كل الطرق تؤدي إلى إسطنبول

نشر في 20-10-2010 | 00:01
آخر تحديث 20-10-2010 | 00:01
منذ عهد كمال أتاتورك، التزمت تركيا بـ"مهمتها الأوروبية"، لكن أتاتورك كان رجل تحديث وليس ليبرالياً، إذ إن عبارة "من أجل الشعب، ورغماً عنه" كانت أحد شعاراته، فإن لم تكن العلمانية الكمالية صيغةً للفردية الليبرالية الأوروبية الأسلوب، فمن الواضح أن الإصلاح الإسلامي المعتدل الموجه نحو السوق والذي يعتمده حزب العدالة والتنمية ليس كذلك أيضاً.
 James Traub تركيا تعيش في أبهى حلّتها اليوم؛ فقد نما اقتصادها، الذي لم يكد يتأثر بلسعة الركود العالمي، بنسبة 11.7 في المئة في الربع الأول من العام الحالي، و10.3 في المئة في الربع الثاني. كذلك رعت تركيا- وكأنها إمبراطورية عثمانية بُعثَت من جديد- اتفاقاً ينص على إلغاء تأشيرات السفر بينها وبين سورية، والأردن ولبنان، وها هي تتقدم باتجاه إنشاء منطقة تجارة حرة على حد سواء. لا تُشكل تركيا قوةً في محيطها فحسب، إنما أيضاً قوة متعاظمة في العالم، إذ إنها ستتولى الرئاسة المقبلة لمجلس أوروبا، وتشرف على مجلس التعاون الخليجي، فضلاً عن أنها الصديق الجديد لاتحاد دول جنوب شرق آسيا (الآسيان) و"ميركوسور". في المقابل، تتهافت دول العالم على طرق بابها، وحين كنت في أنقرة الأسبوع الماضي، كان وزير الخارجية السوداني هناك، بينما لم يكن قد مضى وقت طويل على زيارة الفرنسيين، والنمساويين، والبولنديين، ناهيك عن الزيارات المنتظمة لسياسيين عراقيين رفيعي المستوى... أصبحت تركيا بالتالي مُصدّراً بحتاً للخدمات الدبلوماسية، فعلى حد قول سليم ينيل، مساعد وكيل وزير الخارجية المسؤول عن العلاقات مع واشنطن والمتشرّب الثقافة الأميركية: "للمرة الأولى، يسألوننا المشورة".

كانت تركيا في السابق شأنها شأن نظيرتيها، البرازيل وجنوب إفريقيا، القوتين الناشئتين، دولة يمينية استطاع الغرب إخضاعها بشكل آمن خلال الحرب الباردة، وعلى غرار هذين البلدين، يتحلّى الأتراك اليوم بالثقة بالنفس للشعور بأنهم لم يعودوا بحاجة بعد اليوم إلى الانتماء إلى أي كان. تشكّل مثل هذه الدول اليوم قوة بحد ذاتها، كما أثبتت تركيا والبرازيل حين توصلتا إلى اتفاق مع إيران في شهر مايو من العام الحالي للحرص على ألا تنتج طهران وقوداً نووياً صالحاً للاستخدام في صناعة الأسلحة، ما أثار حفيظة واشنطن، والمثير للاهتمام أن تركيا، والبرازيل، ونيجيريا دول أعضاء حالياً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بينما ستنضم جنوب إفريقيا والهند في العام المقبل، ما يشكل مجموعة متحالفة من القوى الناشئة وصورة لعالم متعدد الأقطاب تخطى مرحلة الهيمنة.

مع ذلك، لتركيا أهمية أكبر من الدول الأخرى على الصعيد الدبلوماسي، فوحدها تركيا بلد إسلامي بأغلبيته وواقع في الشرق الأوسط، على مقربة من جميع مناطق الأزمات في العالم. لذلك تبرز أيضاً أهمية التساؤل عن نوع القوة التي ستصبح عليها تركيا. يسارع الدبلوماسيون الأتراك، الذين يعون جيداً أن أنظار العالم مصوبة نحوهم، إلى إعطاء تطمينات بأنهم ليبراليون، علمانيون، والأهم، ذوو نفوذ مسؤول في محيطهم وخارجه.  

لا شك أن ذلك السؤال يطرح نفسه بسبب أحداث الربيع الفائت، حين قدمت تركيا، في خطوات سريعة متعاقبة تثير القلق، الهدية غير المرغوبة والمتمثلة في الاتفاق الإيراني، وصوتت ضد قرار صادر عن الأمم المتحدة وترعاه الولايات المتحدة لفرض عقوبات على إيران، ومن ثم ثار غضبها حين قتلت فرق "الكوماندوز" الإسرائيلي، العازمة على وقف أسطول أبحر من تركيا إلى غزة، ثمانية مواطنين أتراك في سياق عملية فشلت فشلاً ذريعاً. خلفت هذه الأحداث المتزامنة الانطباع السلبي بأن تركيا تنظر إلى إيران كصديقة وإلى إسرائيل كعدوة، ودلت سياسة تركيا "الخالية من المشاكل مع الجيران" على ما يبدو على أنها مستعدة لإبعاد أصدقائها القدامى في الغرب من أجل استرضاء البلدان في باحتها، بما فيها الأسوأ. في هذا الإطار، كتب توماس فرايدمان من صحيفة نيويورك تايمز أن تركيا تبدو عازمة على "الانضمام إلى المقاومة المؤلفة من (حماس) و(حزب الله) وإيران ضد إسرائيل".    

أعتقد أن ذلك اتهام مجحف بحق تركيا؛ ففي موضوع إسرائيل، قال الجميع تقريباً ممن تحدثت إليهم في أنقرة، بمن فيهم أشد منتقدي حزب العدالة والتنمية الحاكم إن الحادثة أثارت غضب الرأي العام إلى حد أنه ما من حكومة كانت ستتمكن من الحفاظ على شرعيتها الشعبية من دون المطالبة باعتذار (بالرغم من أن اضطرار شخصيات أخرى إلى وصف الحادثة بإرهاب الدولة مسألة أخرى). يُشار إلى أن تلك هي المرة الأولى، منذ قيام الدولة العثمانية، كما يُقال دوماً، التي يُقتل فيها مواطنون أتراك على يد جيش أجنبي. في جميع الأحوال، لاتزال تركيا تنتظر ذلك الاعتذار، أما بالنسبة إلى إيران، فمن الواضح أن وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو وفريقه ظنّا بالفعل بأن الغرب سيرحب بالاتفاق الذي وقعاه والذي توافق إيران بموجبه على نقل 1200 كيلوغرام من اليورانيوم إلى خارج البلاد لتخصيبه لأهداف مدنية. لكن واقع أن أوغلو وفريقه أخطآ على الأرجح يعكس تردد الرئيس باراك أوباما في مهاجمة إيران بقدر ما يعكس عجز تركيا عن التمييز بين النبرات أو سذاجتها.

مع ذلك، يقر المسؤولون الأتراك بأنهم عرضوا للخطر هويتهم المميزة الناشئة وعليهم بالتالي اتخاذ خطوات جدية لتقويم الوضع، فقد أخبرني ينيل: "علينا البحث عما يثير الإعجاب". ربما تستطيع تركيا إقناع "حماس" بإطلاق سراح جلعاد شاليط، الجندي الإسرائيلي المُختطَف، وأتمنى لها حظاً موفقاً لها في ذلك. يُذكَر أن رئيس الوزراء رجب طيّب إردوغان تخلى عن انشغاله الواضح بغزة والغدر الإسرائيلي، وقد تصدر إحدى لجان التحقيق التابعة للأمم المتحدة حكماً نهائياً بشأن حادثة الأسطول في مطلع عام 2011 (يلزم إسرائيل بالاعتذار، حسبما تأمل تركيا).   

فضلاً عن ذلك، من الخطأ القول إن تركيا فضلت الشرق الأوسط، أو الإسلام، على الغرب، فلاتزال تركيا مدفوعة بطموحها للحصول على عضوية كاملة في منتدى الغرب، بما فيه الاتحاد الأوروبي، لكنها تطمح إلى أمور كثيرة، وبعضها يناقض الآخر. ترغب في أن تكون قوة إقليمية في منطقة لا تثق بالغرب، أو إسرائيل، أو الولايات المتحدة؛ قوة سنّية تعمل كوسيط عن السنّة في لبنان، والعراق، وأماكن أخرى؛ عضواً مؤسساً في المجموعة الجديدة للقوى الناشئة في أنحاء العالم؛ وحليفاً موثوقاً للغرب. لكن حين تُجبَر تركيا على الاختيار بين هذه الأدوار، فإن اختيارها سيؤول إلى المحيط الذي تعيش فيه، وذلك عند التصويت ضد عقوبات على إيران. ففي قمة منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي عُقدت الأسبوع الماضي في بروكسل مثلاً، أعرب داوود أوغلو عن عدم ثقته بالدفاع الصاروخي، لأن أي نظام سيستهدف بلداناً مثل إيران وسورية، اللتين ترفض تركيا اعتبارهما بمنزلة تهديد.

يشدد المسؤولون الأتراك من جهة أخرى على أنهم يتبنون "المبادئ الكونية" التي تحفز الخطاب العام في الغرب، ولو ليس بالضرورة السياسية، لكنهم يبيحون على ما يبدو لإخوانهم المسلمين انتهاك حقوق الإنسان. فقد برأ أردوغان على نحو مشهور الرئيس السوداني عمر حسن البشير بالقول إن "المسلم لا يمكن أن يرتكب إبادة جماعية". كذلك هنأ علناً الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد على فوزه في انتخابات عام 2009، التي أدانتها جميع البلدان على نطاق واسع لكونها مزورة. يقول الدبلوماسيون الأتراك إنهم يستخدمون لغة صارمة على انفراد، لكن الأنظمة الاستبدادية تقلل من أهمية الاتهامات السرية.

بخلاف الصين أو حتى الهند، لا تستخدم تركيا لغة "السيادة" عند دفاعها عن الأنظمة المنتهكة، إنما تتبنى وجهة النظر "الغربية" عن القانون الدولي. في المقابل، تكمن مشكلتها في المحيط الذي تعيش فيه: فهي لا تستطيع أن تكون قائداً إقليمياً إن تعاملت مع حقوق الإنسان بجدية شديدة، لكن مشكلة تركيا مرتبطة أيضاً بوضع الديمقراطية في البلاد. فبعد مرور ثماني سنوات على تسلم أردوغان السلطة، لايزال الأتراك العلمانيون يشككون في التزامه، والتزام حزب العدالة والتنمية الحاكم، بحقوق الإنسان، والتسامح، وحكم القانون. بالرغم من أن أشخاصاً كثيرين ممن تحدثت إليهم رأوا في الاستفتاء الدستوري الأخير الذي جرى في البلاد، والذي قلّص سلطة الجيش على النظام القضائي فضلاً عن أمور أخرى، دعماً إضافياً للديمقراطية في تركيا، اعتبره كثيرون آخرون مؤامرة خطيرة خطط لها حزب العدالة والتنمية لإحكام سيطرته على الدولة، ويخشى العلمانيون الأتراك بالتالي أن تصبح البلاد ذات طابع محافظ أكثر فأكثر، حتماً في الوسط الأناضولي، إن لم يكن أيضاً في المدن الكبرى.

منذ عهد كمال أتاتورك، التزمت تركيا بـ"مهمتها الأوروبية"، لكن أتاتورك كان رجل تحديث وليس ليبرالياً، إذ إن عبارة "من أجل الشعب، ورغماً عنه" كانت أحد شعاراته، فإن لم تكن العلمانية الكمالية صيغةً للفردية الليبرالية الأوروبية الأسلوب، فمن الواضح أن الإصلاح الإسلامي المعتدل الموجه نحو السوق والذي يعتمده حزب العدالة والتنمية ليس كذلك أيضاً. فالديمقراطية في تركيا لم "تُعزَّز" بعد، على حد تعبير خبراء العلوم السياسية.

تركيا بمنزلة قصة نجاح يملك الغرب جميع الأسباب للترحيب بها، فصورة الاعتدال واللاقومية المتسامحة التي تقدمها لجماهير الشرق الأوسط لا تساهم فحسب في قوة تركيا الناعمة إنما أيضاً في السلام والاستقرار العالميين، أقلّه على المدى الطويل. ذلك سجل موثوق، لكن تركيا غير راضية عن كونها أكثر النجوم لمعاناً في محيطها المعتم، بل ترغب في أن تكون لاعباً على الساحة العالمية. وقد يجبر ذلك الهدف الطموح تركيا على إيجاد توازن جديد بين هوياتها المتناقضة.

back to top