ألفها كبار الشعراء في العالم، وكانت البداية دواوين الشعر التي ظهرت في العصر الجاهلي.

كانت أم كلثوم، والحق يقال، قارئة ممتازة، تقرأ بعناية، وتناقش بعمق، وتقارن بين شاعر وآخر تناول نفس الموضوع، لتعلن في براعة عن رأيها بين إحساس شاعر، وشاعر آخر. وعندما كنت أقدم لها قصيدة من أشعاري لتغنيها، كانت تدرس هذه القصيد بعناية، تناقشها في معانيها، وعندما تنتهي من دراستها، تقدمها عن اقتناع لمن يلحنها.

ويؤكد رامي في مذكراته الموجزة هذه، أن يوم الثلاثاء، كان هو اليوم الثابت لهذا اللقاء الثقافي الأسبوعي بينه وبين أم كلثوم، الذي كان بيتها مقرا له. غير أن كتاب نعمات فؤاد عن أم كلثوم يؤكد أن الاثنين كان يوم ذلك اللقاء الأسبوعي الثابت، وهذا تفصيل يحتاج إلى مزيد من تدقيق الباحثين، لأن نعمات فؤاد استقت معلوماتها مباشرة من أم كلثوم، بينما روى رامي مذكراته الموجزة لمجلة المصباح في السنوات الأخيرة من عمره.

ومهما كان من أمر هذه المسألة الشكلية، فإن ذلك اللقاء الثقافي الأسبوعي بين رامي وأم كلثوم، وقد امتد نصف قرن كامل، يمكن اعتباره من غير مبالغة (إلى جانب الرعاية الاجتماعية للشيخ مصطفى عبد الرازق والرعاية الفنية للشيخ أبو العلا محمد واحتكاكها المتواصل بعد ذلك بنجوم الحياة الثقافية والأدبية والاجتماعية في مصر) بمثابة الجامعة الثقافية الشاملة التي تكونت فيها أم كلثوم على مر السنين، حتى أنها تروي في كثير من أحاديثها الصحافية أن من بين عشرات الكتب الهامة التي أتيح لها الاطلاع الكامل عليها، كتاب الأغاني بمجلداته الكاملة. وغني عن التذكير هنا ما لهذا المرجع من قيمة كمصدر لثقافة لغوية وأدبية وتاريخية واجتماعية وثقافية شاملة.

ومع أن ذلك الدور المزدوج الذي لعبه أحمد رامي إلى جانب أم كلثوم (التحول إلى الشعر الغنائي بالعامية المصرية، والجلسات الثقافية الأسبوعية)، قد ظل يغني بشخصية أم كلثوم نصف قرن كامل بعد ذلك اللقاء الأول، فأن الأثر الأكثر حسما وخطورة وأهمية لهذا الدور، إنما ظهر في تلك المرحلة المبكرة من حياة أم كلثوم. لأنه من غير تطوع رامي لتزويد حنجرة أم كلثوم بذلك الشعر الغنائي الراقي بالعامية المصرية، كان من الصعب تخيل تحول أم كلثوم من الإنشاد الديني، إلى الغناء العاطفي، وهو التحول الذي كان حاسما في قرار الاستمرار في القاهرة (برغم حملات التشهير الجارحة) وعدم الانكفاء إلى الريف.

من المؤكد أن مزيدا من الدراسات في التفاصيل اليومية لحياة أم كلثوم في مرحلة “تثبيت الموقع” التي امتدت على خمس سنوات كاملة (1923 – 1928)، سيكشف عن مزيد من الشخصيات الأساسية والثانوية التي ساهمت بنسبة ما في تدعيم قاعدة استقرار أم كلثوم في القاهرة. فمع أن ظهور الشيخ زكريا أحمد كملحن في حياة أم كلثوم قد تأخر حتى العام 1931، فان ذلك لا يعني أنه لم يكن بين من أحاطوا بأم كلثوم ووفروا لها الحماية من أعاصير حملات التشهير والتهشيم. كما أن من المرجح أن أمير الشعراء أحمد شوقي قد مارس دورا ما في هذا المجال، مع أنه كان مستغرقا حتى أذنيه في رعاية وتنمية الموهبة الفنية الاستثنائية الأخرى (محمد عبد الوهاب)، فلأحمد شوقي، من قبل ظهور عبد الوهاب، حكايات شهيرة عن رعايته للفن الرفيع وشغفه برموزه أو بمواهبه الواعدة، وهناك ما يشير إلى أن أحمد شوقي كان من بين نجوم المجتمع القاهري الراقي الذين تنبهوا مبكرا إلى الموهبة الاستثنائية لأم كلثوم. وربما بإمكاننا أن نضيف هنا اسما آخر هو هاوي الموسيقى الدكتور أحمد صبري النجريدي الذي وضع موهبته التلحينية في خدمة المطربة الصاعدة أم كلثوم، بنكهة فنية فيها قدر من التجديد لفت الأنظار والأسماع في ذلك الوقت.

غير أن الأثر الرئيسي الحاسم في توجيه حياة أم كلثوم في تلك المرحلة، كان بلا شك منوطا بأولئك الرجال الثلاثة (مصطفى عبد الرازق وأبو العلا محمد وأحمد رامي) الذين قاموا، كل في مجاله، بالأدوار الحاسمة المتكاملة، المكّونة للمظلة الواقية التي أتاحت لأم كلثوم الصمود أمام حملات التشهير الفني والشخصي الشرسة، واتخاذ القرار الخطير بالبقاء في القاهرة، ثم بالتحول من الإنشاد الديني إلى احتراف الغناء، وهو القرار الذي وضع قدمي أم كلثوم على أولى درجات سلم المجد الفني والارتقاء الاجتماعي.

أم كلثوم في القاهرة (2)

غروب عصر، وشروق عصـر

لا شك بأن عقد العشرينيات، كان العقد الحاسم في حياة أم كلثوم، ففيه كانت قد حسمت وحددت كل أسس حياتها الشخصية والفنية، التي انطلقت منها إلى استكمال ملامح مجدها الفني وصعودها الاجتماعي:

حسمت أمر موقعها داخل منزلها الأسري، أولا، وهو الموقع الذي نجحت في تحديده وفقا لمواهبها وكفاءاتها الاستثنائية، وليس وفقا للتقاليد الاجتماعية المحافظة التي تحسم الموقع الأول لصالح الكبير في مواجهة الصغير، ولصالح الذكر في مواجهة الأنثى.

حسمت أمر استقرارها في القاهرة في مواجهة إعصارين عاتيين، لم تكن مواجهتهما على أي درجة من السهولة:

إعصار الغناء الترفيهي الهابط، خاصة بالنسبة للأنثى التي تريد ممارسة الغناء في ذلك الوقت.

إعصار حملات التشهير وتشويه السمعة التي كانت تمثل (خاصة في السنوات الأولى) ضغوطا مضاعفة عليها، ليس فقط بما تصيبها به من إحباط، بل بما تثيره في نفس والدها الريفي المحافظ، صاحب القرار الأول في حياتها الشخصية والفنية في تلك السنوات المبكرة.

ومع أن تفهم والدها للظروف السلبية المحيطة بظهور ابنته في القاهرة، واقتناعه بضرورة مواجهة تلك الظروف، خاصة بعد أن أحاطه الشيخ مصطفى عبد الرازق وأسرته وأصدقاؤه بحماية شخصية واجتماعية، كان شرطا ضروريا للاستقرار النهائي في القاهرة، فمن المؤكد أن قوة شخصية أم كلثوم قد لعبت دورا هاما، بل حاسما، في مقاونة مخاوف والدها، قبل أن تتضخم وتدفعه إلى اتخاذ القرار الخطير، بإنهاء وضعها في القاهرة، والعودة النهائية إلى الريف.

غير أن أمرا ثالثا كان بعد ذلك ينتظر القرار الحاسم الذي من دونه ما كان بإمكان كل ما أنجزته أم كلثوم قبل ذلك، أن يصل بها إلى موقع مطربة مصر الأولى، بل مطربة العرب الأولى في القرن العشرين، هذا الأمر هو اتخاذ القرار عند المنعطف الأهم والأكبر إما بالبقاء في إطار الإنشاد الديني، وما يرافقه من طقوس الملابس الذكورية والاكتفاء بالمنشدين المرافقين، من دون الاستعانة بأي فرقة موسيقية، أو بالانتقال الشجاع والنهائي إلى احتراف الغناء، بكل طقوسه وأجوائه ومتطلباته الاجتماعية والفنية، من ارتداء الملابس العادية (البعيدة تماما عن ملابس الريف وتقاليده) والاختلاط بالموسيقيين للحاجة الملحة إلى مصاحبة الفرقة الموسيقية، إضافة إلى الاختلاط بأصحاب المسارح، وبأصحاب شركات الاسطوانات والدخول معهم في مفاوضات معقدة لا تمت بصلة إلى تلك المفاوضات البدائية التي كان الشيخ إبراهيم يتقن فنونها مع متعهدي الحفلات الريفية الخاصة بالإنشاد الديني، التي أطلعنا على عينات منها في الفصل الخاص بالنشأة الريفية لأم كلثوم.

وإذا كانت آخر سنوات عقد العشرينيات هي التي شهدت الانحسار الكامل للمنافستين الرئيسيتين لأم كلثوم (منيرة المهدية وفتحية أحمد)، فإن السنوات ما بين 1924 و 1928، كانت مسرحا للنزال الفني الحاسم فيما بين المغنيات الثلاث.

في هذه السنوات، استندت أم كلثوم (إضافة إلى المستوى الثقافي والاجتماعي للشيخ مصطفى عبد الرازق)، إلى شاعرية أحمد رامي، ودعم ثلاثة من المشتغلين بالتلحين في ذلك الوقت، هم الشيخ أبو العلا محمد وطبيب الأسنان (هاوي الموسيقي) الدكتور أحمد صبري النجريدي، وعازف العود القدير والملحن الصاعد (في ذلك الوقت) محمد القصبجي.

ومع أننا سنطلع في القسم الثاني من الكتاب، الخاص بالسيرة الفنية لأم كلثوم، على كامل التفاصيل الفنية لتعاون هؤلاء الملحنين الثلاثة (وسواهم) مع أم كلثوم، فان من المهم، ونحن ما نزال بصدد سيرتها الشخصية، أن نشير إلى الدور الذي أداه كل من هؤلاء الثلاثة، في تلك السنوات المبكرة التي كانت قاعدة الانطلاق الحقيقية لكل ما أنجزته أم كلثوم بعد ذلك.

أبو العلا محمد، قام، بالإضافة إلى التشجيع المتواصل الذي لم يتوقف منذ لقائهما الأول في الريف، بتحفيظها ما تيسر له ولها من تراث القرن التاسع عشر، كما قام بتحفيظها أهم ما لحن هو وما لحن أستاذه العظيم عبده الحامولي من قصائد، حتى تعيد تسجيلها بصوتها على اسطوانات.

ولا شك بأن اختيار الشيخ أبو العلا محمد في تعامله العملي العلني مع أم كلثوم لفن القصيدة الغنائية، كان قرارا حكيما في نتيجته العملية، سواء كان قد انطلق إلى ذلك بمحض غريزته الفنية، أم بتحليل عقلاني واع، فلا شك بأن هذا الاختيار كان الأشد تناسبا مع انتقال هادئ ووقور لأم كلثوم من فن الإنشاد الديني إلى فن الغناء.

غير أن مثل هذا الانتقال ما كان يمكن أن يكون نهاية المطاف الفني لأم كلثوم، بل بدايته.

وهكذا برز الدور الذي أداه بجدارة كاملة في حينه، هاوي الموسيقى طبيب الأسنان أحمد صبري النجريدي، وهو حاجة أم كلثوم إلى غناء الطقاطيق، بعد أن ثبتت موقعها ونقطة انطلاقها القوية بغناء القصائد الرصينة.

ومع أن النجريدي لم يتجاوز في تعاونه مع أم كلثوم عقد العشرينيات (لأسباب سنتطرق إليها بمزيد من التفصيل في القسم الثاني من الكتاب)، فان دوره- في الفترة القصيرة التي أدى فيها هذا الدور- كان ذا قيمة ظرفية تتجاوز بكثير القيمة الفنية الخالصة لفن النجريدي، فيما لو حاولنا اليوم وضعه في مرتبة محددة في الرصيد الفني العام لأم كلثوم. فقد اختط النجريدي في تلحينه لأم كلثوم خطين متكاملين:

خط القصائد الغنائية، التي كان فيها مريدا مجتهدا في مدرسة أبو العلا محمد، وكانت أكثر تلك القصائد شهرة، وربما أكثرها قيمة أيضا، قصيدة «مالي فتنت بلحظك الفتاك».

خط الطقاطيق، التي ضمن لها المستوى الفني الراقي انصراف أحمد رامي إلى كتابتها. ولعل أشهرها وأجملها طقطوقة «يا كروان والنبي سلم»، إضافة إلى الموهبة التلحينية المعقولة للنجريدي، التي كانت تستقي ألحان الطقاطيق من النبع ذاته لألحان القصائد.

ومع أن رصيد ألحان النجريدي المحدود لأم كلثوم يتضمن الطقطوقة الشهيرة «الخلاعة والدلاعة مذهبي» (التي سلف ذكرها في الفصل السابق)، فان قراءة متأنية لكلام هذه الطقطوقة ينبه القارئ إلى أنه لا داعي للاستسلام المطلق لما يوحي به مطلع الشعر الغنائي لهذه الطقطوقة ، بأنها من سقط المتاع الذي كان يسود ساحة الغناء (خاصة النسائي) في تلك الأيام، فأن بقية النص الشعري للأغنية، برئ من هذا الجو الذي يوحي به المطلع. وعلى أي حال فأن رصيد أم كلثوم، حتى في تلك المرحلة المبكرة، لا يتضمن سقطة أخرى غير هذه، في فخ الكلام الرخيص.

أما الموسيقي الثالث الذي لعب دورا بارزا (ولعله الأبرز) في تثبيت أقدام أم كلثوم الفنية في مرحلة صراعها المرير مع فتحية أحمد ومنيرة المهدية، فكان بلا جدال محمد القصبجي، وذلك لأسباب عديدة.

إلياس سحاب

back to top