الأنشودة الروسية 
1-2

نشر في 13-10-2010
آخر تحديث 13-10-2010 | 00:01
 زاهر الغافري في صيف عام 1904 وفي مدينة بادن فيلر نطق أنطوان بابلوفيتش تيشخوف بهذه العبارة (Ichsterbr) الألمانية ومعناها: «إنني أموت». كان تيشخوف في الأربعينيات من عمره. في تشييع جنازته سار نفر قليل من أصدقائه ومحبيه، من بينهم الكاتب الروسي مكسيم غوركي. لاحظ غوركي أن جنازة أخرى تُشيع في نفس الساعة، وخلفها تسير أعداد غفيرة من البشر. وعندما تساءل عنها قيل له، إنها جنازة جنرال روسي. امتعض غوركي وتألم لهذه المصادفة القدرية فاعتصره الحزن مضاعفا. سينتظر مكسيم غوركي حتى عام 1936 ليودع العالم هو الآخر، بسبب نفس مرض تيشخوف اللعين: داء السل والاكتئاب.

وعند عودتنا إلى الوراء قليلاً، أي إلى ربيع عام1897 سيولد مسرح موسكو الفني الشعبي، بمبادرة أصدقاء من بينهم تيشخوف، ستانسلافسكي، ودانتشنكو. هذا المسرح هو الذي سيقدم، بإرادة صلبة ووفاء نادر، الأعمال المسرحية العظيمة لتيشخوف. وبعد سنوات كثيرة بعد وفاة تيشخوف سيكتب المنظّر والمخرج المسرحي العظيم ستانسلافسكي ما يلي: «إن مؤلفات أولئك الذين يشكلون علامات الطريق مثل تيشخوف سوف تتخطى الأجيال وليست الأجيال هي التي ستتخطاها».

لكن لنعد إلى غوركي وتيشخوف... من بين المراسلات الفاتنة التي قرأتها، تبرز على وجه الخصوص تلك التي جمعت بين هذين الكاتبين الكبيرين، (النسخة التي أملكها ظهرت لأول مرة بالعربية عام 1953 بترجمة جلال فاروق الشريف)، تمتد هذه المراسلات من عام 1898 حتى 1903 أي قبيل وفاة تيشخوف بسنة واحدة، وبعيداً عن أن هذه المراسلات تحمل قيمة تاريخية واجتماعية لحقبة القياصرة الروس ولكتّاب ومثقفي تلك الحقبة، بعيداً عن هذا، تسطيع تلك الأسلوبية الصريحة في الكتابة عن الذات وعن هواجس وأفكار وتململ مشترك بين الكاتبين. بدأت هذه المكاتبات حينما كان مكسيم غوركي في بداياته الأدبية، بينما كان تيشخوف قد قفز قفزته الكبرى بأعماله التي خلدته سواء كانت في القصة او المسرح منها: طائر النورس، الخال فانيا، الشقيقات الثلاث... الخ. كان غوركي أشبه بالتلميذ بالنسبة لتيشخوف ويكن له احتراماً وتقديراً عاليين، هو الذي كان حديث العهد بالكتابة كما ذكرنا.

يكتب غوركي أولى رسائله عام 1898 «بصريح العبارة أود أن أعرب لك عن المحبة الحارة، الصريحة التي أضمرها لك في نفسي منذ الطفولة... كم من لحظات رائعة عشتها في كتبك، وكم اهرقت فوقها من دموع. كنت أغدو كالذئب المسعور الذي أطبق عليه الفخ، ثم لا ألبث أن أضحك طويلاً وقد غمرني الأسى».

لكن علاقة غوركي بتيشخوف ستتحول في ما بعد، سواء عبر المراسلة أو اللقاءات التي ستجمعها إلى نوع من الندّية والأخوّة الإبداعية دون أن تفتقر بالطبع إلى الاحترام والنبل عند كليهما.

سأفتح هنا قوساً كبيراً للقول إن مراسلات تيشخوف– غوركي هذه تكشف عن ضحالة وضيق أفق المقاربة – خصوصاً لأعمال غوركي- في الأدبيات اليسارية العربية في الخمسينيات والستينيات حتى مطلع السبعينيات من القرن الفائت، إذ اعتبرت أعماله على الدوام، أعمالاً «نضالية» بحصر الكلمة وكأنما كان غوركي الناطق الرسمي بلسان حزب يقود الجماهير إلى الخلاص. والحال أن الصورة ليست هكذا بالمرة، أو على الأقل لم تكن بهذه الفجاجة التي قدمت إلينا. كان غوركي كما تظهر رسائله يكن احتقاراً واضحاً للسطحية والمباشرة في الأدب والفن عموماً، والجدانوفية، بواقعيتها الاشتراكية التي هللت لها نُخب، الانتلجنسيا العربية زمناً باعتبارها وصفة جاهزة من أدب الاتحاد السوفياتي آنذاك، حتى أن بعض هذه النخب نسيت «غيمة في بنطلون» لماياكوفسكي مكتفية بالوصفة الجاهزة، إياها، دون أن تتساءل أبداً، لمَ انتحر الرجل؟

صحيح أن غوركي لمن عرف سيرته الحياتية، سُجن واضطر للإقامة الإجبارية ونفي إلى أمكنة عدة في روسيا الشاسعة، إلا انه لم يذهب إلى اعتبار الأدب وصفة جاهزة تقدم للجماهير. وفي رسائله إلى تيشخوف تظهر على نحو أعمق تلك المرارة وتلك القسوة التي عاشها بصبر أيوب كما يقال. من بين الأشياء التي تظهرها هذه المراسلات، أولاً: روح الصداقة الحقّة والوفاء، الصراحة بين الكاتبين حتى في أشد اللحظات ألماً وخصوصية. ثانياً: روح التضحية التي سادت بين كتاب وفناني روسيا تلك الحقبة، في الوقوف صفاً واحداً ضد أي ظلم أو قهر، يصيب أحدهم من السلطات أو مخافر شرطة تلك الأيام، مثلاً قرر تيشخوف وكتّاب آخرون رفض لقب العضوية الفخرية لأكاديمية العلوم، احتجاجاً على نزع هذا اللقب من مكسيم غوركي بأوامر من القيصر عام 1902.

ثالثاً: روح المبادرة الخلاقة في جمع التبرعات المالية مهما كانت ضئيلة، لمساعدة أي محتاج، حتى لو كان طالباً. ومن المعروف أن تيشخوف وهو طبيب كان يعالج مرضاه من مواطنيه الفقراء مجاناً أو بأسعار رمزية زهيدة، هو الذي كان يمقت عنجهية النبلاء والإقطاعيين والنفاق الإنساني.

back to top