في وداع صغيري الكبير!


نشر في 02-09-2010
آخر تحديث 02-09-2010 | 00:01
 تركي الدخيل ماذا صنعت بنفسي؟! بقي بضع ساعات على سفر ابني الكبير ـ الصغير عبدالله في طريقه لدخول مدرسة داخلية في كندا، وهو ابن ثلاثة عشر ربيعاً.

خلال أكثر من تسعة أشهر وأنا أرتب لسفره، بعد أن اقتنع بالفكرة، لكن الأمر الآن بدا كما لو كنت أسعى بيدي لحتفي!

هل دبرت بيدي ما يؤذيني؟!

لا أضحك حتى أستلقي إلا عندما يطلق عبدالله سخريته على الأشياء والناس من حوله. إنه ساخر من طراز عالٍ، وبصبغة إنسانية.

لديه قدرة عجيبة على إطفاء نيران الحرائق التي قد تشب عندي أو عند أمه بسبب ما نعتبره خطأً أو تقصيراً أو تجاوزاً، بطرفة هنا، أو نكتة هناك، تصل إلى حد السخرية من نفسه.

قال له أحدنا يوماً: الشرهة عليك. فرد فوراً: «أنا مستغرب منكم أنتم عقلاء كيف تشرهون علي وأنا ما ينشره علي»! انفرطنا في ضحك أنسانا القصة وبلل الغضب بالندى.

كنا متجلدين سوياً، أمه وأنا، مي ذات الأعوام العشرة، وعبدالعزيز ذو السبعة أعوام.

صباح اليوم بكت مي حتى خفت عليها، ولم تجد أدفأ حضناً من عبدالله الذي ضم شقيقته وأنا أتابع المشهد كأبله. يتابع عبدالعزيز بإدمان، ثم يعلق: أنا بكيت أمس!

كنت قد أحضرت «لابتوب» لعبدالله، ففتحه بلهفة في الصباح وقال كالعادة، بعد أن طبع قبلتين على جبيني ويدي: كثر خيرك يا بابا. رائع، مع أني قلت لك أني ما احتاجه. كان ما كلفت حالك يبه. اثر ذلك كان عبدالعزيز ينتهز لحظات يسرقها من متابعة جديد عبدالله، فينقلب وجهه الصغير كتلة من ألم، وتغرورق عيناه بدموع يسعى لإخفائها جاهداً، ناديته وسألته: لم تبك؟! ظننت أن ذلك بسبب حصول عبدالله على كمبيوتر محمول جديد، وهو لم يحصل على مثيل له! قال لي: أبكي لأن عبودي بيروح لكندا! قلت له: لكنك لم تبك قبل أن أعطي عبدالله اللابتوب! قال: الحين حسيت أنه صدق بيسافر!

حسناً يا صغاري... أتسوطونني مجدداً؟! لأني رافع راية القرار المؤلم بسفر عبدالله!

تتجلد أشواق، حتى أزف السفر، فتنتابها نوبات بكاء تجاهد لإبقائها خاصة بها، وتنفجر مرة تحت تأثير اللحظة: ربيت ابني حتى إذا أوشكت أن أقطف زهرته انتزعته مني. ولسان حالها قول المتنبي:

لا تعذل المشتاق في أشواقه

حتى يكون حشاك في أحشائه!

تبعث لي برسالة عبر الموبايل: الله يربط على قلبي. فتنساب قصة موسى: «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا».

أتراني أضع صغيري بيدي في اليم؟!

سألت عبدالله أول ما برقت الفكرة عن رأيه. ألقى بسخريته فقال: مستعد للذهاب شرط أن لا يفرضوا علينا «يونيفورم» قلت له: ما مشكلتك مع الزي الرسمي؟! قال لي: أحس بأن الطلبة جملة من الجرسونات في مطعم كئيب يا بابا. ثم إن اليونيفورم يقتل الإبداع والابتكار في انتقاء الملابس لدى كل فرد.

قلت له: أبوعابد، إذا أحببت شيئاً سقت له المبررات تلو المبررات، وإن لم تحبه جمعت عذاريب الدنيا فيه. ابتسم وقال: مشكلتي أن أبوي فاهمني.

انتقلنا للحديث الجاد. سألني: لماذا تريد أن ترسلني لمدرسة داخلية في كندا؟!

قلت له: لم يقصر والدي معي. لكني أحاول أن أفعل معك ما أتمناه لنفسي. لم تكن الدراسة في الخارج ضمن خارطتي أنا ووالدي. الظروف مختلفة يا بابا، وأنا أريد أن أحقق لك ما لم يتحقق لي.

أجاب على الفور: توكل على الله يا بابا.

ظننت أني سأحتاج إلى وقت أكبر في إقناعه. تحولت الأيام التالية بانسيابية إلى خوض في إجراءات الحصول على موافقة الكلية، ومهر الجوازات بالتأشيرات.

لم يؤلمني شيء كعبارة زوجتي: هل أنا أنتزع ابنها من مزرعة قلبها؟!

أردت بعد تلك الكلمة أن أناقشها، وليتني لم أفعل. قالت لي: تزوجت صغيرة. قضيت معظم حياتي متغربة في مدن لا أعرف فيها أحداً. أطفأت غربتي بقربي من أطفالي، إنهم لي أهلي وأصدقائي. لماذا تريد أن تبث في الغربة من جديد؟!

أحياناً يقول المرء ما لو سكت عنه لجنب نفسه شروراً. بالأمس ونحن على مائدة الإفطار، قلت لعبدالعزيز. هاه أبوالعز، مستعد تلحق عبدالله؟! متى تبي تروح تدرس بكندا. أشار بثقة إلى السنة الرابعة. انخرطت أشواق في بكاء ثم لجمت دموعها من جديد. وأنا أتمتم:

إن القتيل مضرجاً بدموعه

مثل القتيل مضرجاً بدمائه!

قلت لعبدالله قبل يومين: ألم يخالج إصرارك على السفر شك؟ ألم يخطر ببالك أن تتراجع؟

رد: حصل هذا بنسبة واحد في المئة. لكني كنت أدفعه بأني سأذهب إلى هناك، وأعزز نفسي، ستكون خياراتي بيدي. هذه فكرة أتشوق إليها.

بعد اثنتي عشرة ساعة سنركب طائرة تبتعد بكبيري وصديقي عبدالله إلى حيث حياة جديدة. سأفتقد التعليقات الساخرة. وأرجو أن أنتظرها بعد أشهر وهي أكثر سخرية وأعمق نضجاً... إنها فسحة الأمل التي نلجأ إليها، ولولاها لقتلنا الضيق:

أعلل النفس بالآمال أرقبها

ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.

back to top