رقصة العاشق

نشر في 25-03-2011
آخر تحديث 25-03-2011 | 00:01
 زاهر الغافري كأنني استيقظت من حلم. كلا! لن تكون هذه النهاية، على الأقل ليس لرجلٍ يسلك دروباً متوحدة، بحثاً عما يضيء أفكاره الداخلية. ليس هذا أوان المفاضلة بين حزمةٍٍ من الإشراقات الكبرى في موشور الحياة. عليك أن تذهب فحسب، لتلقي نظرة صافية على بلاط المحطة.

هناك هي، في انتظارك، كما لم تنتظر من قبل، مواقيت قابلة للفساد من جراء حركة الزمن الرعناء.

عليك أن تذهب دون أن تتفوه بكلمة، دون أن تلتفت الى شرارات الصاعقة وهي تدفعك دفعاً من الخلف. ستكون الحقيقة الى جانبك طالما كان هناك ظلام في الشارع الذي ستسلكه. ما هو قابل للربح ستربحه بعنادٍ شرس.

كلا! لن يكون حلماً هذه المرة. لقد سبق أن رأيتها بعينٍ منحرفة، بمنظور لم يكن -حينها- كافياً، لالتقاط الزخم اللولبي لحركتها السريعة، الضائعة في المكان وبين الوجوه.

آن الأوان لكي تنتصر لحياةٍ ليست على شاكلة الحياة. لن أشير اليها، أعرف أنها هناك.

تلك هي المرأة الشبيهة بالنار والتراب، الراقصة بين أعمدة الهواء والماء.

اذهب وإنْ لم تجدها ينبغي عليك أن تخترع دروباً جديدة لمعرفة قياس المسافات، لإزالة الوضوح الذي يُربك، في وضح النهار، كل عاشق شاب.

عليك أن تبتكر أبواباً ونوافذ يطل منها وجهٌ محفوف بالمخاطر وهو فوق ذلك لا يستقيم إلا على ضوء شمعة. ينبغي أن تضع نصب عينيك، مقداراً هائلاً من الذبذبات وهي تصعد وتنزل بدرجات متفاوتة ومتقاطعة، تلك هي أيضاً حركة التفكير.

أية ارتباكة، أية زلة، أية حركة حمقاء، غير مؤصلة، بثبات في مركز القلب، قد تفسد عليك حرية القول، وتضعك في امتحان، أمام ابتسامة، تحمل على نحو غامض سخريةً لا تطاق.

من المعروف أن العاشق أسير اختلالات عصبية. انصحك بالاقتحام على نحو مباغت لكن شعري.

حسناً، لقد أفلتتْ.

من نظرتك، ومن مكاني البعيد أستطيع أن أخمّن ذلك. فأنت لم تبادر حتى الى إلقاء تلك النظرة على بلاط المحطة، ناصع البياض، لترى ظلها المرسوم، وقفتَها المنتظرة، الاختبارية، على نحو واضح.

كان حماسك الزائد أو ترددك (لا فرق، كلاهما موجع)، خطوة تفتقد الثقل. الاقتحام ينبغي ألا يُرى، أن يكون خفيفاً كريشة تطير في الهواء. والتردد أسلوب العاطلين عن العمل.

كان عليك أن تستفز قوة الخيال من داخلك، أن تدحرجه على نحو غير متوقع، بأصالة ومحبة وأنت تتقدم من الخلف وهي تعطيك ظهرها وشعرها الأسود الطويل ينسرح على كتفيها.

كان يمكن حينها أن ترمي الجملة الأولى وأنت واثق بأن المرأة ستستقبلها كما تستقبل المحارةُ حبةَ رملٍ ثمينة.

- شعرك الأسود شلال من الضوء.

طالما لم يحدث هذا، فليس ينبغي أن تلوم الآن وعلى طريقة الفلاحين، نفسك مدّعياً بأن القطار قد فاتك...

أتريد أن تعيدَ الكرّة.

لا بأس ليكن الأمر إذن كالتالي:

هي واقفة على رصيف المحطة، القطار سيأتي بعد قليل.

إنها تفكر: لمَ تأخرَ، لمَ لمْ يأتِ. كان ينبغي أن أكون أكثر جمالاً من الموت. لقد حلّق بقامته الطويلة، رأيتُ ظله على بلاط المحطة، لكنه لم يكلمني، على الأرجح انه خائف أو جبان أو متردد، ولكي يكون غضبي أكثر تماسكاً مع الطبيعة أهملتُ شعري وتركته هكذا ينسرح، على كتفي.

الملعون لم يعرف أنني لستُ بينيلوب ولا أنسج شيئاً. كنتُ أنتظر فحسب ويداي فارغتان ومهملتان.

أقسم بأنني لم أره، بلى، رأيته قليلاً بعين منحرفةٍ، بمنظور لم يكن حينها كافياً لالتقاط، الزخم اللولبي لحركتهِ السريعة الضائعة، في المكان وبين الوجوه.

وهاأنذا الآن في هذا القطار الذي سيحملني الى محطة أخرى.

من النافذة أستطيع أن أرى الضواحي المترامية، على مد البصر. كان ينبغي أن يأتي لكنه لم يفعل، وعلي الآن أن أخترع مجيئه. وعندما أصل، سأجتاز الزقاق المظلم ذاته، سألتفت الى الخلف، كما لو كنت امرأة ينهشها جوع الماضي.

لن أرى ظلّه، لن أحسّ إلا بريح خفيفة، تطرد أوراق الليل وتعيد كنس تعبي. النافذة مظلمة. النافذة البعيدة تلك مظلمة كحياتي تماماً.

سأفترض أن مطراً خفيفاً يرطّب رصيف المحطة هناك.

واقف على الرصيف، يتأمل حياته كمن يتأمل كنزا ضائعا. أعرف أنه سيجر خطاه الى أقرب مقهى، وسيجلس وحيداً كعادته، رأسه بين يديه، وهو ينظر الى الطاولة ولا يراها.

أما أنا فسأصعد السلّم الخلفي المؤدي الى غرفتي في الطابق السادس، سأصعد وحيدة، سأفتح الباب وأرمي المفتاح على الطاولة.

لن أشعل المصباح، سأرتمي مباشرة على السرير، وأفكر بأنه كان ينبغي أن يكون مجنوناً أكثر، كان ينبغي أن يستيقظ بعين ثالثة، كان ينبغي أن يتسكع بين عالمين، بين محطتين.

كان ينبغي أن يرى طيف المرأة التي هي أنا، المرأة النائمة بجبين من ذهب.

back to top