المافيا... دولة المال والدم وصايا المافيوزو العشر 2

نشر في 12-08-2010 | 00:00
آخر تحديث 12-08-2010 | 00:00
استمرت المافيا حيّة طوال القرون الماضية، لا بقوة السلاح والمال فحسب لكن أيضاً بقوة التقاليد التي حافظت على هذا الكيان الخرافي من الاندثار متحدّياً دولاً وزعماء وشعوباً. وقد حققت تلك القواعد التوازن والنظام لعصابات المافيا التي، على رغم تورّطها في أشدّ العمليات الإجرامية قسوة وقذارة، إلا أنها شدّدت على استلهام قيم الأسرة الإيطالية في العصور القديمة، خصوصاً في الريف الإيطالي المنعزل بين الجبال، فضلاً عن الالتزام الذي قارنه البعض بما تفرضه الجيوش وقوات الأمن، بحيث يصبح الخروج عن تلك القوانين مرادفاً لخيانة الوطن، وهذا ما يستحق عقوبة واحدة مناسبة، ألا وهي الموت. لهذه الاعتبارات تحولت المافيا من منظمة سرية، إيطالية المولد، أميركية النشأة إلى كيان عالمي الانتشار يتخطى الحواجز والحدود، وفوق ذلك يتحدى القوانين.

لا أحد يستطيع إنكار دهشته وانبهاره بصورة المافيا التقليدية التي شاهدها على شاشة السينما ثم على شاشة التلفزيون، والتي تعتمد بصورة رئيسة على مبادئها الخاصة وقيمها وأخلاقياتها لا سيما الإخلاص الشديد والطاعة العمياء، وهذا ما حاول كشفه المخرج الإيطالي الأصل فرانسيس فورد كوبولا في ثلاثيته السينمائية الشهيرة {الأب الروحي}، بطولة مارلون براندو وآل باتشينو (هما من أصول إيطالية أيضاً).

قدّمت الثلاثية ببراعة عائلة المافيا وكيفية تعاملها سواء بين أفرادها أو مع المحيطين بها أو مع الغير ممن لا يؤمنون ولا يعرفون مبادئها، وكيف تحيي عبر تنظيمها الهرمي تقاليد صقلية العريقة مهما سافرت في الزمان أو المكان، والأهمّ تقديس الأب الروحي، الذي يطيعه أفراد العائلة ويقبّلون يده ويقتلون من أجله حتى لو كانت الضحية فرداً من العائلة.

تنبع أهمية الأب الروحي من كونه المسؤول عن تقديم المافيوزو الجديد للعائلة، وتنصّ التقاليد القديمة على أن يفتح هذا الأخير يده حين يشعلها أبوه الروحي بالنار، وعلى المبتدئ ألا يصرخ مهما بلغت شدة الحرارة لكفّه، ومتى نجح في هذا الاختبار، يبدأ طقس مزج دمه بدم أبيه الروحي أو عرابه، عندها يكون دخوله إلى العائلة مقدساً وإلى نهاية حياته، فهو يقسم يمين الولاء للعائلة ورئيسها وقوانينها ويكرّس نفسه للعمل الدائم لنصرتها ظالمة أو مظلومة.

قبلة الموت 

من المافيا انطلق مفهوم الأب الروحي الرمزي، الذي يظل مدى الحياة مرشداً وكفيلاً لجنوده أو أفراد عائلته أمام الزعيم {الكابو}، ويظل للكابو أو الزعيم دائماً الكلمة الأخيرة في إنهاء الخلافات، التي كانت تنتهي، أحياناً، بقبلة يطبعها الكابو على فم المحكوم عليه بالإعدام، من دون أن يتفوه بكلمة، وهذا ما قام به آل باتشينو في الثلاثية السينمائية {الأب الروحي} بتقبيله أخيه فريدو بعدما عقد النية على قتله.

ظلت القبلة لعقود إحدى سمات المافيا التاريخية، فقبلة الموت - كما تسمى- كانت أمراً متعارفاً عليه بين رجالات المافيا الصقلّية، وظل هذا العرف سائداً حتى غيّره زعيم المافيا الثائر على التقاليد لاكي لوسيانو الذي نهى رجاله عن تقبيل بعضهم البعض عند المصافحة، مخافة أن يلقي ذلك الرعب في قلوب زملائهم التقليديين.

قاعدة الصمت 

يتبع أفراد المافيا قواعد وقوانين خاصة تشبه إلى حد بعيد التنظيم العسكري دقة وصرامة، وتسعى في أهدافها البعيدة إلى خدمة القضية {العائلية} الواحدة. على رأس تلك القواعد تأتي {أومرتا} أو قاعدة الصمت التي تمنع إفادة الشرطة بالجريمة أو مرتكبها .

فقد جرت العادة بين سكان المدن الإيطالية ألا يشي أحد بما يعلم إلى السلطات، ولا يتحدث عمّا رأى بأم عينيه ولا ما سمع بأذنيه، لأن الثمن هو حياة الواشي أو حياة أقربائه. وتحرم تلك القاعدة - القانون على المنتمي إلى المافيا البوح بأسرار العائلة، مهما كانت الأسباب والظروف، وإلا تعرض للعقوبة الوحيدة لمعالجة الواشي وهي: القتل.

بعد الصمت تأتي قضية العرض والشرف التي حافظ عليها رجال المافيا الصقليون لعقود، حيث على رجل المافيا الحقيقي أن يحترم نساء بلاده، وألا ينظر إليهن بسوء. وإذا حدث ووقع في الخطأ، تحضّر له العائلة مفاجأة لوداع الحياة إلى الأبد. ومع توسع المافيا، وحين بدأت الكوزا نوسترا العمل في مجال الدعارة وشبكات الرقيق الأبيض، ظلت قوانينها تمنع جلب الفتيات الإيطاليات مع استبعاد القاصرات، والزنجيات بسبب قناعة لدى المافيا بأنهن يلتقطن الأمراض الفتاكة بسرعة.

مجتمع قائم بذاته

بحلول القرن التاسع عشر اتسعت المافيا وتحولت إلى مجتمع قائم على الجريمة لا يحترم أي شكل من أشكال السلطة. رافق صعود المافيا في إيطاليا وقبل أن تنتشر في العالم تغيرات عديدة تزامنت مع انتقال أنشطتها من الريف إلى المدن، وهو ما تسبب بنشوب معارك بين المافيا الريفية، التي سعت إلى إبقاء الفلاحين في جهلهم وشقائهم لتواصل استغلالهم، والمافيا الجديدة، التي وجدت آفاقاً أرحب في تطوير حركتها الاقتصادية لتجني الأرباح من أسواق باليرمو الداخلية وعبر تهريب المخدرات إلى خارجها، وهو ما كان يتنافى مع قواعد المافيا الأم التي حرمت في البداية الإتجار بالمخدرات، إلا أن هذا الأخير تحوّل لاحقاً إلى مورد أساسي من موارد عائلات المافيا داخل صقلية وخارجها.

تنوعت أنشطة جماعات المافيا منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا، وشملت إدارة مصانع ومطاعم ومتاجر وشركات تأمين ومصارف وفنادق وملاه كواجهة لأنشطة مربحة غير مشروعة في مجالات القمار وتهريب الخمور والمخدرات والدعارة والإقراض بفوائد (ربا) والابتزاز والاحتيال وسرقة السيارات، فضلاً عن الخطف والقتل.

{كوسكيه} 

تمثل فكرة العائلة نواة المافيا التي يرتبط أعضاؤها فعلياً في ما بينهم بالانتماء إلى أسرة واحدة بالقرابة أو الزواج أو عري الصداقة الوثيقة. اعتمدت في عملها على إرسال خطابات إلى الأثرياء لمطالبتهم بدفع مبالغ مالية لتأمين حماية شخصية لهم من المجرمين الذين غالبا ما يكونون هم أنفسهم، وكان مصير الأشخاص الذين لا يستجيبون لمطالب المافيا التفجير أو الخطف والقتل. ومع ذلك اشتهرت المافيا في إيطاليا باحترام الإيطاليات، وعدم النظر إليهن بسوء.

بدأت الهياكل التنظيمية لجماعات المافيا، في صورة مجموعات، تعرف باسم {كوسكيه} (Cosche)، تكونت كل مجموعة من عشرين شخصاً لهم قانونهم ونظامهم الداخلي. يتخذ تنظيم تلك المجموعات تسلسلاً هرمياً، يتمثل بـ رئيس {كابو} أو الرأس، وهو الحاكم الفعلي الوحيد في العائلة وأقوى أفرادها ويمثل رأس السلطة الهرمية، وهو منفصل عن العمليات الفعلية بعدة طبقات من السلطة، يتلقى جزءاً من أرباح كل عملية يقوم بها أفراد الأسرة.

يختار الكابو بنفسه مستشارين اثنين مهمتهما إسداء النصائح القانونية من دون أن تكون لهما أي صفة تقريرية، التوسط في نزاعات الأسرة، الاهتمام بالجانب الاقتصادي {للأعمال}، ويكونان عادة من رجال العصابات غير المشهورين الذين يمكن الوثوق بهم. من ثم هنالك مساعد الرئيس - عادة يعينه الرئيس بنفسه، وهو {الرجل الثاني} في العائلة، ويعدّ الكابتن المسؤول عن بقية {كباتن} العائلة تحت رئاسة الرئيس، ويتقدم للرئاسة في حالة سجن الرئيس.

يأتي بعد ذلك ملازمان (كابتنان) أو أكثر حسب كبر حجم العائلة وهما غالباً من أبناء الرئيس، يرشحهما الرجل الثاني ولكن في الأصل يختارهما الرئيس نفسه. عادة، الكابتن قائد مسؤول عن مجموعة، تتضمن العائلة في المتوسط من 4 إلى 6 مجموعات، تتكون كل واحدة من جنود يصل عددهم إلى 10. يدير الكابتن شؤون عائلاته الصغيرة، ولكن يجب أن يتبع الأوامر التي يضعها الرئيس، وأن يدفع له حصة من مكاسبه.

يلي الكباتن أعضاء عاملون من ضباط وجنود {مافيوزو} لا تكون لديهم أي علاقة مباشرة بالرئيس الأعلى، والجندي من أعضاء الأسرة {المصنوعين}، أي الذين لا ينتمون مباشرة إلى العائلة إنما يمكن أن يكونوا من أصل إيطالي أو صقلي. يبدأ الجنود بصفة منتسبين أو مساعدين أثبتوا أنفسهم، وغالباً ما يرشحهم الكابتن ليتم قبولهم لاحقاً في مجموعة الكابتن الذي رشحهم.

أخيراً هنالك مجموعة من المساعدين من الخارج، ليسوا أعضاءً في العائلة، إنما يقومون بمهام محددة، وبدور الوسيط أحياناً، أو يبيعون المخدرات لدرء الخطر عن الأعضاء الفعليين. لا يمكن أن يصل الأعضاء غير الإيطاليين إلى أكثر من ذلك بالنسبة إلى العائلة ويعمل كل منهم في مكانه من دون أي أمل في الترقية. يبقى الجندي جندياً، ولا يطمح الملازم في منصب الكابو إلا إذا كان إبناً له فالزعامة وراثية، والمراكز هي لمدى الحياة.

تراعى قواعد تسلسل القيادة بشكل حازم، وتدار الأموال بهذا التسلسل وبنسب معينة، ولا يسمح للعضو بأن يتعامل إلا مع القيادات التي تعلوه مباشرة من دون أن يعرف شيئاً بعد ذلك، كذلك يجهل بقية الضباط، وهذه القيادات تتعامل بدورها مع القيادات الأعلى وهكذا. بهذه الطريقة يستحيل على سلطات التحقيق أن تتبع خيطًا واحدًا لتصل إلى كشف القيادات العليا.

تميز ومهارات 

مع بزوغ نجم جماعات المافيا المنظمة في بداية القرن العشرين، اختارت عائلات المافيا أن يكون لكل منها ما يميزها عن غيرها، كأن تتميز بدقة رجالها القناصة أو براعة القفز وغيرها من المهارات التي يمكن تبادلها بين العائلات للقيام بمهام معينة، على أن تظل القيادة لكبير العائلة الذي يتمّ اختياره بموافقة بقية أفراد العائلة، في تنظيم هرمي محكم بالولاء للرؤساء الذين يضعون نصب أعينهم الدفاع عن كرامة العائلة وتثبيت أركان قوتها وجمع المال.

يسمح التقسيم الداخلي لكل عائلة بتشكيل جيش مستقلّ له ميادينه الخاصة. وعلى رغم الجدية الشديدة في تنفيذ التعليمات إلا أن العائلة تتميز بالمرونة عند تكليف الأفراد بالقيام بمهام حيث يحق لهم المناقشة للتعديل أو التغيير.

تأتي لاحقاً مرحلة التكتلات التي تسمح بانضمام العائلات المتشابهة في النشاط إلى بعضها البعض لتكوين عائلة أكبر يتزعمها أقوى الأفراد من مجموعة العائلات الصغيرة. يلي ذلك انضمام اتحاد تلك العائلات الكبيرة إلى عائلة واحدة يتزعمها الأقوى فكراً وتنظيماً وثروة وصلابة. ويخضع هذا الجهاز في النهاية إلى الرجل الكبير في صقلية، وأحيانا قد يتشارك أكثر من قائد ممن يشهد لهم بالكفاءة والتاريخ العريق. يختلف عدد الأفراد في كل عائلة عن غيره من العائلات وقد يصل في بعضها، على غرار عائلة {لاكي لوسيانو} في شيكاغو في الولايات المتحدة في بداية القرن العشرين، إلى حوالي خمسمائة فرد تنظمهم أواصر العائلة بغض النظر عن صلة الدم.

الوصايا العشر 

على الرغم من جرائم المافيا البشعة وعددها الضخم، إلا أنه من المدهش أن تحافظ المنظمة على قيمها الأخلاقية والدينية ولم تتصف أبداً بالغدر بضحاياها، فكانت الطلقة تأتي غالباً من أمام الضحية أو في ظهره عند هروبه، وقد يسبقها حديث أو حوار ما، حتى أن ويلي موريتي كان مبالغاً بعض الشيء بحديثه المطوّل مع الضحية حتى وصف بـالقاتل {الرحيم}.

وفي المقابل، كان أعداء المافيا يقتلون المافيوزي برصاصات غادرة توجه إليه من الخلف بشكل خاطف، ما يدل على أن ما يتمتع به أعضاء المافيا من هيبة وشراسة ترهب من يسعى إلى اغتيالهم، بالإضافة إلى تميزهم بسرعة التقاط المسدس وتسديد الطلقات بدقة شديدة ما يقلل من فرص النجاح في مهمة اغتيالهم.

أما في علاقات المافيا الخارجية، فقد اعتمدت العائلة على مبدأين مهمين:

عدم التدخل في حروب مخابراتية أو عمليات تجسس حتى لا تقودها إلى حروب لا تريدها مع أجهزة المخابرات. عقب الحرب العالمية الثانية، سن مجلس العائلات قانوناً يبيح قتل أي فرد من العائلة يتورط في قتل أحد زعماء العائلات الأخرى، وذلك من دون الرجوع إلى مجلس العائلات، أما إذا كان القاتل كبيراً لإحدى العائلات، يحرم من الزعامة ورئاسة عائلته وتتم تصفية ممتلكاته وتوزع على العائلات الأخرى، وفي بعض الحالات يقتل إذا اتفق مجلس العائلات على ذلك.

وكان يطلب من أعضاء التنظيم أداء قسم عند التحاقهم للمرة الأولى يتضمن الالتزام بمبادئ أساسية تعرضهم مخالفتها للقتل، وهي:

- قانون الصمت أو {الأومبرتا}، وعدم كشف أسرار المافيا أو أعضائها مهما كان الثمن.

- طاعة الرئيس طاعة عمياء.

- الانتقام من أي هجوم يتعرض له أعضاء العائلة لأن الاعتداء على أحد أفرادها هو اعتداء على الجميع.

- مساعدة أي منظمة مافيا صديقة واحترام النساء الإيطاليات.

- تجنب أي اتصال مع السلطات الرسمية.

وبعد قبول المنضم وأداء القسم، توفر العائلة الحماية له وتلبي المطالب المادية بالمكافآت عقب نجاح كل عملية، فضلاً عن توفير المسكن والرعاية لعائلته إذا أصابه مكروه.

في نوفمبر 2007، عثر البوليس في جزيرة صقلية على قائمة تضم الوصايا العشر، وذلك في مكان سري يخصّ الزعيم المافيوزو سلفاتوري بيكولو، بدت كإرشادات للمافيوزو الصالح، وهي:

- لا تقدم نفسك مباشرة لشخص آخر من أصدقائنا (المساعدين)، إنما من خلال وسيط.

- لا تنظر إلى زوجات أصدقائك.

- لا تحضر في مكان واحد مع رجال البوليس.

- كن مستعداً على الدوام ومتاحاً للكوزا نوسترا، حتى لو كانت زوجتك على وشك الولادة.

- احترم المواعيد وقدسها.

- عامل زوجتك بالاحترام اللائق.

- عندما تسألك العائلة عن أي معلومات، لتكن الإجابة كل الحقيقة.

- لا يكون المال في مكانه الصحيح مع الآخرين أو العائلات الأخرى.

- لا تضم هؤلاء إلى العائلة: أقارب رجال الشرطة، أقارب رجال غير أوفياء للعهد، شخص سيئ السلوك لا يؤمن بقواعد أخلاقية بعينها.

هكذا يبدو أن تقاليد المافيا لم تمت ربما بسبب تلك القيم التي، على رغم تلوثها بدماء الأبرياء إلا أنها تكشف عن فلسفة خاصة للمافيا تثير الدهشة بصمودها حتى يومنا هذا.

وغداً، حلقة جديدة عن إيطاليا مهد قياصرة الجريمة.

back to top