قراءات يوسف بن عدي... نافذة على المفكّرين العرب
ليس سوى العقل خير قائد في مسيرة الشعوب والأمم. ولا شكّ في أنّ عبور أيّ مجتمع نحو ضفّة العقل يتعرّض لأكثر من صعوبة ولأكثر من انتكاسة، لأنّ العوامل والمؤثّرات الدينيّة والاجتماعيّة والقوميّة والسياسيّة... لا يمكن التفلّت منها بسهولة لوضعها تحت مجهر العقل والمنطق وإعادة صياغتها بما يتناسب مع العصريّ والحضاريّ والإنسانيّ. والعرب مدعوّون إلى ولاية العقل بهدف الانتماء الحقيقيّ إلى الحياة والانتساب إلى رحلة الوجود وهم في زمن مضى زارهم العقل في أكثر من مناسبة ولم يسمحوا له بإطالة الإقامة في ديارهم، ولعلّهم يكونون قد وعوا ألا عودة لهم إلى الحضور والفعل إلا بمعيّة العقل.في «قراءات في التجارب الفكريّة العربيّة المعاصرة»، يفتح الدكتور يوسف بن عدي الباب واسعاً على بداية نشاط العقل في النقد والقراءات والمقاربات الفكريّة عند العرب بكثير من الموضوعيّة والدقّة والشجاعة والمنهجيّة والمعرفة، ويراهن بما كتب على: «رصد طرق اشتغال العقلانيّة النقديّة لدى بعض التجارب الفكريّة العربيّة المعاصرة في دراسة قضايا الفكر العربي»، وقد نجح في اختيار أعلام هم أصحاب حضور فكريّ جدّي ورصين وفي مناقشة نتاجهم وتعيين الخلفيات النقديّة عندهم بوضوح. ولاحظ الباحث أنّ معاني العقلانيّة موجودة عند روّاد النهضة العربيّة الأولى، وكذلك المفردات التي تخصّ العقل، بفضل التأثّر بالغرب حين سقطت نظريّة الحقّ الإلهي في الحكم وعُمِل بفصل الدين عن الدولة، غير أنّ الفكر العربي المعاصر تميّز بنقد تأسيسي مكتوب بخلفيات ثقافيّة متعدّدة وبمناهج متعدّدة أيضاً، والهدف الأوّل هو: «إعادة قراءة الفكر العربيّ والإسلاميّ القديم والحديث والمعاصر قراءات علميّة وأكاديميّة».
عبد الله العروييرى بن عدي أنّ المؤرّخ المغربي عبد الله العروي ينجز قراءته للتراث العربي الإسلامي ليظهر تقصيره النظري والمنهجي في مجاراة الحداثة، ولا حلّ لديه إلا بالتحرّر من التراث على سُنّة أوروبا الحديثة وإنجاز الطلاق مع كلّ ما هو ثقافيّ عربيّ تقليديّ. وقد اختار العروي التاريخانيّة فلسفة ومنهجاً وأيديويوجياً ليواجه الفكر التقليدي المستند إلى التراث والذي عمّق موانع التقدّم للوصول إلى نهضة عربيّة. وبحسب «نقد البديل السلفي» عند العروي يظهر تكريس الميل الانتقائي الذي من شأنه الحفاظ على ما يرتكز إليه المنطق التقليدي. ويرى العروي أن محمد عبده أسير الذهنيّة الكلاميّة المعتقدة بأنّ العقل هو عقل النصّ، ما يعني محدوديّة الفكر العربي والإسلامي من المنظور التاريخاني، ومن هنا دعوته الى الانقطاع عن الموروث التراثي المتحلّق حول النصّ والعلم والمطلق. وبناء على ذلك، لا بدّ من الأخذ بأسباب الحداثة لمواكبة الحضارة الغربية. وفي هذا السياق يشير الباحث بن عديّ إلى أنّ التاريخانيّة تلغي الخصوصيات القومية والثقافيّة والحضاريّة وتضحّي بها لمصلحة الحداثة.محمد عابد الجابريازداد الجدال تصاعداً حول طرح نقد العقل العربي للجابري مع إصداره كتاب «نقد العقل الأخلاقي العربي» سنة 2001، وكتاب «مدخل إلى القرآن الكريم» سنة 2006 وأتى بثلاثة أجزاء. نادى الجابري بنقد العقل ونظامه المعرفيّ، ومكوّناته الأيديولوجيّة والسياسيّة. وهو بذلك يدعو إلى نقد التراث لتحديثه من داخله، وهذا النقد يكون بمثابة قراءة عصريّة أو حداثيّة. وبارتكاز الجابري إلى التراث ينظر إلى منجزات الحداثة فكريًّا وسياسياً واجتماعياً، بعيداً من الانتقائيّة، وبهدف تأسيس رؤية نقديّة تركيبيّة: «فالحداثة في نظرنا، لا تعني رفض التراث، ولا القطيعة مع الماضي، بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى المعاصرة، أعني مواكبة التقدّم الحاصل على الصعيد العالمي». وسعى الجابري إلى إدخال النزعة البرهانيّة الأكسيوميّة إلى الفكر العربي، ودعا إلى عقلنة الأخلاق والعقيدة وإسقاط الطابع السحري عنهما، كذلك دعا إلى تحويل القبيلة تنظيماً سياسياً ومدنياً، والغنيمة اقتصاداً إنتاجيًّا، والعقيدة رأياً.فهمي جدعان عمل المفكّر العربي فهمي جدعان على تأسيس مشروع فكري لنهضة العرب المسلمين. وقد نقد التجارب العربيّة الفكريّة الحديثة وكيفية نظرتها إلى الوقائع الاجتماعيّة والسياسية والثقافية... يدعو جدعان إلى قراءة التراث الإسلامي العربي عن معرفة لا ترهقها الأفكار الأيديولوجيّة الحاضرة التي لا توصل إلا إلى التراجع: «وفي اعتقادي أنّنا هنا بإزاء أبواب من البحث لا تزال موصدة أو أنّه تتحكّم فيها الدعاوى الأيديولوجيّة الجاهزة أو الأفكار السياسيّة المستبقة». ومن وجهة نظر جدعان أنّ التراث موسوم بالدينيّ، والطابع الديني هو المعطي إيّاه هالة القداسة. ولا بدّ من فصل التراث عن «المقدّس» وإظهار فساد العلاقة بينهما. عمِل جدعان بنزعة إنسانيّة تمتاز بالتحرّر من القيود الحزبيّة والسياسية ليرتقي بالإسلام إلى مستوى الحداثة والعالميّة.عبد الإله بلقزيزتُعتبر كتابات المفكّر المغربي عبد الإله بلقزيز حلقة أساسيّة في الكتابات العربيّة المعاصرة وقد ساهمت في ترسيخ مبادئ النقد وإنجاز المراجعة للتراث العربي والإسلامي. وقد هدف بلقزيز إلى صياغة مشاهد عربيّة جديدة تواكب تحوّلات العصر من منطلق احترام الخصوصيّة التاريخيّة. وتتطرّق إلى جدليّة الكوني والخصوصي، أو الغربي والعربي، ورأى خطورة العولمة في حال سطت على خصوصيّة العرب الثقافيّة والحضاريّة، وبحسب بلقزيز، ساهمت العولمة في: «انهيار النظام الثقافي الوطني التقليدي من دون أن يكون في وسع المجتمع العربي أن ينتج بديلاً عنه داخل بنيته الذاتيّة القائمة». أمّا الحداثة في الفكر العربي فلا يمكن التوجّه نحوها إلا باعتماد النظرة الإيجابيّة الى التراث العربي الإسلامي، واعتماد نظريّة التوسّط في معالجة الإشكاليات الفكرية العربيّة المعاصرة.محمد الحداديصنَّف الكاتب التونسي محمد الحداد بين المدافعين عن مبادئ العقلانيّة العربية في شؤون الفكر العربي المعاصر. وقد درس النهضة العربية الأولى نقدياً بالاستناد إلى منهجيات حديثة في السيميولوجيا والسوسيولوجيا... ومن مؤلّفاته: «محمد عبده: قراءة جديدة في خطاب الإصلاح الديني» سنة 2003، و{جمال الدين الأفغاني: صفحات مجهولة من حياته» سنة 1997، و{حفريات تأويليّة في الخطاب الإصلاحي العربي» سنة 2002، و{مواقف من أجل التنوير» سنة 2005... وقد اعتنى الحدّاد بالآليات أكثر من المضامين الأيديولوجيّة، وصاغ سؤاله: «كيف نقرأ الخطاب العربي المعاصر؟»، ولم ينطلق من التراث إلى القراءة، إنّما من إشكاليّة القراءة إلى التراث، ودعا إلى تحديد دور الدين الإسلامي في بنيات المجتمع على أن يصار إلى تأسيس الإصلاح الديني كما في الإصلاح البروتستانتي الأوروبي الحديث، إضافة إلى إسقاط الطابع السحري عن العالم لرؤية الأشياء بحلّتها الدنيويّة الواضحة.رضوان السيّدالانفتاح على الثقافة الغربيّة جعل المفكّر اللبناني رضوان السيد يقرأ النصوص الإسلاميّة بعينين جديدتين. وقد رأى أن أزمة الفكر العربي تندرج في إطار الثنائيات: الأصالة والمعاصرة، التقليد والحداثة، والعروبة والإسلام... ولم يوافق السيد الجابري في رؤيته وهو بنظره: «عندما يعجز يجمع ظواهر متباينة، لأنّ بينها مشتركاً ضئيلاً واحداً، فالتبسيطيّة والتصنيفيّة هذه، هي ميزة هائلة وأساسية وبارزة في كلّ كتبه»... واعتبر السيّد أنّ أزمة العقل العربي هي «أزمة داخل الوعي»، وإذا كان لا بدّ من مجتمع عربي حيّ فعلى العرب تجنّب الانغلاق واعتماد رؤية عقلانيّة تفاعليّة تتّصف بالانفتاح استناداً إلى الوحدة العربيّة، والتجديد والإصلاح، والمشاركة الفاعلة، والمصالحة، وتأسيس مرجعيّة دينيّة إسلاميّة موحّدة تحترم التعدّد...في جديده «قراءات في التجارب الفكريّة العربيّة المعاصرة»، فتح الدكتور يوسف بن عديّ نافذة الفكر العربي على العقل غير متبرّئ من التراث وغير متمسّك بالحداثة على حسابه، إنّما الهدف أن يكون المجتمع العربي الإسلامي حديثاً ومواكباً نبض العصر وهو بكامل أمانته لماضيه، وعليه، فإنّ الحداثة والتراث لا يتعارضان إذا كان العقل صاحب الدعوة إلى لقائهما.