أم كلثوم... السيرة والأغاني - السيرة الشخصية (الحلقة السابعة) من الإنشاد إلى احتراف الغناء وتشكيل أول تخت موسيقي منحت وزارة الأشغال منيرة المهدية جائزة الدولة التقديرية للغناء النسائي عام 1926 رغم بروز أم كلثوم
كان الانتقال من الإنشاد الديني إلى احتراف الغناء بكل أشكاله وألوانه، يفرض على أم كلثوم الاستعانة بتخت موسيقي من العازفين المهرة، القادرين على أداء الألوان الجادة التي كانت أم كلثوم تؤسس عليها بدايتها الفنية القوية.ولم يكن أمر ذلك بالغ السهولة، ليصبح في متناول يدها بمجرد اتخاذ القرار المناسب. ومع أن محمد القصبجي لم يكن حتى ذلك الحين قد أخرج إلى الملأ مكامن عبقريته الموسيقية (مع أنه ولد في سنة واحدة مع سيد درويش – 1892 ومع أن سيد درويش كان عند وفاته في عام وصول أم كلثوم إلى القاهرة 1923 قد أنجز ثورته الموسيقية الكبرى التي أسس بها مدرسة القرن العشرين في الموسيقى العربية)، إلا أنه كان، على الأقل، قد اكتسب سمعة كبيرة في الأوساط الموسيقية الجادة، باعتباره عازفا متميزا على آلة العود، يسيطر على آلته بتقنية بالغة التقدم بالنسبة لذلك العصر، كما اشتهر باعتباره أحد الموسيقيين القلائل الذين كانوا يجيدون – في ذلك الوقت المبكر- قراءة وكتابة النوتة الموسيقية، الأمر الذي رشحه ليكون رئيس أول فرقة موسيقية تخصصت بمرافقة أم كلثوم في تسجيل الاسطوانات وفي الحفلات الغنائية الأولى.
ومع أن عازف القانون الكبير محمد عبده صالح شكل فيما بعد ثنائيا شهيرا وعظيما مع عود محمد القصبجي (وانتقلت قيادة فرقة أم كلثوم الموسيقية من القصبجي إليه في عقدي الخمسينيات والستينيات)، فانه كان في ذلك الوقت المبكر عضوا في الفرقة الموسيقية للنجم الصاعد الآخر محمد عبد الوهاب. أما مقعد عازف القانون في أول فرقة موسيقية لأم كلثوم فكان يحتله محمد العقاد، المعروف بلقب العقاد الكبير، والذي كان يعزف القانون في تخت عبده الحامولي.ولم تكن أم كلثوم تحلم بموسيقي متمكن غزير العلم والموهبة، ذي سيطرة تامة على آلته، أفضل من محمد القصبجي ليكوّن لها فرقتها الموسيقية الأولى ويقودها في التمارين وفي استديو التسجيل وعلى المسرح. وذلك كان الدور الأول الهام لمحمد القصبجي في تثبيت أقدام أم كلثوم في دنيا الاحتراف ذات الدروب الوعرة والمسالك الشائكة والمزالق والمطبات التي لا حدود لها.أما دور القصبجي الهام الثاني، فقد كان اتخاذه موقع الأستاذ والمعلم، استمرارا لما بدأه أبو العلا محمد في تلقين أم كلثوم أسرار المقامات العربية والسكك المقامية المعقدة. والقصبجي كان واحدا من أعظم الخبراء في تلك الأسرار. كما تابع، عن أحمد صبري النجريدي، بتعليم أم كلثوم فنون العزف على آلة العود. ذلك كان الدور الثاني الذي أداه محمد القصبجي، في تلك المرحلة التأسيسية في حياة أم كلثوم.أما الدور الثالث، وهو أعظم الأدوار، وأبعدها وأعمقها أثرا في حياة أم كلثوم، في البداية كما في النهاية، فكان دور الملحن المجدد الذي بقي منذ عام 1925 وحتى أوائل الأربعينيات صاحب البصمات الأبرز في تكوين ملامح التجديد والتجدد في فن أم كلثوم الغنائي، وفي أداء أم كلثوم الصوتي، كما سنرى بمزيد من التفصيل في القسم الثاني من الكتاب.ومع أن معظم الكتابات في هذا الموضوع بالذات، يجعل مونولوج “إن كنت أسامح وأنسى الأسية” الذي ظهر في عام 1928، البداية الحقيقية لدور القصبجي في تأسيس وتلوين فن أم كلثوم الغنائي بالألوان الجديدة الباهرة، فالحقيقة التاريخية تؤكد أن عبقرية القصبجي التجديدية قد ظهرت مع أول لحن وضعه لأم كلثوم في عام 1925، هو لحن “إن حالي في هواها عجب” الذي سنكتشف عندما نصل إلى التحليل التفصيلي للتراث الكلثومي لمحمد القصبجي أنه أقرب إلى مزاج وأجواء المونولوج منه إلى أجواء ومزاج القصيدة الغنائية، مع أن شعر الأغنية مكتوب بالفصحى.التربع على عرشمنيرة المهديةوالحقيقة أنه بعد أن رسّخ أبو العلا محمد أقدام أم كلثوم في فن القصيدة الغنائية، الأمر الذي سيكون له أثر بالغ الروعة والعظمة في فن أم كلثوم في مراحله المتقدمة بعد ذلك (خاصة مع القصبجي والسنباطي)،فقد جاء دور القصبجي ليرسخ أقدام أم كلثوم مبكرا جدا في فن المونولوج الغنائي، وهو الفن الذي كان القصبجي يؤسس له في ذلك الزمن المبكر، عندما عثر على حنجرة أم كلثوم العظيمة، ويتنافس في الإبداع فيه مع محمد عبد الوهاب، سنوات طويلة قبل انضمام رياض السنباطي إليهما في الإبداع من خلال هذا الشكل الفني الجديد تماما على الموسيقى العربية الكلاسيكية.وقد بلغ من سرعة الأثر الذي أحدثه هذا الفتح الجديد في الموسيقى العربية بالحان محمد القصبجي وصوت أم كلثوم، أنه في سنة 1928، السنة الحاسمة التي انتزعت فيه أم كلثوم صولجان الغناء النسائي من منيرة المهدية وفتحية أحمد، فإن منيرة المهدية كانت قبل انسحابها الكبير واخلائها التدريجي لساحة الغناء النسائي لأم كلثوم، تعيد ترديد ألحان القصبجي لأم كلثوم، وعلى رأسها المونولوج الشهير “إن كنت أسامح”، مما دفع السيد منصور عوض، مدير شركة اسطوانات جرامافون، إلى إقامة دعوى قضائية ضد منيرة المهدية، لمنعها من استغلال لحن هذا المونولوج في حفلاتها المسرحية.غير أن هذا لا يعني أبدا أن ما تحقق لأم كلثوم في نهاية العشرينيات قد تم بسهولة ويسر، فالسنوات الممتدة ما بين 1925 و 1928، وما شهدته من حصر المنافسة الجادة والقاسية بين فتحية أحمد ومنيرة المهدية من جهة وأم كلثوم من جهة ثانية، تستحق دراسة منفصلة مطولة ومعمقة، ومستندة إلى أدق التفاصيل المثبتة حتما في الصحافة اليومية لتلك السنوات، إضافة إلى الصحف الفنية والمجلات الأسبوعية، ذلك أن الصراع لم يكن يدور فقط بين صوت جديد وصوتين قديمين (أو أصوات قديمة)، ولكنه كان يشمل، إضافة إلى ذلك، تفاعل وتصادم قيم اجتماعية جديدة مع قيم قديمة، وذوق فني جديد وجاد يحاول فرض نفسه اتصالا بتقاليد الفن الكلاسيكي الراقي للقرن التاسع عشر ومواصلة لهذه التقاليد بروح عصرية، في مواجهة مرحلة أدت فيها التقلبات السياسية والاجتماعية الحادة إلى طغيان الفن الترفيهي على الفن الكلاسيكي في سياق يحمل كثيرا من مواصفات اللون الترفيهي – الاستهلاكي الذي ساد ويسود الغناء العربي في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، وهو تشابه يزيد من حاجتنا لدراسات تفصيلية جادة ومعمقة لظاهرة الصراع بين كلاسيكية أم كلثوم وعبد الوهاب الجديدة من جهة، وبين ألوان الغناء الترفيهية التي كانت مسيطرة في مطلع القرن العشرين من جهة ثانية، وذلك سعيا وراء فائدة مزدوجة في فهم لتكرار دورات متشابهة في حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية، في فترات زمنية مختلفة. جائزة الدولةنكتفي هنا بتغطية الخلاصة النهائية في ذلك الصراع الثقافي الفني، فنؤكد أن النصف الثاني من عقد العشرينيات في مطلع القرن العشرين، قد شهد عملية غربلة وتصفية لعشرات الأصوات النسائية والرجالية، الجاد منها والأقل جدية والمنعدم الجدية، أمام ظهور نجمي الكلاسيكية العربية الجديدة في الغناء: أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب. وفي مجال الغناء النسائي بالذات، تقول لنا أخبار صحف تلك الأيام، أنه حتى عام1926، كانت كفة فتحية أحمد هي الراجحة على كفة منيرة المهدية وأم كلثوم، وقد راج في تفسير أولوية فتحية أحمد أنها تجمع بين حلاوة الصوت والتحكم بالقفلة، إضافة إلى القدرة على التلحين. أما جائزة الدولة لفن الغناء، التي كانت وزارة الأشغال في عام 1926 لمنيرة المهدية.أما سبب ربط مسؤولية الدولة عن قطاع فن الغناء والموسيقى بالذات في تلك الأيام بوزارة الأشغال العمومية، فتؤكد معلومات ذلك العصر أن كل دور المسرح الكبيرة التابعة للدولة (بما في ذلك دار الأوبرا القديمة) كانت أعمال الصيانة فيها والمحافظة عليها منوطة بوزارة الأشغال العمومية، الأمر الذي جعل الوزارة تشمل بمسؤوليتها الفنون التي تقدم في تلك المسارح.غير أن تلك الومضات في تفضيل النقاد لفتحية أحمد، ومنح جائزة الدولة لمنيرة المهدية، كانت على ما ثبت فيما بعد، بمثابة الجولة ما قبل الأخيرة في ذلك المخاض الثقافي والاجتماعي التاريخي.ولا بد في هذا المجال من التذكير بأن عوامل جانبية تدخلت في تسريع عملية انسحاب منيرة المهدية بالذات من ميدان المنافسة، أهمها ظهور منيرة المهدية إلى جانب محمد عبد الوهاب في مسرحية “كليوبترة ومارك أنطونيو”، التي كان سيد درويش قد لحن فصلها الأول كاملا قبل رحيله، وبدأ بتلحين أقسام من الفصل الثاني، لحساب منيرة المهدية. فلما قررت استكمال ما بدأه سيد درويش، بعد وفاته بثلاث سنوات، التجأت إلى النجم الجديد الصاعد، تلميذ سيد درويش النابغ صوتا ولحنا، محمد عبد الوهاب.وكان سقوط منيرة المهدية مدويا في تلك المسرحية، وإن كان النقاد لم يلتقطوا يومها السبب الحقيقي لسقوط منيرة المهدية ونجاح عبد الوهاب، وهو تراجع زعيمة النمط الغنائي السائد أمام بزوغ نجمي الغناء الكلاسيكي العربي الجديد أم كلثوم وعبد الوهاب، فظلوا يصرون على البحث عن أسباب أخرى لتفسير ذلك السقوط، ولم يهدهم خيالهم إلا إلى البحث عن “مؤامرة” فنية مزعومة حاكها عبد الوهاب للقضاء على منيرة المهدية، بحيث خص نفسه بالألحان القوية في المسرحية، وتعمد أن يخص منيرة المهدية – في مقابل ذلك- بأضعف الألحان.ومن المفارقات الدرامية لتلك الحادثة التاريخية، أن مكابرة منيرة المهدية في عدم الاعتراف بمسؤوليتها المباشرة عن ذلك الفشل المدوي، قد دفعتها إلى فسخ ارتباطها بعبد الوهاب في تلك المسرحية، وتابعت تقديمها بمشاركة فتحية أحمد، التي كانت تقوم بدور كليوبترة، بينما احتفظت منيرة المهدية لنفسها بدور أنطونيو، تأكيدا لاعتقادها بأن عبد الوهاب قد خص هذا الدور بالالحان الأقوى في المسرحية. وكأن منيرة المهدية كانت بذلك تقدم عملا سيجله التاريخ في ما بعد على أنه “الموقعة” التي انسحب فيها الصوتان القديمان (منيرة المهدية وفتحية أحمد) أمام الصوتين الجديدين اللذين يمثلان بامتياز الكلاسيكية العربية الجديدة في الغناء. وقد ظل هذا الهاجس النقدي “التآمري” مسيطرا على ساحة النقد سنوات طويلة بعد ذلك، بدليل أنه عندما عرض عبد الوهاب على زكي مراد أن تشاركه ابنته ليلى فيلمه الجديد “يحيا الحب” الذي تم إنجازه في عامي 1936 و 1937، كاد زكي مراد أن يحرم ابنته من تلك الفرصة الذهبية، لأن عقدة فشل منيرة المهدية أمام عبد الوهاب قبل عشر سنوات كانت ما زالت متحكمة به، مما دفعه إلى تخيل قيام عبد الوهاب بحياكة “المؤامرة” نفسها على صوت ابنته الصاعدة ليلى. ولم يبدد مخاوف زكي مراد تلك سوى قيام عبد الوهاب بإسماعه الألحان التي صاغها لصوت ليلى مراد، سواء في الأغنيتين الفرديتين (يا ما أرق النسيم، ويا قلبي ما لك كده حيران)، أو اللحنين الثنائيين لصوته وصوت ليلى مراد (طال انتظاري، ويا دي النعيم). وقد سقطت بالنتيجة العملية بقايا حكاية تآمر عبد الوهاب على منيرة المهدية، بعد أن جاء فيلم “يحيا الحب” بالحان عبد الوهاب ذات النكهة الجديدة لصوت المطربة الصاعدة ليلى مراد، إنجازا فنيا كبيرا لعبد الوهاب (بين مجموعة إنجازاته الكبيرة) اكتشف من خلاله الطبيعية الرومانسية في صوت ليلى مراد، وهو ما لم يفعله الملحنون الكبار الذين لحنوا لها قبل عبد الوهاب، وهو الاكتشاف الذي فجر كل مواهب ليلى مراد وأفسح لها مكان الصدارة في فن الأغنية السينمائية العربية النسائية. استشهدنا بهذه القصة البعيدة عن حياة وفن أم كلثوم، لنلقي مزيدا من الضوء على طبيعة الصراع الذي أججه ظهور قطبي الكلاسيكية العربية الحديثة في الغناء، أم كلثوم وعبد الوهاب. وهو كما رأينا تجاوز الحدود الضيقة للصراع الشخصي، كما توحي بعض الكتابات، إلى حدود الصراع الثقافي والحضاري والاجتماعي.ولعل خير ما نختتم به صورة تلك المرحلة الانتقالية الحاسمة في حياة أم كلثوم الشخصية والفنية، استعادة لوحة ذلك المنعطف التاريخي كما رسمها قلم شيخ النقاد العرب في القرن العشرين كمال النجمي في كتابه الذي يحمل عنوان “الغناء المصري”:“وللشعب المصري طريقة خاصة في الغناء أهملها المغنون المحترفون مئات السنين، فعاش الشعب يغني لنفسه، بينما المطربون المحترفون يغنون للسلاطين والأمراء والمماليك ثم الباشوات العثمانيين.ولم يهمل المغنون المحترفون طريقة الشعب فقط، بل أهملوا كذلك طريقة الغناء العربي القديمة التي حدثنا عنها كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، وهي الطريقة التي كانت تضع الكلام واللحن في وعاء واحد، فلا يعبر الكلام عن معنى واللحن عن معنى آخر.. وكانت لهذه الطريقة ضروب وأوزان ونغمات شتى.ومضت القرون، فماتت طريقة الغناء العربي في مصر، وانحصرت طريقة الغناء المصري الشعبي في ركن بعيد، لا يغشاه المطربون الكبار المحترفون الذين وضعوا أنفسهم في خدمة الطبقات الحاكمة الوافدة من خارج مصر، والمنعزلة عن فن الشعب وذوقه وطريقة حياته، فضلا عن جهلها بالغناء العربي القديم جملة وتفصيلا.التأثير العثمانيولكن يقظة الشخصية المصرية بعد الثورة العرابية مهدت الطريق أمام المحاولات الأولى التي بذلت للخلاص من الصراخ العثماني الأجوف، والبحة الغجرية البدائية.ثم جاءت ثورة 1919، فجعلت من المستحيل استمرار الغناء العثماني والغجري الذي تشكلت على أساسه حناجر المطربين والمطربات في تلك الأيام.والذي يستمع الآن إلى الاسطوانات التي تركها مطربو تلك الأيام، يخيل إليه أنه يستمع إلى بعض المطربين الأتراك أو الإيرانيين أو الغجر الرحل التائهين في البلاد العربية. وإن رنة حناجر هؤلاء المطربين ليست مصرية ولا عربية، وطريقة نطقهم تختلف عن طريقة النطق الفصيحة والعامية. وتستطيع أن تتبين ذلك بسهولة إذا استمعت إلى أشهر مطرب في الربع الأول من القرن العشرين وهو سلامة حجازي، وإلى أشهر مطربة وهي منيرة المهدية. وعلى منوالهما ينسج جميع المطربين والمطربات في ذلك الزمن. وقد بوغت هؤلاء جميعا بانقضاء مرحلتهم التاريخية، وبزوغ مرحلة تاريخية جديدة يتخلص فيها الغناء المصري من جرثومة الغناء العثماني والفارسي والغجري، التي أفسدت أوتار الحناجر كما أفسدت الأذواق.وحمل الشيخ أبو العلا محمد- أستاذ أم كلثوم- لواء الأداء العربي الصميم في الغناء، وحمل معه اللواء عدد من المشايخ الموهوبين، أتيح لهم أن يستوعبوا الموشحات القديمة التي جمعها الشيخ شهاب الدين في مصنفه الذي اشتهر باسم “سفينة شهاب” (..)وقد صحبت حركة بعث الغناء العربي، حركة بعث الفلكلور المحلي، والغناء الشعبي المصري، وكان سيد درويش في مقدمة هذه الحركة الفنية الشعبية. وبنجاح الحركتين معا، اكتمل التعبير عن روح الشعب المصري بفن الغناء والموسيقى. وبعد هذا النجاح الساحق للغناء العربي والغناء المصري الشعبي، أصبح مستحيلا أن تستمر طريقة الغناء العثماني والغجري، إلا عند عدد محدود ممن وقفوا في وجه العاصفة التاريخية. إلا أن هؤلاء غنوا لأنفسهم أكثر مما غنوا للناس، ثم طواهم الزمان.هذا المنعطف التاريخي الذي وصفه كمال النجمي بعبارات تساوت فيها الصراحة القاسية بالدقة والوضوح، اكتمل الحسم فيه بالنسبة للأصوات النسائية بين 1928 و1930، فبدأ الأمر باستسلام منيرة المهدية (زعيمة مرحلة ما قبل أم كلثوم في الغناء النسائي) ليس فقط أمام جمال وقوة صوت أم كلثوم، بل أمام الفن الجديد الذي حمله صوت أم كلثوم بالحان أبو العلا محمد من القصائد التقليدية اللحن الخارجة من رحم التجويد القرآني والتوشيح الديني، والحان محمد القصبجي الحاملة على صوت أم كلثوم كل بذور التجديد في اللحن والاداء، على قاعدة عربية كلاسيكية وباستيعاب صحي وواضح لفنون الأوبرا الإيطالية (كما سنرى في القسم الثاني من الكتاب)، فبدأ هذا الاستسلام بقيام منيرة المهدية بترديد اشهر الحان القصبجي الجديدة لأم كلثوم وأكثرها تطورا (إن حالي في هواها عجب، وإن كنت أسامح)، ثم انسحبت تدريجيا من عالم الغناء. أما نجمة الغناء الثانية فتحية أحمد فلم تعتزل، بدليل أننا بقينا نستمع إليها حتى عقد الأربعينيات في الحان منفردة لزكريا أحمد وفريد الأطرش وسواهما، غير أن ظهورها تحول، بعد أن أسلس المستمعون العرب (في مصر وخارجها) قياد آذانهم لأم كلثوم، من ظهور دائم ومكثف، إلى ظهور متقطع لعقدين من الزمن، ما لبث أن تحول في النهاية إلى انسحاب كامل، خاصة بعد أن اندفعت أم كلثوم بعد الثلاثينيات في تفجير طاقات فرسانها الثلاثة محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي، في خط مواز لتفجر الطاقات اللحنية والصوتية للنجم الآخر محمد عبد الوهاب، الأمر الذي اقفل الباب تماما أمام نجوم المرحلة السابقة، وعلى رأسهم في الرجال المطرب الكبير صالح عبد الحي، لإصراره على التمسك بالأسلوب التقليدي للغناء.وإذا كان انسحاب فتحية أحمد التدريجي، قد خفف كثيرا من الملامح المأسوية لانسحاب تلك الفنانة ذات الحنجرة الممتازة على عجز في استيعاب روح الكلاسيكية الجديدة في الغناء العربي، فأن الشخصية العنيدة والمكابرة لمنيرة المهدية قد أضفت مسحة مأسوية حقيقية على اعتزالها، خاصة عندما قامت بعد ذلك بمحاولتين يائستين بائستين للعودة عن الاعتزال. كانت المحاولة الأولى في عقد الثلاثينيات بعد اقتحام كل من عبد الوهاب وأم كلثوم عالم السينما بأفلام غنائية، كانت تزيد من تلميع نجوميتيهما وإقبال الجماهير عليهما. فقامت منيرة المهدية بإنتاج وتمثيل فيلم “الغندورة” الذي سقط سقوطا ذريعا، في مقابل نجاح جماهيري تاريخي لأفلام عبد الوهاب وأم كلثوم. أما المحاولة الثانية، والأكثر مأسوية، فكانت في عام 1947 (بعد عقدين من مسرحية “كليوبترة ومارك أنطونيو”)، أي عندما كان صوت منيرة المهدية قد انتهى فنيا، وتشبعت الأذن العربية في مصر وسائر الأقطار العربية بمنجزات رائعة للكلاسيكية العربية الجديدة في الغناء بصوتي أم كلثوم وعبد الوهاب. يومها كان بعض اللاعبين الصغار في الكواليس الفنية الخلفية يحاولون إيهام منيرة المهدية بأن باستطاعتها العودة إلى منافسة أم كلثوم، وأن الجماهير ستزحف لسماعها، وأن أم كلثوم ستشعر بالغيظ وتقاطع الحفلة.ولكن ما حدث كان العكس تماما، في مجمله وتفاصيله، فقد تقبلت أم كلثوم بترحاب دعوة منيرة المهدية، وهي تضع يدها على قلبها خوفا من العواقب التي كانت تدركها بعقلها وبتجربتها. وتحققت مخاوف أم كلثوم عندما بدأت منيرة المهدية بالغناء بصوت بلغ سن الشيخوخة والترهل، فخرج صوتها مصحوبا بالحشرجة والنشاز. ولما التفت مرافقو أم كلثوم إليها يتوقعون رؤية علامات الشماتة أو الانتصار في وجهها، رأوا بدلا من ذلك الدموع تسيل على خدها بهدوء، وصمت، وكأنها لا ترثي فقط لشيخوخة فنانة ملأت الدنيا وشغلت الناس ذات يوم، بل كأنها تتخيل شيخوختها هي في سنوات لاحقة.ولكن ذلك المشهد لم يكن سوى الشعاع الأخير الباهت لعصر من الفن الهجين الملتبس، كان قد غرب قبل ذلك بعقدين كاملين، عندما أشرق عصر الكلاسيكية العربية الجديدة، المتجذرة عميقا في تربة الكلاسيكية العربية القديمة المتمثلة في إبداعات القرن التاسع عشر، وفي تراث الإنشاد الديني المتراكم والمنتصب عبر العصور، خزانا للوجدان الموسيقي والغنائي، وللذوق الموسيقي والغنائي للعرب، والمحلقة إلى آفاق المستقبل بأجنحة من المواهب الاستثنائية في التلحين والغناء، وأم كلثوم واحدة من هذه المواهب العبقرية الاستثنائية، بكل تأكيد. أم كلثوم فــي القــاهــرة (3)سلم المجد الفني والارتقاء الاجتماعيما أن أستنب الأمر لأم كلثوم، مع نهاية عقد العشرينات، وهدأت من حولها أعاصير الحروب الشخصية والفنية، حتى شاءت ظروفها الشخصية أن تقرن بداية عصر الاستقرار في حياتها الشخصية والفنية، بيداية عهد الاستقلال في حياتها الأسرية، فقد توفي والدها في التاسع عشر من شهر إبريل /نيسان سنة 1931.ويمكننا الاستنتاج، من غير أي مبالغة، بأن تطورا مؤكدا كان قد طرأ على طبيعة العلاقة بين أم كلثوم ووالدها الشيخ إبراهيم، بين المرحلة الريفية ومرحلة السنوات القاهرية السبع الأولى (سنوات الانتقال والصراع وتثبيت الموقع). فإذا كان الاحترام الأبوي التقليدي من ابنة لأبيها في عائلة ريفية محافظة قاسما مشتركا مؤكدا في علاقة أم كلثوم بوالدها في المرحلتين الريفية والقاهرية، فأن كل ما عدا هذا الاحترام التقليدي داخل النطاق الأسري المغلق، قد طرأ عليه من غير شك تحول هام بين الريف والقاهرة، بالذات فيما يخص شؤون احتراف الغناء. ومن المنطقي الاستنتاج هنا أن سلطة الأب العائلية ظلت تشمل المجالين العائلي والفني طوال الفترة التي كانت فيها أم كلثوم (حتى بعد انتقالها إلى القاهرة) ملتزمة بأداء الإنشاد الديني، وذلك لأسباب عديدة، لعل أبرزها أن الشيخ إبراهيم، إلى جانب صفته الأبوية، كان يمارس دور «المايسترو» الحقيقي في فرقة الإنشاد الديني التي كانت أم كلثوم نجمتها المتألقة.أما عندما انتقلت أم كلثوم إلى العالم الواسع لاحتراف الغناء (بموافقة والدها)، فكل شئ يوحي بأن سلطة والدها الفنية عليها أخذت في التراجع المتدرج، إلى حد التلاشي أو ما يدانيه، أمام عاملين متكاملين:سرعة نضج الشخصية الفنية لأم كلثوم، على أيدي أستاذها الأول أبي العلا محمد، وملحنيها الثلاثة الأوائل (أبو العلا والنجريدي والقصبجي).تحول الشيخ إبراهيم البلتاجي من «مايسترو» حقيقي في فرقة الإنشاد الديني، إلى مجرد مستمع أو ربما مردد في الكورس المصاحب لأم كلثوم، عندما اكتمل انخراطها في عالم الغناء المحترف. إلى أن جاء القدر يكمل بوفاة الشيخ إبراهيم البلتاجي في عام 1931، عملية انسحابه التدريجي من موقعه كموجه فني لأم كلثوم. بعد أربع سنوات من رحيل أستاذها الأول الحقيقي في فن الغناء، الشيخ أبو العلا محمد.ومع ما يعنيه هذا التحول في حياة أم كلثوم من بلوغها درجة من النضج واستقلال الشخصية، فأنها كانت ما تزال في بداية سلم المجد الفني وسلم الارتقاء الاجتماعي. وكلا المجالين، الفن والمجتمع، كان يشكل في القاهرة محيطا واسعا لا بد لمن يريد ولوج أعماقه، أن يستعين بمن يأخذ بيده سنوات طويلة، يقوم بتدريبه وتوجيهه، إلى أن يشتد عوده.لذلك فان حاجتها السابقة إلى مساندة والدها في المرحلة الريفية وفي السنوات القاهرية الأولى، قد تحولت في عقد الثلاثينيات إلى حاجة إلى نوع من المساندة أكثر اتساعا وأشد تعقيدا. وهنا برز عدد من الأشخاص في حياة أم كلثوم، لعب كل منهم دوره بامتياز طيلة فترة ارتقائها المتدرج لسلم المجد الفني، وسلم الارتقاء الاجتماعي، إلى أن اكتمل نضجها الفني والاجتماعي، وبلغت أعلى درجات السلمين، فاستوت على قمة الفن وقمة الهرم الاجتماعي، مع انتصاف عقد الأربعينيات.وبينما كان دور أحمد رامي محددا بالمرشد الثقافي البالغ الفعالية والخصب، والمتفرغ لكتابة الأشعار الغنائية الراقية والجديدة المطلوبة، سواء بالعربية الفصحى أو العامية الراقية، فأن دور أسرة عبد الرازق وأصدقائها (خاصة الشيخ مصطفى) قد استمر في مجال المساندة الاجتماعية.أما في مجال التلحين، وهو الأهم بلا جدال في حياة أم كلثوم بالذات، فقد عاشت أم كلثوم مرحلة بالغة الأهمية والخصوبة والغنى، قبل لقائها الفني الكبير برياض السنباطي وتشكيلهما ذلك الثنائي المدهش في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة. وقد بقيت مرحلة ما قبل السنباطي مهملة ومظلومة على كل الأصعدة، لأنها الأقدم والأبعد عن الذاكرة، ولأن التوسع الإعلامي في مجال الإذاعات وتطور آلات التسجيل وتطور التغطية الصحافية، كان قد بلغ درجات عالية من التقدم والانتشار في المرحلة التالية السنباطية، بينما كانت كل تلك الوسائل الإعلامية والسمعية، في أضيق مجالاتها في المرحلة السابقة.ويتركز غنى تلك المرحلة(1930-1945)، بعدة عوامل هامة في حياة أم كلثوم:أن صوتها كان يعيش في تلك المرحلة أعظم أيام اتساع مساحاته بين القرار الأدنى والجواب الأعلى، على شيء من الحدة الصوتية في البداية، ولكن هذه الحدة كانت تتحول من سنة لأخرى إلى ليونة مهذبة مشذبة، مع الاحتفاظ بالاتساع الأغنى للطبقات الصوتية المرتفعة والمنخفضة.أن القسم الأول من هذه المرحلة شهد نشاطا هائلا في تسجيل الاسطوانات، قبل توسيع أم كلثوم لنشاطها في نظام الحفلات الشهرية (وهو نشاط سيحظى منا في هذا الكتاب بوقفات مطولة ومفصلة لما شكله في حياة أم كلثوم، وحياة الذوق الفني لملايين المستمعين العرب من قيمة كبرى). وللتسجيل داخل الأستوديو على اسطوانات قيمة فنية أخرى، تختلف في نوعيتها، كما سنرى، عن نوعية القيمة الفنية في الحفلات الحية. بدليل أن عملاق القرن العشرين الآخر، محمد عبد الوهاب، قد انصرف منذ نهاية الثلاثينيات عن الحفلات الغنائية الحية، التي كان من نجومها الكبار (بدليل حفلته الحية المتأخرة في العام 1954، التي قدم لنا فيها مستوى رفيعا من فنون الارتجال الغنائي في أغنية “كل دا كان ليه”). ومن أسف، أن الثروة الغنائية الكلثومية المسجلة على اسطوانات في تلك المرحلة(1930-1945)، أقل شهرة وانتشارا بين جمهور المستمعين والمتذوقين (وحتى عند كثير ممن يتصدون للنقد الموسيقي)، من تسجيلات مرحلة الحفلات الشهرية.أن ثلاثة من فطاحل الملحنين قد وضعوا في تلك المرحلة خلاصة عبقريتهم الموسيقية، وخلاصة خبرتهم في التلحين، في خدمة الصوت النسائي العبقري القادم من أعماق الريف إلى القاهرة، وهم محمد القصبجي وداود حسني وزكريا أحمد.يجدر بنا عند هذا المنعطف الجديد الأهم في حياة أم كلثوم، التوقف قليلا للإشارة إلى ظاهرة هامة قسمت حياة أم كلثوم الشخصية والفنية، منذ استقرارها في القاهرة، إلى مرحلتين متمايزتين: المرحلة الأولى التي كانت أم كلثوم فيها “تلميذة” في الفن، تتعامل مع ملحنين فطاحل، يتجاوزونها سنا وخبرة فنية، والمرحلة الثانية التي تحولت فيها أم كلثوم (بحكم الخبرة الفنية والشهرة والأمجاد الشخصية والفنية)، إلى “أستاذة”، تتعامل مع ملحنين كبار، ولكن بمزيد من الندية والتساوي في البداية، وبدرجة من السيطرة في النهاية، مع بعضهم على الأقل. وإذا كنا سنتطرق بتفاصيل كاملة إلى أثر هذه الظاهرة في المراحل المختلفة لفن أم كلثوم، في القسم الثاني من الكتاب عند عرض ملامح السيرة الفنية لأم كلثوم، فإننا نقف هنا وقفة سريعة أمام هذه الظاهرة، لتبيان أثرها العام على شخصية أم كلثوم وحياتها.وأهمية هذه الوقفة تتركز في محاولة استكشاف المركز الرئيسي للقرار الفني في مختلف مراحل حياة أم كلثوم، إذ أنه لا شك بأن هذا المركز كان ينتقل من شخص لآخر، كلما تقدمت أم كلثوم نحو مرحلة جديدة في حياتها الشخصية والفنية.فقد لاحظنا مثلا أن صاحب القرار الأول والأخير فيما كانت أم كلثوم تقدمه من فن طيلة المرحلة الريفية، التي اقتصرت عموما على الإنشاد الديني، كان والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي.إلياس سحاب