اختبار حقيقي لنوايا إسرائيل
خلال مأدبة عشاء أقامها القادة الأميركيون اليهود على شرف الرئيس الفلسطيني محمود عباس، جلس دبلوماسي أميركي بارز عن يساري وأمين سر منظمة التحرير الفلسطينية عن يميني. أما قبالتي، فجلس عباس، ومع أنني رحت أصغي إلى اقتراحات مثيرة للاهتمام عن السلام، لم أستطع التخلص من شعور داخلي ما انفك ينبئني بحلول كارثة وشيكة.وفيما طفق عباس يشير إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بصفته «شريكه في السلام» ويقول إنه لجرم كبير أن يخفق القادة الفلسطينيون واليهود، همس الدبلوماسي الأميركي وياسر عبد ربه من منظمة التحرير الفلسطينية في أذني أن كارثة مهولة تلوح في الأفق. ذكر عبد ربه: «يمارس نتنياهو الألاعيب».وهكذا عدت من مأدبة العشاء مقتنعاً بأن الولايات المتحدة ستشهد عما قريب فشلاً سياسياً كبيراً. فلم يمضِ شهر بعد على إعطاء الرئيس أوباما الضوء الأخضر لعقد احتفال في البيت الأبيض يسم استئناف المحادثات الإسرائيلية-الفلسطينية، وها هي المفاوضات على وشك أن تنهار. وإذا حدث ذلك، يدرك عباس ونتنياهو جيداً أن أوباما سيبدو كسياسي هاوٍ.يحتاج هذان القائدان كلاهما إلى الولايات المتحدة، وسيشكل هذا الواقع حافزاً يدفعهما إلى العمل على تفادي إذلال أوباما، ولكن مع اقتراب يوم الأحد، موعد انتهاء تعليق بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، بدأ كلا الطرفين بالتمسك بموقفه بعناد. فرغم الالتماس العلني الذي وجهه أوباما إلى نتنياهو، قائلاً: «من المنطقي تمديد تعليق بناء المستوطنات»، رفضت الحكومة الإسرائيلية، على ما يبدو، إقرار تمديد رسمي.لا شك أن هذا خطأ جسيم، وعلى أوباما أن يناضل حتى اللحظة الأخيرة، فمصداقيته الدولية مهددة.بدا عباس أقل تشدداً خلال مأدبة العشاء، معرباً عن تراجعه عن تصريحاته السابقة التي أعلن فيها أنه سينسحب من المحادثات في حال استؤنف بناء المستوطنات. فلم يقل إنه سينسحب، بل أكد أن هذه الخطوة «ستصعّب عليه مواصلة المحادثات». باختصار، سيشكل استئناف بناء المستوطنات صفعة قوية إلى جهود السلام الأخيرة.سأل عباس: لمَ لا يطلب نتنياهو من حكومته الوسطية اليمينية تمديداً لثلاثة أشهر إضافية لأن المحادثات المباشرة بلغت مرحلة دقيقة جداً؟ لا شك أن هذا سؤال وجيه، ولكن قد يرد عليه نتنياهو بسؤال آخر: لمَ انتظر الفلسطينيون حتى قارب تعليق المستوطنات على الانتهاء لاستئناف المحادثات؟ طرح دان مريدور، وزير الاستخبارات والطاقة الذرية في إسرائيل، نظرية مثيرة للاهتمام في هذه الصدد. قال: «يشكّل إنهاء تجميد المستوطنات نموذجاً يحدد مفهوم تقديم التنازلات. فلن يحصل أي من الطرفين على كل ما يبتغيه». يُعتبر هذا الطرح صحيحاً من حيث المبدأ. بيد أن مريدور غفل عن نقطة مهمة. يشكّل هذا القرار نموذجاً يحدد أمراً أعمق بكثير: مدى جدية إسرائيل في سعيها نحو السلام. نعم، سيحدد هذا النموذج ما إذا كانت فكرة إقامة دولتين قد تغلبت على وهم مازال حياً، وهم تأسيس دولة واحدة تستند إلى نبوءات الخلاص وأرض الميعاد «يهودا والسامرة».وإذا كان حل إقامة دولتين سيُطبق، فلا يمكن أن تستمر أراضي الدولة الفلسطينية بالتقلص متراً بعد متر مع توسع المستوطنات. فهذا منافٍ للمنطق.لا شك أن الثلاث والأربعين سنة من تاريخ الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية مؤلم ومدمر, فهو عبارة عن حلقة من القمع القاتل والإرهاب الفلسطيني. في كتاب The Yellow Wind (الريح الصفراء)، يعبّر الروائي الإسرائيلي ديفيد غروسمان (من الضروري قراءة النبذة التي كتبها عنه جورج بيكر في مجلة New Yorker) عن هذه الفكرة، موضحاً: «لا أفهم كيف تستطيع أمة كاملة، مثل أمتي، أمة مستنيرة على كل الصعد، أن تدرب نفسها للعيش كغازٍ من دون أن تحوّل حياتها إلى جحيم».هل يود الإسرائيليون بأغلبيتهم مواصلة تأدية دور السيد الذي يتحكم بشعب آخر؟ أم أنهم مستعدون، بعد الحصول على ضمانات أمنية ملائمة، لاتخاذ خيارات مؤلمة قد تمنح إسرائيل فخراً عظيماً جديداً من خلال إعادتها الكرامة لشعب مجاور؟أعتقد أنهم مستعدون لهذه المخاطرة... فالسلام في النهاية مخاطرة، ولكن على نتنياهو قيادتهم نحو هذا الهدف. إلا أنه لم يقرر بعد القيام بذلك. فلن يعارض هذا السياسي على الأرجح التيار السائد. فما يستشعره راهناً من داخل حزبه، الليكود، وغيره من الأحزاب اليمينية يُنبئه بأنه لا يستطيع تمديد التجميد والحؤول دون انهيار المحادثات.أو هذا ما يبدو. طبعاً، سيلتزم نتنياهو في السر بإبقاء أعمال البناء في الضفة الغربية عند حدها الأدنى، لكن هذا لن يكون كافياً في نظر القيادة الفلسطينية التي قامت بخطوات شجاعة لتعزيز الاستقرار في الضفة الغربية. فهي بحاجة اليوم إلى إشارة تؤكد أن إسرائيل تفهم أن السلام يعني التخلي عن المستوطنات لا توسيعها.يتعاطى عباس بجدية مع مسألة السلام، شأنه في ذلك شأن رئيس وزرائه سلام فياض، الذي بذل مجهوداً كبيراً في الضفة الغربية دفع بالبنك الدولي إلى التصريح هذا الأسبوع: «إذا واصلت السلطة الفلسطينية أداءها الراهن في مجالَي بناء المؤسسات وتقديم الخدمات العامة، فستصبح قادرة على إنشاء دولة في المستقبل القريب». كذلك، اتخذ كلا الرجلين خطوات جبارة للحد من العنف والتنديد به كوسيلة وتأسيس أجهزة أمنية عالية المصداقية. ولا شك أن إسرائيل لن تجد محاورين أفضل منهما.لكن هذه المسيرة تبقى هشة، كما أظهرت التصادمات الأخيرة. لذلك، على أوباما اليوم التعامل مع المتفاوضين بحزم وشدة للحصول على غايته: «نتنياهو، اسمعني جيداً! من المنطقي تمديد تعليق بناء المستوطنات لبضعة أشهر. فهذا يخدم مصالح إسرائيل والولايات المتحدة».